in

تخيل ماذا قد يحدث لدى تفجير قنبلة نووية في الفضاء؟

صورة لانفجار نووي من الفضاء الخارجي

إن تفجير قنبلة نووية هو أمر سيء للغاية بصفة عامة، لكن هناك ما هو أسوأ من مجرد تفجيرها، ففي أوائل ستينات القرن الماضي كان كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية مشغولين جدا بمحاولة اكتشاف ما قد يحدث لدى تفجير قنبلة نووية في الفضاء الخارجي.

كانت الإجابة على ذلك السؤال أمرا لم يكونوا يتوقعونه، حيث أن بإمكان انفجار نووي أن يتسبب في موجة كهرومغناطيسية على ارتفاع شاهق، أو ما يعرف بالـ(إي أم بي) EMP اختصارا لـElectromagnetic Pulse، وهو انفجار للطاقة الكهرومغناطيسية من صنع الإنسان الذي بإمكانه ببساطة شديدة أن يعصف بجميع الاتصالات هنا على الأرض.

أول قمر صناعي تطلقه الولايات المتحدة الـ(إكسبلورير 1)
أول قمر صناعي تطلقه الولايات المتحدة الـ(إكسبلورير 1) – صورة: من موقع ويكيميديا

لقد كانت تلك طريقة جديدة كليا لاستعمال القنبلة النووية، وهو الأمر الذي كانوا قد اكتشفوه عن طريق الصدفة، حيث بدأ الأمر كله في سنة 1958 عندما أطلقت الولايات المتحدة أول أقمارها الصناعية (إكسبلورير 1)، فقام العالم لدى وكالة (ناسا) (جاميس فان ألان) بتجهيز القمر الصناعي بعداد (جايجر) Geiger، لأنه كان يرغب في قياس الإشعاعات على ارتفاعات مختلفة، وهو المشروع الذي كان قد بدأ العمل عليه مسبقا باستخدام البالونات.

العالم لدى وكالة (ناسا) (جاميس فان ألان)
العالم لدى وكالة (ناسا) (جاميس فان ألان) – صورة: من موقع ويكيميديا

كانت النتائج والقراءات التي عاد بها القمر الصناعي وبثها حول الإشعاعات على ارتفاعات مختلفة غريبة نوعا ما، حيث بدا وكأن مستويات الإشعاعات كانت تزداد مع الارتفاع أكثر، ثم تنخفض فجأة إلى نسبة الصفر، ثم تعاود الارتفاع، ثم تنخفض مرة أخرى إلى نقطة الصفر.

أظهرت المزيد من الاختبارات أن القراءات التي بدت كأنها في نقطة الصفر لم تكن في الواقع سوى بسبب كون مستويات الإشعاعات مرتفعة جدا بحيث لم يتمكن حتى العداد من قياسها.

في ذلك الربيع، أدرك (فان ألان) أنه قد اكتشف أمرا جديدا كليا: وهو أنه يوجد على الأقل حزامان حول الأرض بين 10 آلاف و60 ألف كيلومتر في الجو التي تحتوي على كثافة زائدة من الجزيئات المشحونة على غرار الإلكترونات والبروتونات، ويطلق اليوم على هذه الأحزمة بـ(أحزمة فان ألان)، كما أصبحنا اليوم نعلم أنها تتكون في الأساس من جزيئات مصدرها الرياح الشمسية والأشعة الكونية التي ثبتت مكانها حول الأرض بفعل الحقل المغناطسي الخاص بالأرض، كما بتنا نعلم كذلك أنه وفقا للنشاط الشمسي، لا بد أن هناك أكثر من مجرد حزامين إثنين هناك في الأعلى.

أحزمة (فان ألان)
أحزمة (فان ألان) – صورة: من موقع ويكيميديا

في شهر مايو من نفس السنة، قدم (فان ألان) اكتشافه هذا في مؤتمر صحفي انعقد لدى الأكاديمية الوطنية الأمريكية في العاصمة (واشنطن)، وفي وقت لاحق من نفس اليوم، طلب منه الجيش الأمريكي تقديم المساعدة في تفجير سلاح نووي على مستوى الأحزمة التي كان قد اكتشفها، حيث كان مسؤولون في الجيش الأمريكي يشتبهون في كون السوفياتيين يجرون تجارب نووية على علو مرتفع، وفي ذلك الوقت لم يكن أحد يعلم كيف سيكون انفجار نووي على علو مرتفع مختلفا عن انفجار نووي هنا على الأرض، أضف إلى ذلك أن أحزمة (فان آلان) كانت قد أضافت عنصرا جديدا إلى هذه المعادلة لأن الانفجارات النووية تطلق العنان لكم هائل من الجزيئات المشحونة، وعلى مستوى أحزمة (فان ألان) توجد الكثير والكثير من هذه الجزيئات المشحونة بنسب أكثر.

أحزمة (فان ألان)
أحزمة (فان ألان)

كان الأمريكيون متخوفين من أن تتسبب التداخلات والتشويشات التي قد تحدثها أحزمة (فان آلان) في حجب صواريخ محتملة تستهدف الأراضي الأمريكية، أو أنها قد تستعمل من طرف العدو -الاتحاد السوفييتي آنذاك- في تنفيذ هجوم نووي عليها، لذا قرروا تبعا لذلك تعلم المزيد حول السلوكات التي تنتهجها التفجيرات النووية على ارتفاعات عالية عبر تفجير البعض منها وقياسها.

خلال هذه التجارب النووية أتت النتائج بقياسات إشارات كهربائية عالية جدا لدرجة جعلتهم يعتقدون أن ما تلك إلا محض صدف أو أخطاء سببها خلل وعطل ما في الأجهزة التي كانوا يستخدمونها، لكن كان عليهم التريث لبرهة من الوقت لمعرفة واكتشاف حقيقة ما كان يحدث فعلا.

في وقت لاحق من تلك السنة، نادى الاتحاد السوفييتي بحظر التجارب النووية على ارتفاعات عالية، وهو الأمر الذي وافقت عليه الولايات المتحدة على الفور، ثم في سنة 1961، بدأ الاتحاد السوفييتي بإجراء تجاربه النووية الخاصة على الارتفاعات العالية على كل حال، وسرعان ما واصلت الولايات المتحدة تجاربها الخاصة في نفس الميدان هي الأخرى، بما في ذلك تجارب عرفت باسم (ستارفيش برايم) أو ”نجم البحر الرئيسي“.

كانت ”نجم البحر“ أول قنبلة هيدروجيينية بشرية يتم تفجيرها على علو مرتفع، حيث انفجرت على ارتفاع 400 كلم في سماء نقطة إطلاقها بالقرب من جزيرة (جونستون) في المحيط الهادي، كما كانت كذلك أكبر قنبلة يتم تفجيرها في الفضاء بصفة عامة.

موقع إطلاق وتفجير قنبلة (نجم البحر الرئيس).
موقع إطلاق وتفجير قنبلة (نجم البحر الرئيس).

كان حجم هذه القنبلة يتجاوز حجم قنبلة (هيروشيما) بمائة ضعف، مع قوة تفجير تساوي 1.4 مليون طن من متفجرات الـTNT، لكن مع قدر أقل من الهواء من حولها لم تتسبب هذه القنبلة في كرة نارية كما عهدنا القنابل الهيدروجينية والنووية عليها، وبدل ذلك تسببت الجزيئات المشحونة الصادرة عن ”نجم البحر“ في أضواء شفق -تشبه أضواء الشفق القطبية أو الأضواء الشمالية كما يطلق عليها- ضخمة وعالية في السماء لدرجة كان بالإمكان مشاهدتها من على بعد آلاف الكيلومترات من جزيرة (جونستون).

أضواء الشفق التي تسببت قنبلة (نجم البحر) في إحداثها
أضواء الشفق التي تسببت قنبلة (نجم البحر) في إحداثها.

أحدث هذا التفجير حالة طوارئ في جزيرة (هاواي) التي كانت تبعد آلاف الكيلومترات عن موقع التفجير ولم يكن سكانها يعلمون ما كان يجري بالفعل.

أضواء الشفق التي تسبب قنبلة (نجم البحر) في إحداثها
أضواء الشفق التي تسبب قنبلة (نجم البحر) في إحداثها – صورة: من موقع ويكيميديا

تبع إطلاق الصاروخ الذي فجر ”نجم البحر“ إطلاق 27 صاروخا صغيرا من أجل جمع البيانات -حتى مع كونها لم تكن مجهززة بما يكفي لقياس ما كان قد حدث بالفعل-.

الصواريخ الصغيرة التي أطلقت بعد تفجير قنبلة (نجم البحر) من أجل قياس تأثيراتها ومستوى الإشعاعات التي تسبب فيها
الصواريخ الصغيرة التي أطلقت بعد تفجير قنبلة (نجم البحر) من أجل قياس تأثيراتها ومستوى الإشعاعات التي تسبب فيها – صورة: من موقع ويكيميديا

ما اكتشفه الأمريكيون آنذاك هو أن القياسات العالية جدا التي أتت بها التجارب السابقة الذكر لم تكن مجرد أخطاء أو محض صدف أو بسبب خلل في المعدات، فقد كانت التفجيرات النووية على علو مرتفع مختلفة جدا بكل بساطة.

بالقرب من حافة الفراغ التي تمثل الفضاء الخارجي هناك في الأعلى، ترسل الطاقة الصادرة عن انفجار نووي الكثير من الالكترونات الحرة، وتخلق هذه الالكترونات موجة كهرومغناطيسية وجيزة لكن قوية للغاية، التي تسببت في حالة ”نجم البحر“ في التأثير على تدفق التيار الكهربائي هنا على الأرض على بعد آلاف الكيلومترات من جزيرة (جونستون)، مما تسبب بدوره في انقطاع تام وشامل للطاقة الكهربائية واضطرابات في مناطق متفرقة من جزيرة (هاواي)، كما تسبب كذلك في عزل وتعطيل ستة أقمار صناعية، وهذا مع كون الانفجار قد حصل في منطقة منعزلة نسبيا.

اليوم قد يستعمل سلاح الـ(إي أم بي) EMP في تعطيل وعزل دولة كاملة، فقد قدرت لجنة كلفت بدراسة هذا السلاح في سنة 2008 أن هجوما من هذا النوع قد يتسبب في مقتل 90 بالمائة من سكان الولايات المتحدة في غضون إثني عشر شهرا فقط، ذلك أن معظم نمط الحياة في أمريكا يعتمد على الأقمار الصناعية والشبكات الكهربائية.

محطة التجارب العسكرية في جزيرة (جونستون)
محطة التجارب العسكرية في جزيرة (جونستون) – صورة: من موقع ويكيميديا

أجرى الجيش الأمريكي بعض التجارب الإضافية التي تلت تجارب ”نجم البحر“، لكنه أبقى على الأمور أصغر بكثير، كما أن البيانات الخاصة بهذه التجارب ما تزال سرية للغاية ولا يسمح لأي كان بالاطلاع عليها.

فقط بعد عام من ذلك اقترح الاتحاد السوفييتي التوقف عن إجراء التجارب النووية على علو مرتفع مجددا، وهو الاقتراح الذي أفضى إلى ”معاهدة حظر التجارب المحدودة“ في سنة 1963، ولم يقم أي من الطرفين بتفجير قنابل نووية في الفضاء منذ ذلك اليوم.

لذا، وفي النهاية، كانت البشرية على حق وكانت مخاوفها من تفجير قنابل نووية في الفضاء مبررة جدا، لكن ذلك كان فقط بعد أن اصطدمت عن طريق الخطأ بطرق لجعل تأثيرات ما بعد الانفجار ذات ضرر أعظم وأكثر فتكا.

مقالات إعلانية