هنالك الكثير من الحدود في العالم، حدود سياسية تفصل بين البلدان وحدود جغرافية تفصل بين معالم الأرض المختلفة، ومن بين هذه الحدود نجد الفضاء الخارجي الذي يعتبر آخرها وأبعدها.
بالطبع، كانت الولايات المتحدة أول دولة تخترق هذه الحدود وتعبرها وصولا إلى القمر، وسواء صدقت بنزول الإنسان على القمر أم لا، فقد حدث ذلك في جميع الأحوال في سنة 1969، وبعد الهبوط الناجح على سطح القمر، قررت الولايات المتحدة الأمريكية الاستمرار في كونها الأفضل في الفضاء.
بشكل أساسي، كان الأمريكيون يريدون أن يثبتوا بأن الإنسان بمقدوره العيش لفترات طويلة في الفضاء، وكان هذا التحدي عبارة عن تمهيد وتحضير لمهمة نحو غزو المريخ التي كان من المقرر المضي فيها في سنة 1989.
في سنة 1973، أطلقت وكالة ناسا مهمة Skylab، أو ”مختبر السماء“، في صاروخ Saturn V، وكان مختبر السماء هذا في جوهره عبارة عن مختبر داخل محطة فضائية تم تصميمه وبنائه لاحتواء مجموعة من رواد الفضاء، الذين كان التحدي الممتثل أمامهم هو تحطيم الرقم القياسي فيما يتعلق بأطول مدة يقضيها الإنسان في الفضاء.
كان مختبر السماء مترفًا بحق، حيث كانت مساحته 145 مترًا مربعًا وكان لا يتضمن سوى على 3 أشخاص، ومنه فقد كان أكبر مساحة من معظم الشقق في مدينة نيويورك.
صمم مختبر السماء من أجل إجراء تجارب علمية في الفضاء الخارجي، لكن على مستوى آخر تماما، حيث كانت المهمة في مجملها تجربة لاختبار المدة القصوى التي يمكن للبشر أن يعيشوا فيها بصورة طبيعية في الفضاء.
صمم المختبر من الداخل ليُشعر رواد الفضاء فيه بالراحة وكأنهم في منازلهم قدر الإمكان، حيث كان لكل واحد فيهم غرفة نومه الخاصة به، وكانوا يتناولون وجباتهم مع بعضهم البعض في جو اجتماعي حول طاولة واحدة.
أطلق على مهمة مختبر السماء الأولى اسم Skylab 2 وهو اسم غريب بالطبع بالنسبة لمهمة أولى. وقد طار على متنها فريق رواد الفضاء الأول في الخامس والعشرين من مايو سنة 1973 وبقوا في مدار الأرض لمدة 28 يومًا، وبعد ذلك بفترة وجيزة أطلقت مهمة Skylab 3 الثانية في الثامن والعشرين من يوليو والتي دامت لفترة أطول: 59 يومًا، ثم جاءت المهمة الثالثة Skylab 3، التي كانت الأخيرة والأطول مدة من بين جميع المهمات.
انطلقت هذه المهمة في السادس عشر من نوفمبر سنة 1973، وحتى قبل وصول رواد الفضاء إلى المحطة، كان جدولهم الزمني للمهمات التي كان من المفترض أداؤها حافلاً للغاية، وكانت كلها عبارة عن تجارب أرادت وكالة ناسا إكمالها قبل إغلاق مشروع Skylab إلى الأبد.
كان كل يوم يقضيه رواد الفضاء على تلك المحطة يكلّف 70 مليون دولار، وكان جدول مهمات الفريق مقسمًا ليس بالساعات أو حتى بالدقائق، بل بالثواني، بالتحديد 30 ثانية للمهمة الواحدة، وقد كانت كل ثانية يقضيها كل واحد من رواد الفضاء الثلاثة هناك في مدار الأرض على محطة مختبر السماء تكلّف 270 دولارًا. لك أن تتخيل عزيزي القارئ كم يكلف قضاؤهم لحاجاتهم هناك.
كان من المخطط لمهمة Skylab 4 أن تبقى في المدار لمدة 84 يومًا، وعلى الرغم من أن مدة المهمة كانت طويلة نوعًا ما، فقد كانت أيام رواد الفضاء وجداولهم الزمنية ممتلئة عن حدها، تماما مثل جداول رواد الفضاء في المهمتين السابقتين اللتان كانتا أقصر مدة منها.
ظل طاقم رواد الفضاء في هذه المهمة يعمل دائما طوال الأيام الأربعين الأولى بدون استراحة ولو ليوم واحد، وذلك من أجل مجاراة الجدول الزمني الحافل الذي ألقي على عواتقهم.
وكان جميع العلماء –من ميادين مختلفة– في وكالة ناسا يضغطون كل بطريقته الخاصة على مركز التحكم في المهمة من أجل السهر على أن يتم إنجاز تجاربهم قبل انقضاء مدة المهمة وغلق مشروع مختبر السماء إلى الأبد، وبدورها، كانت قيادة المهمة تلقي بكل ذلك الضغط الكبير على عاتق طاقم رواد الفضاء وتدفعهم للعمل لساعات إضافية أكثر فأكثر.

في نقطة ما، أدرك رواد الفضاء أنهم نالوا كفايتهم، وأنه لم يكن بوسعهم تحمل المزيد، فقد كانوا في الواقع بحاجة للمزيد من الوقت من أجل نيل قسط من الراحة.
على الرغم من أن مركز التحكم في المهمة كان يحضر يومًا حافلا بالأعمال لطاقم رواد الفضاء، فإنه في يوم 28 ديسمبر 1973، أوقف الطاقم تشغيل الراديو وكل وسائل الاتصال بالأرض واسترخوا ليوم كامل، فيما صار يعرف على أنه أول إضراب عن العمل في الفضاء.
في الواقع، كان ليوم الإضراب عن العمل هذا فائدة كبيرة على التجارب، حيث كانت البيانات التي جمعت بفضله ذات نفع كبير فيما يتعلق بالمدة التي يمكن للبشر فيها العيش في الفضاء.
مثلما اتضح لاحقًا، حسّن هذا الإضراب عن العمل من إنتاجية وإبداع طاقم الرواد، وعلى الرغم من أنهم كانوا متأخرين عن أداء مهاهم وإنجازها في زمنها المحدد بعدة أيام، فإنهم تمكنوا في الواقع من إنهاء كل تجربة مقررة في الزمن المحدد، وذلك بعد أن رفعوا من مدة فترات الراحة بعد المفاوضات مع قيادة المهمة في الأرض خلال الإضراب.
استخدمت وكالة ناسا ما تعلمته من هذه المهمة من أجل تحسين التخطيط لمهمات مستقبلية، وقد صارت اليوم تفرض فترات استراحة إجبارية على رواد الفضاء في محطة الفضاء الدولية.
بالعودة إلى الماضي، يبدو من غير الواضح كيف حدث هذا التمرد في الفضاء، وبدون شك، لم تمر الحادثة مرور الكرام، ذلك أن رواد الفضاء وجدوا أنفسهم في مشكلة بمجرد عودتهم إلى الأرض، حيث لم يسمح لأي منهم بالطيران مجددا إلى الفضاء.
ظلت ناسا تعتم على هذه الحادثة الفريدة من نوعها، وكانت المعلومات التي صرحت بها للعالم حول حيثيات أول إضراب عن العمل في الفضاء قليلة وشحيحة.
بينما من المؤكد أن طاقم رواد الفضاء في مهمة Skylab 3 قد دخل في إضراب عن العمل ليوم كامل مطالبا بالمزيد من فترات الراحة، فإن البعض يقول بأن فقدان الاتصال الراديوي مع مركز التحكم في المهمة هنا على الأرض كان بشكل أساسي بسبب فشل الرواد في برمجة اتصالاتهم بالشكل اللائق، بينما قال آخرون، ومعظمهم وسائل الإعلام، بأن رواد الفضاء فعلوا ذلك عمدا لإثارة غيض القائمين على التحكم في المهمة وقيادتها.
وسواء كان الأمر عمديا أم لا، فإنه في عين القانون يخضع الفضاء لقانون البحر، ووفقاً لمعاهدة هيئة الأمم المتحدة لقانون البحار، فإن تعريف القرصنة يأتي كالتالي: ”أي أعمال غير قانونية من العنف أو الاحتجاز على متن سفينة“، وهو ما قام به رواد الفضاء هؤلاء بالضبط، حيث احتجزوا سفينة الفضاء التي كانوا على متنها مما يجعلهم أول قراصنة فضاء يعرفهم العالم.