in

”قضبان من الرب“، سلاح الدمار الشامل الذي لم يُحظر

قضبان من الرب
صورة: Artraccoon/Deviantart

حتى أربعينيات القرن العشرين، كانت معظم الأسلحة المستخدمة في الحروب تعتبر بدائية إلى حد بعيد بمعايير اليوم خصوصاً مع كون العلم حينها لم يسمح بعد بوجود صواريخ موجهة أو طائرات دون طيار أو أقمار صناعية للمراقبة والتجسس وتنسيق حركة القوات الأرضية، لكن مع قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية عام 1945، كان من الواضح أننا كجنس بشري بتنا نمتلك قوة تدميرية كبيرة للغاية ومن غير المنطقي أن تترك بلا حدود.

على الرغم من أن العقود التالية للحرب العالمية الثانية حملت معها صراعاً عالمياً على شكل الحرب الباردة، كما أدت إلى انتشار التسلح النووي بشكل جنوني مع حصول العديد من البلدان على هذه الأسلحة المدمرة للغاية، لكن منذ عام 1945 لم تستخدم القنابل أو الصواريخ ذات الرؤوس النووية في الحروب على الإطلاق نظراً للأخطار الكبيرة والممتدة لاستخدامها، وربما لوجود اتفاقيات دولة عديدة اليوم من المفترض أنها تحد من استخدامها.

لكن هذا التوقف عن استخدام ”الأسلحة المحرمة دولياً“ لا يعني أن تطوير الأسلحة قد توقف.

ما هي القضبان من الرب؟

الاسم الأكثر تعبيراً ربما لكن الأقل استخداماً لهذا السلاح هو ”القصف الحركي“، وعلى عكس معظم أنواع الأسلحة واسعة التدمير كالقنابل النووية والعنقودية والنابالم والأسلحة الكيميائية والبيولوجية، فهذه الأسلحة لم يتم حظرها أو حظر مبدأ استخدامها في أي وقت سابق، والأمر لا يعود هنا لحقيقة أنه لا دليل على تصنيعها بشكل فعلي حتى الآن، بل لكونها لا تترك ضرراً ممتداً كما الأسلحة النووية مثلاً، ولا تتسبب بأي معاناة غير ضرورية كالأسلحة الكيميائية والنابالم.

حتى اليوم لا يوجد أية أدلة عن كون هذا السلاح قد تم تطويره بشكل واقعي للاستخدام اللاحق، لكن المبدأ النظري للسلاح موجود ومنطقي تماماً كذلك، فمبدأ السلاح يعتمد على وجود أقمار صناعية تدور حول الأرض وتحمل معها قضباناً طويلة وثقيلة من معدن التنغستن، هذه القضبان مصمتة تماماً ولا تمتلك أية شحنات متفجرة أو مواد سامة مثلاً، بل تعتمد على سرعتها فقط لتحقيق الضرر الكبير عند اصطدامها بالأرض.

تعتمد القوة التدميرية لهذا السلاح على كون قضبان التنغستن المذكورة ذات كتلة عالية وتمتلك سرعة كبيرة بسبب إفلاتها من قمر صناعي يدور في مدار عالٍ وبسرعة كبيرة للغاية، فالقضيب يمتلك عند إفلاته سرعة القمر الصناعي الأصلية ويتسارع بشكل إضافي بتأثير الجاذبية الأرضية حيث يخترق الغلاف الجوي ويسبب صدمة كبيرة للغاية عن التقائه مع الهدف، بسبب كونه يسير بسرعة عظمى ويمتلك كتلة كبيرة وبالتالي يمتلك طاقة حركية كبيرة، حيث يمكن تشبيه الأمر بآلية عمل القذائف المدفعية الأولى التي كانت عبارة عن كرات من الرصاص الثقيل حيث تحطم الأسوار بفضل سرعتها الكبيرة وكتلتها كذلك.

لماذا قد يستخدم التنغستن لصناعة هذه القضبان؟ ولماذا تصنع على شكل قضبان أصلاً؟

قضبان من الرب

مع كون هذا السلاح يعتمد على الطاقة الحركية بالدرجة الأولى، فهناك ناحيتان مهمتان: السرعة والكتلة، ومع كون معدن التنغستن ذا كثافة عالية مما يعطيه كتلة كبيرة مقابل الحجم فهو مناسب إلى حد بعيد لهذه الغاية، لكن الكثافة العالية ليست كافية وحدها لجعل المادة مناسبة لهذه الغايات، حيث يجب أن تصمد أمام درجات الحرارة العالية الناتجة عن الاحتكاك بالهواء أثناء دخول الغلاف الجوي للأرض، ومع كون التنغستن واحداً من أفضل المعادن في مجال الصمود أمام الحرارة فهو مناسب للغاية لهذه الغاية.

من الناحية الأخرى فشكل القضبان محدد لسبب بسيط للغاية: تقليل مقاومة الهواء للحد الأدنى، فمقاومة الهواء تؤدي إلى رفع حرارة الجسم الذي يخترقه من ناحية، كما أنها تؤدي إلى إبطائه وفقدانه لكمية كبيرة من الطاقة الحركية قبل وصوله للهدف مما يجعل تأثير السلاح أقل بكثير.

بطبيعة الحال فشكل القضيب هو واحد من أكثر الأشكال المناسبة لاختراق الهواء أو سواه من الأوساط مع أقل مقدار ممكن من مقاومة الهواء مما يتيح سرعة حدية أعلى.

هل تم استخدام هكذا نوع من الأسلحة بالسابق؟

الجواب هنا هو نعم ولا بنفس الوقت، فبينما لم يتم تطوير أقمار صناعية تحمل قضباناً معدنية بغرض القصف سابقاً، فمبدأ القصف الحركي كان قد تم استخدامه سابقاً من قبل الأمريكيين في حرب فيتنام (1955 – 1975) حيث تم استخدام ما كان يعرف بقنبلة ”Lazy Dog“ بشكل محدود لكن فعال، كما تم استخدام الآلية نفسها قبلها في الحرب الكورية (1950 – 1953) وحتى الحرب العالمية الثانية في الفترة التالية لعام 1941.

لم يكن المستخدم حينها قريباً حتى من المقاييس المقترحة لـ”قضبان من الرب“، فالمقذوفات وقتها كانت صغيرة للغاية ومصنوعة من الفولاذ على شكل رصاصة بطول 44 ميلي متر وقطر 13 ميلي متر ووزن لا يتجاوز 13 غرام فقط، كما أنها كانت تطلق من طائرات لا من أقمار صناعية، لكن من حيث المبدأ فهذه القنابل (التي لا تعد قنابل في الواقع) كانت تستخدم نفس أسلوب القصف الحركي من حيث كونها لا تتعرض لأي نوع من الدفع بل تترك في حالة سقوط حر من الطائرة لتتسبب بأضرار مهولة على الأرض.

النتائج الفعالة والواضحة لهذا الأسلوب خلال القرن العشرين جعل خيال الكثير من كتاب الخيال العلمي وحتى بعض مهندسي الطيران يتجه إلى إمكانية استخدام هذا الأسلوب من القصف لكن على مستوى أعلى مع حجم أكبر وارتفاع أعلى، ومع أن هذه الأفكار اقتربت من أن تؤخذ بجدية في الكثير من الحالات، فحتى الآن لا يوجد أية معلومات عن قيام أحد بتطوير هذه الآلية وتجربتها في الواقع.

هل من المنطقي استخدام هذه الأسلحة وتطويرها في ظل وجود أسلحة أخرى؟

واحدة من أهم المشاكل التي تقف في وجه تطوير هذا النوع من الأسلحة هو التكلفة المهولة له مقابل التدمير الذي يحدثه، فبالنسبة لقضيب من التنغستن بطول 6 أمتار وقطر 30 سنتيمتر يصدم الأرض بسرعة ماك 10 [ماك: هي وحدة سرعة تساوي سرعة الصوت في الهواء ضمن الضغط الجوي ودرجة الحرارة الاسمية]، فالقدرة التدميرية لا تتعدى انفجار 11.5 طن من TNT أو 7.2 طن من الديناميت علماً أن وزن القضيب نفسه يبلغ حوالي 9 أطنان.

بالطبع فبالنظر للتكلفة المهولة مقابل القدرة التدميرية المحدودة تجعل استخدام الصواريخ المعتادة أو حتى القذائف التي يتم إفلاتها من الطائرات أكثر فاعلية من القصف الحركي، لكن في حالات معينة يمكن لهكذا سلاح أن يثبت فائدة كبيرة لمستخدميه وخاصة في حالات الحاجة لقصف مواقع الأعداء بسرعة كبيرة للغاية أو بالنسبة لاختراق التحصينات السميكة للغاية، حيث يمكن لهذا الأسلوب من القصف اختراق التحصينات الخاصة بالملاجئ النووية حتى.

الميزة الأساسية لهكذا سلاح هي السرعة الكبيرة للإطلاق والوصول للهدف من ناحية، وصعوبة أو استحالة رصد القذائف أو إيقافها، فبينما تحتاج الصواريخ البالستية عادة لحوالي 45 دقيقة منذ إطلاقها للوصول للهدف، وتشكل اهداف كبيرة وسهل الاعتراض نسبياً، فالقصف الحركي من مدار القمر الصناعي حول الأرض يحتاج 12 إلى 15 دقيقة كحد أقصى لإصابة أي هدف في أي مكان على الأرض، ومع كون القضبان المطلقة لا تمتلك أية نفاثات أو إجراءات إطلاق قابلة للرصد فالتنبؤ بالقصف قبل حدوثه غير ممكن، وفي حال حدوثه فمن المستحيل حالياً على الأقل إيقاف قضيب معدني يسير بسرعة أكبر من 8 كيلو متر في الثانية مع كون مقطعه لا يتجاوز 30 سنتي متراً في القطر فقط.

هل ستستخدم هذه الأسلحة في المستقبل؟

كما ذكرنا سابقاً، فاستخدام القصف الحركي سابقاً كان أمراً محدوداً للغاية وغير منتشر سوى في حالات قليلة كالمثال عن حرب فيتنام واستخدام ما يشبه رصاصات كبيرة تترك لتسقط من طائرة، لكن ماذا عن المستقبل؟ وهل يمكن لهذه التقنية أن تجد سبيلاً لها للاستخدام في حروب المستقبل ربما؟

الجواب المرجح هو لا، فبالنسبة للاستخدامات القديمة كرمي الأجسام المعدنية من الطائرات، فلا فائدة حقيقية هنا من الناحية الوحيدة التي يتفوق بها هذا الأسلوب وهو السرعة، فالقصف من الطائرات يتطلب وجودها في مكان قريب نسبياً من الهدف وبالتالي قدرتها على استخدام القذائف والقنابل التقليدية بدلاً من قطع معدنية مصمتة.

أما الأسلوب الثاني والتخيلي أي حمل قضبان معدنية إلى الفضاء مع أقمار صناعية، فهو على الأرجح لن يطبق كذلك نظراً للتكلفة المهولة للعملية مقابل التأثير الصغير والمحدود وغير الدقيق كذلك، فحمل قضبان معدنية بأوزان تصل إلى حوالي 9 أطنان إلى مدار حول الأرض أمر غير عملي أبداً، فواحد منها فقط سيكون أثقل من محطة الفضاء الصينية و20 منها ستكون مقاربة لكتلة محطة الفضاء الدولية.

في الواقع، الحالة الوحيدة التي يمكن التفكير بها هنا هي حمل رؤوس نووية إلى الفضاء ربما لجعلها أسرع وصعبة الاعتراض أكثر ربما، لكن هذا الأمر لن يكون سهلاً كذلك حيث أن الاتفاقية الدولية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل تحظر وضع أسلحة دمار شامل (وأولها بالطبع هو قنابل الانشطار او الاندماج النووي) في الفضاء أو في مدارات حول الأرض، ومع أن الأمر قد يكون يجري بشكل سري ربما، فليس من السهل إخفاء عملية إطلاق كبيرة كفاية لحمل أسلحة نووية في العصر الحالي، واكتشاف قيام بلد ما بهذا سيؤدي إلى كوارث دبلوماسية وربما حتى حرب نووية بين القوى العسكرية العظمى في العالم.

في النهاية، على الرغم من أن فكرة هكذا سلاح كانت قد طرقت عدة مرات في كتب وقصص الخيال العلمي وحتى في نظريات المؤامرة والإشاعات عن مخططات سرية سوفييتية سابقاً أو أمريكية ربما، فهي غير عملية كفاية ليتم تنفيذها على أرض الواقع، أو على الأقل فهي ستبقى كذلك خلال السنوات القادمة، فالمستقبل مجهول من ناحية التطور في مجال السفر إلى الفضاء ففي حال بات الأمر قليل التكلفة كفاية، فربما يتم استخدمها كأداة سريعة للردع والدفاع في العقود القادمة.

مقالات إعلانية