in

دخلك بتعرف ”قرية السلام“، مدينة الأشباح الواقعة على الحدود بين كوريا الشمالية والجنوبية

بلدة الأشباح ”قرية السلام“، وسارية العلم فيها التي تحمل رقما قياسيًا في الطول.
بلدة الأشباح ”قرية السلام“، وسارية العلم فيها التي تحمل رقما قياسيًا في الطول.

يقول المراقبون والكشافة في كوريا الجنوبية بأن قرية (كيجونغ دونغ) في كوريا الشمالية لا تتعدى مجرد كونها بلدة زائفة تم تشييدها من أجل الدعاية المغرضة لا غير، ويُعتقد أن المباني عبارة عن قواقع فارغة مع نوافذ مرسومة أو مطلية لا أكثر.

قد تبدو قرية (كيجونغ دونغ) مثل قرية نموذجية من بعيد، حيث تحتوي على برج للمياه، وأبراج للطاقة الكهربائية ذات التوتر العالي، وشوارع نظيفة، وأضواء تنار من نوافذ مبانيها الكثيرة. غير أن نظرة عن كثب إلى ”قرية السلام“ هذه كفيلة بأن تكشف لنا بأنه لا يوجد بها ولا مقيم واحد، ولم يكن قد سبق لأحد أن أقام أو عاش فيها.

تقع قرية السلام في المنطقة منزوعة السلاح التي تفصل بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، وقد افتتحت (كيجونغ دونغ) أبوابها المزيفة في سنة 1953 بعد أن أنهت الهدنة الحرب الكورية. يعتقد الخبراء أن قرية السلام هذه، التي يشار إليها أحيانًا باسم ”قرية البروباغاندا“، هي واحدة من عديد المدن الزائفة في كوريا الشمالية.

بنيت قرية السلام، أو قرية البروباغاندا، في سنة 1953، ومنذ ذلك الحين وهي خاوية على عروشها، بينما تدعي الحكومة في كوريا الشمالية بأنه يقطنها حوالي 200 مواطن كوري شمالي.

لدى ”المملكة الناسكة“ لكوريا الشمالية سمعة سيئة بكونها تصدر لنفسها صورة مزيفة عن الرخاء والنجاح الاقتصادي، وباستخدام هذه المقاربة الزائفة، قامت الحكومة الكورية الشمالية ببناء مدينة (كيجونغ دونغ) من أجل خداع المواطنين في كوريا الجنوبية وجعلهم يعتقدون بأن كوريا الشمالية ومواطنوها يعيشون في رخاء ورغد.

إلى يومنا هذا، مازالت الحكومة في كوريا الشمالية تصر على أن بلدة الأشباح هذه يقطنها السكان وتملؤها الحياة، غير أن نظرة عن كثب إليها تكشف أنها لا تتعدى كونها أشبه بموقع تصوير هوليوودي تم هجره بعد الانتهاء منه.

تاريخ (كيجونغ دونغ)

قامت حكومة كوريا الشمالية ببناء وتشييد (كيجونغ دونغ) —التي تعني باللغة الكورية قرية السلام— من الصفر في سنة 1953 عقب النهاية غير الرسمية للحرب الكورية. كانت الحرب الكورية من أكثر الحروب دموية التي عرفتها المنطقة، حيث ظلت تنخر الشمال والجنوب الكوري على مدى ثلاثة سنوات كاملة وتسببت في سقوط أكثر من 3 ملايين قتيل.

وعلى الرغم من أن الهدنة وضعت حدا لإطلاق النار، فإن كلا الجانبين المتناحرين لم يوقعا بصورة رسمية حتى الآن على اتفاقية أو معاهدة سلام.

مازالت المنطقة منزوعة السلاح التي تفصل بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية واحدة من بين أكثر المناطق اضطرابًا وأكثرها تسلحا في العالم، حيث تعج الحدود التي تفصل البلدين بالألغام الأرضية، كما تتواجد بها كيلومترات من الأسلاك الشائكة، والنقاط الأمنية الحدودية المنتشرة، ومئات الآلاف من الجنود.

”قرية البروباغاندا“ مثلما ترى من القرية الحدودية (بانمونجوم) المتواجدة شمال سيول في كوريا الجنوبية.
”قرية البروباغاندا“ مثلما ترى من القرية الحدودية (بانمونجوم) المتواجدة شمال سيول في كوريا الجنوبية. صورة: Chung Sung-Jun/Getty Images

تعتبر المنطقة المنزوعة السلاح في جوهرها عبارة عن منطقة صدّ يبلغ عرضها 5 كيلومترات وتمتد على طول الحدود التي تفصل بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية التي يبلغ طولها حوالي 300 كيلومتر. قام كلا البلدين بإجلاء مستوطناته السكانية المتواجدة في هذه المنطقة وترحيل ساكنيها، وبعد سنة 1953 صار بإمكان كل من البلدين إعادة توطين سكان قرية واحدة من القرى المهجرة، أو بناء قرية جديدة على كل جانب من الحدود.

قامت الحكومة في كوريا الجنوبية بإعادة توطين قرية (دايسونغ دونغ)، والتي يعني اسمها ”قرية الحرية“، والتي تعتبر موطنًا لحوالي 226 مواطنًا الذين كانوا يقطنونها قبل اندلاع الحرب وترحيلهم منها. لا يمكن لأي زائر إضافي دخول هذه القرية أو العيش فيها.

يملك سكان قرية الحرية بطاقات هوية خاصة وقد فرض عليهم حظر تجوال يبدأ من الساعة الحادية عشر ليلًا.

أحيانًا يتسلل الدخلاء من كوريا لاشمالية داخل قرية الحرية ليختطفوا بعضا من مواطنيها قسرا ويقتادوهم إلى كوريا الشمالية ليعلنوا رسميا بأنهم فروا من كوريا الجنوبية طواعية، وأنهم فضلوا العيش في كوريا الشمالية كنوع من الدعاية.

بينما فضلت كوريا الشمالية بناء قرية جديدة كليا التي أطلقت عليها اسم (كيجونغ دونغ)، أو قرية السلام، التي يطلق عليها في الخارج اسم ”قرية البروباغاندا“، والتي تم بناؤها خصيصا لتصدير صورة كوريا الشمالية المزدهرة ذات الاقتصاد الكبير والناجح، وهي في الحقيقة لا تتعدى مجرد كونها قوقعة فارغة.

ادعاءات كوريا الشمالية حول ماهية قرية السلام

جندي كوري جنوبي متموقع في المنطقة المنزوعة السلاح وهو يطل على قرية السلام الزائفة.
جندي كوري جنوبي متموقع في المنطقة المنزوعة السلاح وهو يطل على قرية السلام الزائفة. صورة: Flickr

على الرغم من أن حكومة كوريا الشمالية ظلت تدعي بأن قرية السلام تتضمن على حوالي 200 ساكن، فإن الملاحظين من الحدود الجنوبية يقولون أن لا أحد يعيش فيها على الإطلاق.

قال القائد (روبيرت واط)، الذي ينتمي لسلك القوات متعددة الجنسية التي تم نشرها على الجانب الجنوبي من الحدود الكورية، بأن العديد من المباني في القرية لا توجد بها نوافذ، وما تراه يشبه النوافذ فيها ما هو إلا رسومات وطلاء، كما قال بأن مباني أخرى لا تتعدى مجرد كونها قواقع فارغة بدون حتى طوابق.

وعلى الرغم من ذلك، ربما كان أكثر معالم قرية السلام جذبا للانتباه هو الأضواء الكهربائية التي تنير شوارعها الفارغة والنظيفة، التي يتم إنارتها بشكل روتيني لتعطي الناظر انطباعًا بأن البلدة مأهولة بعدد لا بأس به من السكان.

تقنيًا، لم يكن أحد قد رأى في السابق أضواء كهربائية تنير الشوارع في كوريا الشمالية في الخمسينيات الماضية، وقد تم وضعها هناك من أجل إثارة إعجاب الجيران الجنوبيين لا غير.

لم يقم (كيم جونغ أون)، الزعيم الكوري الشمالي، أبدًا بالاعتراف بحقيقة قرية السلام، بل ظلت الحكومة في كوريا الشمالية تدعي حتى يومنا هذا بأن البلدة يعيش فيها عدد لا بأس به من السكان السعداء، حيث تحتوي البلدة على مركز للعناية بالطفولة، ودار حضانة، ومدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية، إلى جانب مستشفى.

تُجرى على بلدة (كيجونغ دون) أعمال صيانة روتينية على يد عمال يقومون بكنس شوارعها وتنظيفها، على الرغم من كونها غير مأهولة البتة.
تُجرى على بلدة (كيجونغ دون) أعمال صيانة روتينية على يد عمال يقومون بكنس شوارعها وتنظيفها، على الرغم من كونها غير مأهولة البتة. صورة: Chung Sung-Jun/Getty Images

في الواقع، لا يتواجد في هذه القرية الزائفة وغير المأهولة سوى عمال الصيانة اليومية الذين يأتونها من حين إلى آخر. بإمكان الكشافة المتواجدين على الحدود من الجانب الجنوبي رؤيتهم يقومون بكنس الشوارع من وقت لآخر بدون فائدة.

في نهاية المطاف، يبدو أن القرية لا تمثل سوى بيدق في منافسة لقياس الكبرياء بين الجارتين الجنوبية والشمالية، وخير دليل على هذه المنافسة هو حجم ساريات الأعلام في المنطقتين الحدوديتين.

حرب سارية العلم

يقول (بيتر كيم)، وهو بروفيسور أمريكي المولد في جامعة (كوكمين) في سيول: ”عندما يفكر معظم الأشخاص في كوريا الشمالية، فهم يفكرون في (كيم جونغ أون) وصواريخه“، ويضيف: ”من الصعب جدا أن نفكر في أي شيء آخر عدا ما نراه في وسائل الإعلام“.

بلدة الأشباح ”قرية السلام“، وسارية العلم فيها التي تحمل رقما قياسيًا في الطول.
بلدة الأشباح ”قرية السلام“، وسارية العلم فيها التي تحمل رقما قياسيًا في الطول. صورة: Wikimedia Commons

بالنسبة للزعيم الكوري الشمالي (كيم جونغ أون) وحكومته، من الصعب جدا الإفصاح عما يدور في قرية السلام أو أي مكان آخر في كوريا الشمالية الناسكة، وجل ما يهمه هو الصورة التي يصدّرها للخارج، ومن أجل تلميع هذه الصورة لتتفوق على صورة جارته الجنوبية، نشأت مسابقة محتدمة لنيل إعجاب المواطنين على كلا جانبي الحدود، والتي تجلت في صورة استعراض لطول سارية العلم.

قامت كوريا الجنوبية برفع سارية علم شاهقة بطول 97 مترًا في قرية (دايسونغ دونغ) في ثمانينيات القرن الماضي، وهو ما حمل كوريا الشمالية على بناء سارية علم أطول منها حيث بلغ طولها 160 مترًا، والتي كانت آنذاك أطول سارية علم في العالم كلّه.

كان العلم الكوري الجنوبي يزن حوالي 286 رطلاً، وهو ما دفع كذلك بكوريا الشمالية لصناعة علم وطني بلغ وزنه 595 رطلاً، وعلى ما يبدو تعتبر سارية العلم الشاهقة في كوريا الشمالية اليوم رابع أطول سارية علم في العالم.

تعتبر سارية علم قرية (كيجونغ دونغ) الزائفة في كوريا الشمالية رابع أطول سارية علم في العالم، حيث بلغ ارتفاعها 160 مترًا.
تعتبر سارية علم قرية (كيجونغ دونغ) الزائفة في كوريا الشمالية رابع أطول سارية علم في العالم، حيث بلغ ارتفاعها 160 مترًا. صورة: Wikimedia Commons

قرية البروباغاندا في السنوات الأخيرة

بينما يمكن اعتبار منافسة ”أطول سارية علم“ ظاهرة مثيرة للاهتمام، فقد استخدمت كلتا الدولتان مكبرات الصوت من أجل التفوق على بعضهما البعض في مسابقة أخرى ”صوتية“، حيث ظلت كوريا الشمالية تقوم بشكل روتيني بإذاعة البروباغاندا خاصتها ناحية الجنوب باستخدام مكبرات الصوت القوية، وقد كان ذلك البث يمدح انتصارات كوريا الشمالية ويحث المواطنين في الجنوب على الهجرة إليها بطريقة أو بأخرى، بينما كان رد كوريا الجنوبية من خلال إذاعة وبث موسيقى الـK-Pop الشهيرة بصورة قوية لدرجة كانت تسمع فيها في عمق كوريا الشمالية.

يقول البروفيسور (روالد ماليانكاي) في الجامعة الوطنية الأسترالية: ”إن موسيقى الـK-Pop وسيلة قوية للبروباغاندا“، واستطرد بالقول: ”إنها تصوّر كوريا الجنوبية على أنها أمة قمة في التمدن والتحضر، وغاية في الثراء، التي لا يقطنها سوى الأشخاص ذوي الحماس المتّقد وذوي الجاذبية المبهرة“.

ضباب دخاني كثيف يخيم على قرية السلام الزائفة.
ضباب دخاني كثيف يخيم على قرية السلام الزائفة. صورة: Flickr

انتهت هذه المنافسات بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية في سنة 2004 بعد أن أدرك كلا البلدان بأنهما لم يكسبا شيئا من كل ذلك الهرج والمرج. غير أن هذه السلوكات الغريبة عاودت الظهور بين البلدين بشكل مؤقت في سنة 2016، ثم توقفت بشكل كامل منذ ذلك الحين.

لنأمل أن الشمال سيرى في الإنهاء المسالم لهذه المنافسات مثالا يمكن الاقتداء به لإنهاء العداوة بين البلدين.

مقالات إعلانية