in

ما سبب ارتفاع معدلات الانتحار في اليابان؟

شاب ياباني

في عام 2014، أقدم أكثر من 25000 شخص على إنهاء حياتهم في اليابان، أي 70 شخص كل يوم بغالبية عظمى من الرجال، صحيح أن هذه الأرقام لا تجعل من اليابان صاحبة أعلى معدل انتحار في العالم بين الدول المتقدمة، فذلك اللقب المريع راح لكوريا الجنوبية في تلك السنة، لكنها لا تزال أرقاماً كبيرة جدًا، إذ سبق وأن وصلت لـ34 ألف حالة في عام 2003، أعلى بكثير من جميع البلدان الغنية الأخرى.

فما السبب الذي يجعل بلداً مثل اليابان يملك هذه النسبة المرتفعة؟

مأساة القطار

ما أعاد الاهتمام مرة أخرى لهذه القضية في الصحف عام 2015 هو وفاة مُسن ياباني في الـ71 من العمر بعدما أضرم النيران في نفسه ليلقى حتفه أمام ثلة من الناس، حيث قيل إنه وبينما كان يرش الوقود فوق جسده أبعد المسافرين الآخرين وأخبرهم بخطورة الأمر والمكان، كما قال البعض إن الدموع كانت في عينيه وهو يقوم بذلك، فما الذي يدفع رجلاً مسنًا طيبًا لإغراق نفسه بالوقود وإشعال النار في نفسه ضمن مقصورة مكتظة في قطار مسرع؟

عندما بدأ البحث في خلفية وتاريخ هذه الرجل قام أعضاء في وسائل الإعلام اليابانية بنشر تفاصيل حكايته، عاش هذا الرجل بسيطًا وحيدا وبدون وظيفة، قضى أيامه في جمع علب الألمنيوم وبيعها لغرض إعادة التدوير، وذكر الجيران للصحفيين أنهم سمعوه يحطّم النافذة بعد أن حُبس عالقًا خارج شقته المتداعية لسبب ما، قال آخرون إنهم نادراً ما رأوه خارجًا، لكنهم كانوا يسمعون صوت التلفاز خاصته دائما.. مسكين مسن ووحيد، كانت قصته مألوفة للغاية.

الخلفية التاريخية

يقول (واتارو نيشيدا)، عالم النفس بجامعة (تيمبل) في طوكيو: ”العزلة هي المقدمة الأولى للاكتئاب والانتحار“، ويضيف: ”أصبح من الشائع الآن قراءة قصص عن كبار السن الذين يموتون وحيدين في شققهم بعدما يتم إهمالهم.. اعتاد الأطفال على رعاية آبائهم في سن الشيخوخة في اليابان، لكن ليس بعد الآن“.

كثيراً ما يُرجع الناس سبب ارتفاع معدل التقليد الياباني القديم المتمثل في ”الانتحار المشرّف“، إذ يشيرون إلى ممارسة الساموراي المتمثلة في القيام بفعل الـ(هارا كيري)، أو (السيبوكو)، أو للطيارين الشباب الكاميكازي الذين فجروا أنفسهم وطائراتهم في مواقع للعدو في عام 1945، فيعللون أن هنالك أسباباً ثقافية مميزة تجعل اليابانيين أكثر عرضة لسلب حياتهم بأيديهم.

اليابان
الكثير من وفيات المسنين في اليابان قد تكون عبارة عن حالات انتحار.

يوافق السيد (نيشيدا) إلى حد ما ويقول: ”ليس لليابان تاريخ في اعتناق المسيحية، لذا فالانتحار ليس خطيئة في نظرهم. في الواقع، ينظر البعض إليه كسبيل لتحمل المسؤولية“.

يوافق (كين جوزيف) العامل في خط المساعدة الياباني ويقول إن تجربتهم على مدى السنوات الأربعين الماضية تظهر أن كبار السن الذين يعانون من مشاكل مالية قد يرون الانتحار وسيلة للخروج من مشاكلهم، ويُكمل: ”نظام التأمين في اليابان متساهل للغاية عندما يتعلق الأمر بدفع التأمين في حالات الانتحار“، ويستطرد (نيشيدا): ”يشعر بعض الناس أنه يمكنك قتل نفسك وسوف يدفع التأمين التعويض والتكاليف عندما يفشل كل شيء آخر.. في بعض الأحيان يكون هناك ضغط لا يطاق على كبار السن فيعتقدون بأن أفضل الأشياء التي يمكنهم القيام بها هي إزهاق حياتهم لتقديم ما هو مفيد لعائلاتهم“.

الضغط المالي

لهذا السبب يعتقد بعض الخبراء أن معدل الانتحار في اليابان أعلى بكثير مما يرد في التقارير، حيث لا يتم التحقيق بدقة من قبل الشرطة في الكثير من حالات الوفيات بين كبار السن، ووفقًا لـ(كين جوزيف) فإن الممارسة المتبعة بحرق الجثث تعني أيضًا أن أي دليل سيتم محوه بسرعة.

اليابان
يشعر الكثير من الرجال اليابانيين بالعزلة عن الآخرين.

لكن ليس الرجال المسنين الذين يواجهون مشاكل مالية هم وحدهم الذين يقتلون أنفسهم، فأكثر الناس انتحارا هم الشباب، وهو السبب الأكبر لوفاة للرجال في اليابان الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و44 عامًا، فتشير الأدلة إلى أن هؤلاء الشباب يقتلون أنفسهم لأنهم فقدوا الأمل وأنهم غير قادرون على طلب المساعدة. وقد بدأت هذه الأرقام في الارتفاع بعد الأزمة المالية الآسيوية في عام 1998 وارتفعت مرة أخرى بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008.

يعتقد الخبراء أن هذه الزيادات مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بزيادة ”العمالة غير المستقرة“، وهي عملية توظيف الشباب بعقود قصيرة الأجل، إذ لطالما عُرفت اليابان باسم أرض العمالة مدى الحياة لكن وكونه لا يزال العديد من كبار السن يتمتعون بالأمن الوظيفي والمزايا السخية، فإن ما يقارب 40٪ من الشباب في اليابان غير قادرين على العثور على وظائف مستقرة.

عزل التكنولوجيا

يتفاقم القلق المالي وانعدام الأمن مع تعمّق ثقافة اليابان بعدم الشكوى، فيقول (نيشيدا): ”لا توجد طرق عديدة للتعبير عن الغضب أو الإحباط في اليابان.. إنه مجتمع قائم على القواعد والشباب مقولبون ليناسبوا صندوقًا صغيرًا جدًا.. ليس لديهم طريقة للتعبير عن مشاعرهم الحقيقية.. إذا شعروا بضغط من رئيسهم في العمل وأصيبوا بالاكتئاب، سيشعر البعض منهم أن المخرج الوحيد هو الموت“.

كما أن التكنولوجيا قد تلعب دورًا سيئًا بزيادة عزلة الشباب.. حتى أن اليابان أصبح يشتهر بحالة تُسمى (هيكيكوموري)، وهو نوع من الانسحاب الاجتماعي الحاد.

ما هو هيكيكوموري؟

تُعرّف وزارة الصحة والعمل والرفاهية اليابانية الـ(هيكيكوموري) على أنه مجموع الأشخاص الذين يرفضون مغادرة منازلهم ويقومون بعزل أنفسهم عن المجتمع في منازلهم لمدة تزيد عن ستة أشهر، وفقًا للأرقام الحكومية الصادرة في عام 2010 يوجد 700.000 شخص يعيشون حالة (هيكيكوموري) بمتوسط ​​عمر 31 عامًا، وفي حين أن هذه الظاهرة يابانية في الغالب، إلا أنه تم العثور على حالات مشابهة في الولايات المتحدة وسلطنة عمان وإسبانيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية وفرنسا.

في هذه الحالة يقوم الشخص المتأثر بحدث أو واقع ما بالانغلاق على نفسه تمامًا –وهو غالبًا ما يكون ذكرًا– ويميل للانقطاع عن العالم الخارجي فينسحب إلى غرفته ولا يخرج لأشهر أو حتى لسنوات. لكن يبدو أنه هذا ليس سوى الشكل الأكثر تطرفًا لما أصبح الآن ضعفاً واسع النطاق في التواصل الاجتماعي المباشر وجهاً لوجه بين الناس في كثير من المجتمعات.

عرس ياباني
أشارت الأبحاث أن العديد من الرجال اليابانيين ليسوا مهتمين بالعلاقات الجنسية.

لقد أظهرت دراسة استقصائية نشرت في يناير عام 2015 من قبل الجمعية اليابانية لتنظيم الأسرة حول مواقف الشباب الياباني تجاه العلاقات والجنس بعض النتائج الاستثنائية: حوالي 20٪ من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و29 عامًا لم يكن لديهم اهتمام يذكر تجاه العلاقا الجنسية، أو لم يختبروها من قبل.

يشير (واتارو نيشيدا) إلى الإنترنت والتأثير السائد للإباحية فيقول: ”لدى الشباب في اليابان الكثير من المعرفة، لكن ليس لديهم خبرة في الحياة.. ليس لديهم أي فكرة عن كيفية التعبير عن مشاعرهم“، ويضيف: ”لقد نسوا شعور لمس شخص ما، عندما يفكرون في الجنس يكون لديهم قلق شديد وليس لديهم فكرة عن كيفية التعامل معه“.

عندما يجد الشباب أنفسهم معزولين ومكتئبين، فليس لديهم أماكن كثيرة يلجأون إليها، حيث لا تزال الاعتلالات النفسية من المحظورات وهناك ضعف في الفهم العام للاكتئاب، أولئك الذين يعانون من أعراضه غالباً ما يكونون خائفين للغاية من الحديث عنه.

الهيكيكوموري.
الهيكيكوموري

كما يوجد نقص حاد في الأطباء النفسيين، ولا منهج لعمل الأطباء النفسيين مع علماء النفس الإكلينيكيين، فرغم أنه يمكن وصف أدوية نفسية قوية للأشخاص الذين يعانون من مرض نفسي، ولكن على عكس ما يحدث في الغرب، لن يصاحب ذلك توصية يُطلب فيها من المريض طلب المشورة في كثير من الأحيان.

معدلات الانتحار لكل بلد (من بين كل 100.000 شخص) في عام 2018، حيث تلت اليابان روسيا بالتعداد الكليّ للوفيات:

معدلات الانتحار لكل بلد (من بين كل 100.000 شخص) في عام 2018، حيث تلت اليابان روسيا بالتعداد الكليّ للوفيات:

على عكس أمريكا أو أوروبا، لا يوجد نظام بتكليف من الحكومة لتدريب وتأهيل علماء النفس السريريين، يمكن لأي شخص أن يحضّر نفسه ”كمستشار“، ومن الصعب جدًا على الشخص الذي يسعى للحصول على مساعدة معرفة ما إذا كان المستشار يعرف بالفعل ما الذي يفعله أم لا، ورغم أن معدل الانتحار بدأ في الانخفاض في السنوات الثلاثة الماضية، إلا أنه لا يزال مرتفعا بشكل مخيف.

يقول (واتارو نيشيدا) إن اليابان بحاجة إلى البدء في الحديث عن الأمراض العقلية والنفسية أكثر من المعتاد بكثير، وليس بكونها مجرد شيء مخيف وغريب يصيب البعض، ويكمل: ”عندما ترى حديثاً تلفزيونياً حول المرض النفسي في اليابان فإنهم مازالوا يتحدثون كما لو أن الاكتئاب يساوي الانتحار.. هذا يحتاج إلى التغيير“.

وضعت الحكومة في اليابان عام 2017 مبادئ عامة لسياسة منع الانتحار، وهي تهدف إلى خفض معدل الانتحار إلى 30٪ أو أكثر دون مستويات 2015 بحلول عام 2026، وفي السعي لتحقيق هذا الهدف سيكون من الضروري التركيز على الشباب بشكل خاص، وبالفعل حققت نجاحًا في عام 2018 كما رأينا في الإحصائيات أعلاه.

مقالات إعلانية