in

تعرف على تقنية التجسس السوفياتية من الحرب الباردة، والتي نستخدمها اليوم في شتى المجالات

الولايات المتحدة وسفيرها في الأمم المتحدة، أثناء عرضه أداة التجسس التي زرعها السوفيات داخل هذه المنحوتة. صورة: Getty Images

انتهت الحرب العالمية الثانية في الرابع من أغسطس عام 1945، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي يمهدان لعلاقتهما المستقبلية.

في السفارة الأمريكية في الاتحاد السوفياتي، أقامت منظمة الرواد الشباب في الاتحاد السوفياتي لفتة ظريفة سعياً لتوطيد العلاقات بين القوتين العظمتين.

نسخة مقلدة من الأداة السوفياتية التي أهداها السوفيات للسفير الأمريكي. صورة: Wikipedia

قدم هؤلاء الشباب ختماً تكريمياً محفوراً باليد، وذا حجمٍ هائل، لسفير الولايات المتحدة في الاتحاد السوفياتي (أفيريل هاريمان). لكن تلك الهدية الفاخرة عُرفت في الولايات المتحدة لاحقاً باسم «الشيء».

بالطبع، قام الأمريكان بفحص هذه الهدية جيداً خشية وجود أجهزة تنصت الكترونية، لكنهم لم يعثروا على أسلاك أو بطاريات، فقرروا قبول الهدية لأنها لا تمثل خطراً برأيهم.

كان (هاريمان) سعيداً جداً بهذا الختم، فعلّقه في غرفته الخاصة، وهناك، تمكن السوفيات من التنصت على جميع محادثاته الخاصة على مدار السنوات السبع التالية. لم يدرك (هاريمان) ولا فريقه أن هذه الأداة صممها أحد عباقرة القرن العشرين.

في هذه الصورة من مكتب السفير، بالإمكان ملاحظة “الشيء” داخل المنحوتة المعلقة على جدار الغرفة.

لنعد بالزمن إلى الوراء قليلاً، ولنتعرف على (ليون ثيرمن)، أو (ليف سيرجيتيف تيرمن) كما يدعى بالروسية، وهو مخترع إحدى أوائل الآلات الالكترونية الموسيقية، حيث اخترع الرجل –بالإضافة إلى الكثير من الإسهامات الأخرى في مجال الفيزياء– آلة موسيقية بالإمكان العزف عليها بدون لمسها، وتعرف هذه الآلة اليوم بالثيرمين، وتبدو على شكل صندوق يشبه جهاز الراديو، تنتج فيها الأنغام الموسيقية عبر دائرتين الكترونيتين عاليتي التردد عبر تحريك اليد في الهواء أمام الهوائي البارز منها وإدارة المفتاح المسؤول عن الصوت.

كان (ثيرمن) يعيش في الولايات المتحدة مع زوجته (لافينيا ويليامز) قبل أن يعود إلى الاتحاد السوفياتي عام 1938. قالت زوجته لاحقاً أنه اختُطف وأُجبر على العودة، لكن على أي حال، وضع الرجل في معسكر للأشغال، واضطر هناك إلى تصميم هذه الآلة المعروفة باسم «الشيء»، بالإضافة إلى اختراعات أخرى.

في نهاية المطاف، عثر مشغلو الراديو الأمريكان على محادثات لسفير الولايات المتحدة تُبث عبر موجات البث. لكن عندما أجروا مسحاً في السفارة بحثاً عن موجات الراديو، لم يعثروا على أي جهاز تنصت، واستغرقهم الأمر سنوات حتى كشفوا السر.

كانت أداة التجسس داخل هذا «الشيء»، وكانت بسيطة للغاية، فهي عبارة عن هوائي مغلف بغلاف من الفضة، فكان الأخير يعمل عمل الميكروفون. لا يحوي الجهاز أي بطاريات أو مصدر للطاقة، فلم يكن «الشيء» بحاجة لتلك الأمور.

هنري كابوت لودج سفير الولايات المتحدة وهو يعرض “الشيء” داخل جلسة للأمم المتحدة عام 1960. صورة: Associated Press

جرى تشغيل هذه الأداة باستخدام موجات راديوية تُبث باتجاه السفارة الأمريكية. فكانت الأداة تستخدم الطاقة الحاصلة عليها من الإشارة الواردة لبث محادثات الأمريكان. عندما يجري إطفاء الإشارة، يتوقف «الشيء» عن البث. قد يبدو الأمر مشابهاً لأداة ثيرمن الموسيقية، لكن إن أخذنا بعين الاعتبار أن الأداة تُشغّل عن طريق الأمواج الراديوية الواردة، ثم تقوم ببث المعلومات مجدداً إلى المصدر الواقع على بعد كيلومترات، فذلك أمر مختلف تماماً.

فلنأخذ اليوم تقنية تحديد الهوية بموجات الراديو، والتي استخدمناها بكثرة في السنوات الماضية لشراء أي شيء تقريباً، كما انها موجودة على جواز السفر وبطاقات الائتمان، ما يجعلنا ندفع ثمن تلك الأشياء بمجرد التلويح أمام قارئ تحديد الهوية.

تعتمد بعض تلك الأجهزة القارئة على مصدر طاقة، لكن معظمها مثل أداة ثيرمن، تُشغل عن طريق إشارة واردة. يجعل هذا الأمر من تلك التقنية رخيصة جداً، ورخص ثمنها سببٌ في كونها تُستخدم عالمياً.

بالمناسبة، استخدمت قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية نوعاً من أنواع تحديد الهوية عبر موجات الراديو: كانت الرادارات مثلاً تبث موجاتها نحو الطائرات، بينما احتوت تلك الطائرات على عدّة خاصة تُدعى «المستجيب» تتفاعل مع الرادار عبر إطلاق إشارة تعبّر عن هوية الطائرات، فيستطيع المشغلون التعرّف على هوية الطائرة ولأي دولة تتبع، أي بمعنى «نحن إلى جانبكم، لا تطلقوا النار».

لكن مع تقدم التكنولوجيا وتقليص حجم الدارات الكهربائية، أصبح من الممكن التعرف على الهوية عبر إرفاق تلك التقنيات بأشياء أقل أهمية من الطائرات الكبيرة مثلاً، وهنا نجد اليوم الـ «باركود»، والذي بإمكان القارئات اليوم التعرف على أي «باركود» ملصق بالغرض.

لكن على عكس الباركود، كانت بطاقات تحديد الهوية بالموجات الراديوية قابلة للمسح أتوماتيكياً، أي لا حاجة لكونها مرئية، بل بالإمكان مسحها وقرائتها على بعد كيلومترات. بالإمكان أيضاً الكتابة فوقها أو تعطيلها من بعيد.

بإمكانك فتح الأبواب أو قطع التذاكر باستخدام هذه التقنية البسيطة وغير المكلفة.

بإمكان تلك البطاقات أيضاً تخزين الكثير من البيانات على عكس الباركود، ما يسمح بالتعرف على معلومات أكبر عن الغرض، فلا يخبرنا القارئ مثلاً أن هذا البنطال مصنوع من الجينز بقياس «ميديوم» فقط، بل يعطينا معلومات حول اليوم والمكان الذي صُنع فيهما هذا البنطال. استخدمت بطاقات تحديد الهوية بالموجات الراديوية بحلول الألفية الأخيرة بكثرة في المتاجر الكبيرة كـ «تيسكو» و«ولمارت»، كما طالبت وزارة الدفاع الأمريكية تلك المتاجر الكبيرة بوضع البطاقات على جميع المنتجات.

اليوم، يقوم بعض المتحمسين للتكنولوجيا بوضع بطاقات تحديد الهوية تلك داخل أجسادهم، ما يسمح لهم بفتح الأبواب أو ركوب المترو بمجرد تلويحة باليد.

في عام 1999، صاغ (كيفن أشتون) من شركة المنتجات الشهيرة «بروكتر آند غامبل» عبارة تجسد هذا الحماس تجاه تقنية تحديد الهوية، حيث قال: «قد تقودنا تقنية تحديد الهوية بالموجات الراديوية إلى إنترنت الأشياء». و”إنترنت الأشياء“ هذا هو نظام من آلات الحوسبة المتداخلة التي تتفاهم مع بعضها البعض، ما يسمح للمستخدم بالتحكم بأشياء موجودة في مكان آخر بدون الحاجة إلى التواجد في ذلك المكان والتعامل مع جهاز معين لتحقيق الغرض.

لكن مع بروز أجهزة الهاتف والساعات الذكية، وكذلك مكبرات الصوت الذكية، بل حتى السيارات الذكية مؤخراً، أصبحت تقنية تحديد الهوية بالموجات الراديوية شيئاً غير مثير للاهتمام اليوم. تعمل كل تلك الأجهزة السابقة بشكل معقد، ومزودة بأنظمة معالجة قوية حقاً، لكنها أيضاً مكلفة وتحتاج إلى مصدر للتزود بالطاقة.

واليوم، عندما نتحدث عن «إنترنت الأشياء»، فغالباً ما نذكر تلك الأجهزة الذكية الحديثة ولا نأتي على ذكر تحديد الهوية بالموجات الراديوية. فاليوم، بإمكان البراد في بيتك التواصل مع أجهزة أخرى لأنجاز المهام.

تستخدم تقنية تحديد الهوية بالموجات الصوتية الحقول الكهرومغناطيسية للتعرف أوتوماتيكياً على الرقاقات الموجودة داخل هذه الأنسجة المحاكة، وتعقبها أيضاً.

في هذا العصر الذي تطلق عليه الباحثة الاجتماعية (شوشانا زوبوف) اسم «رأسمالية الرقابة»، تُخترق خصوصيتنا على نحو دائم، بل أصبح اختراق الخصوصية نموذجاً تجارياً رائجاً. ففي السابق، كان من المفترض أن يساعدنا «إنترنت الأشياء» في إنجاز كل ما نحتاجه بواسطة حواسيب تعتمد على البيانات التي تحمل معنى في العالم المادي وليست مجرد بيانات في العالم الرقمي، وكانت تلك الحواسيب مسؤولة عن التعقب والتنظيم والتعديل. ففي الواقع، لدى الإنسان اليوم أمور أهم من مجرد إدخال البيانات إلى الحاسب، وهكذا، أصبح بالإمكان تصميم الأغراض عبر تزويد الحواسيب أتوماتيكياً بالمعلومات المناسبة، ما يجعل العالم الحقيقي الملموس مفهوماً بالنسبة لتلك الأجهزة الرقمية.

وبينما يحمل الناس اليوم أجهزة ذكية، تبقى الأغراض الأخرى معتمدة بشكل كامل على تقنية تحديد الهوية بالموجات الراديوية، فالتقنية الأخيرة غير مكلفة وتساهم في تعقب وتنظيم تلك الأغراض. بإمكان تلك البطاقات المصممة كي تكون مفهومة بالنسبة للقارئات أن تتعقب الأدوات والمكونات وحتى الأدوية الطبية، وتعطينا معلومات دقيقة عنها.

بالطبع، قد لا تملك تقنية تحديد الهوية الطاقة أو المرونة التي تملكها الساعات الذكية أو السيارات ذاتية القيادة، لكنها رخيصة جداً وصغيرة، بل صغيرة لدرجةٍ مكنتنا نحن البشر من استخدامها على شكل بطاقات تعريف لمليارات ومليارات الأغراض التي صنعناها، والأهم من ذلك أننا لا نحتاج إلى استخدام البطاريات لجعلها تعمل!

مقالات إعلانية