in

نبذ الملحدين في المجتمعات المتدينة

خصومة قلبي مع الله

الاختلاف هو أحد أهم العوامل التي تجعل من عالمنا مكاناً مثيراً للاهتمام، و محفزاً قوياً لاستمرار الحياة والتنوع الحضاري والثقافي فيه. فإن اتفقت وجهات النظر وتم صياغتها ضمن قالب موحد، سيبدو عالمنا مقيتاً، مملاً لا يستحق أن نعاني لأجله.

ومن الطبيعي أن لا نؤمن بالأفكار التي لا تناسبنا ولا تقنعنا، فهي مجرد أفكار بالنهاية، لكن ماذا عن أصحابها و معتنقيها؟ لا يهدف هذا المقال إلى نشر فكر معين، أو التهجم على فئة أو الدفاع عن فئة أُخرى، إنما هو مناقشة وتحليل بعض الأسباب التي تحول دون تقبل الملحد في المجتمعات المتدينة، والحكم عليه من خلال نظرة إقصائية هدامة.

الفهم الخاطئ للإلحاد:

قبل الحكم على وجبة طعام يفترض أن نتذوقها، وقبل تحديد مستوى قصيدة شعرية من المنطقي ان نقرأها لنحدد مكامن الجمال والرداءة فيها.

من السذاجة أن نحكم على أي شيء قبل التعمق به وفهمه، وما يلي ذلك من خطوات وقرارات نتخذها تكون نابعة عن بحث وتساؤلات أشبعتها إجابات تستند على قاعدة سليمة، بعيداً عن كلام وآراء الكهنة والسياسيين المتحيزة خدمة لجهة معينة.

الملحد لا يؤمن بزيوس ومشتقاته، ولا يقدس ريتشارد دوكينز وزبانيته، كل ما يحيط به خاضع للشك ويثير بعقله تساؤلات فلسفية نتجت عن إسقاطه للمقدسات، من مبدأ الشغف وحب الاطلاع.

من جهة أُخرى، ولكي نتجنب الوقوع بالتعميم وربط الكمال والمثالية بهذه الفئة (الملحدين)، وتفضيلها عن باقي البشر كما هو متعارف في الأديان، من المهم التنويه بأنهم بالنهاية بشر، والاختلاف الوحيد الذي يميزهم عن غيرهم هو الايديولوجيا، فقد تجد فيهم السيء والجيد، الكريم والبخيل، المتعصّب والمنفتح على الآخر.. الخ.

وقبل الانتقال إلى النقطة التالية، يتوجب علي التنويه بأن التعريف بالملحدين ليس الهدف الرئيسي من المقال، لذا أنصح بالاطلاع على مقال ”حقائق لا تعرفها عن الملحدين“.

مفهوم الأخلاق:

التعمق بموضوع الأخلاق وتعريفه وفهمه ليس أمراً معقداً، لكن السبب الذي يمنع المتدينين من استيعابه هو الفكرة التي زرعت بأدمغتهم منذ الطفولة، حيث يعتقدون بأن الدين هو المصدر الرئيسي للأخلاق. والمصيبة هي تباين هذا المفهوم بين ديانة وأُخرى، ما يضعهم في تناقض عجيب لا يمكن إغفاله.

فزواج الأقارب—على سبيل المثال—الذي تحرمه ديانة معينة، ستجده أمراً بديهياً لا مشكلة فيه في ديانة أُخرى. والخمر يمكن قياسه من المبدأ ذاته، و الأمثلة كثيرة لا حصر لها.

لذا علينا التفريق بين الأخلاق، والشرائع التي تفرضها الأديان على معتنقيها، كي لا نقع في إشكالية أوسع وأكثر شمولية، لأن الأديان تختلف في شرائعها وقوانينها، ما يعني بأن كل ديانة ستنفي قيم ومبادئ الديانات الأُخرى، وهذا بحد ذاته كارثة أخلاقية.

”لماذا لا تنكح أختك؟“ العبارة الأشهر التي يسارع الكثير من المتدينين بطرحها رشاً ودراكاً عند شعورهم بوجود شخص ملحد بالقرب منهم. القصد من هذا كله هو اتهام الملحد بالشهوانية المرضيّة المفرطة وانعدام الشعور الإنساني بشكل عام وغياب الضمير بما أنه لا يؤمن برقيب خارجي (إله)، ووجود حساب بعد موته.

ماذا لو وسعنا مجال رؤيتنا قليلاً، لماذا قد يختار شخص ما أن يميل إلى الإلحاد لكي يشبع غرائزه الجنسية، في حين أن بعض الأديان التي لا تزال تعاليمها سارية إلى الآن تسمح لأتباعها بتعدد الزوجات، أو اقتناء الجواري والسبايا؟ والأكثر تطرفاً من ذلك هي الديانة التي تبيح لأتباعها الاعتداء على أي امرأة من ديانة أُخرى، كونها ”بهيمة/غويم“ لا يُعقد معها قران! ولا يتوقف الأمر عند الغريزة الجنسية، حيث يمكنه ممارسة ”السادية“ من خلال الحروب الدينية المقدسة وينال رضى الآلهة وبركاتهم.

من زاوية فلسفية، تختلف مفاهيم الأخلاق مما هي عليه في الديانات، فمعظم الأديان قائمة على مبدأ ”الثواب والعقاب“ أو ”العصا والجزرة“، أي أنها تتعامل مع الإنسان على أنه كائن غير أخلاقي بطبيعته.

إيمانويل كانط يعتبر أن الفعل الأخلاقي يجب أن يكون نابع من صميم ”الواجب“، دون وجود منفعة شخصية أو ثواب إلهي بالمقابل، أو عقاب رادع إن كان الفعل لا أخلاقياً، حيث يقول:

قيمة الفضيلة إنما تزيد كلما كلفتنا الكثير، دون أن تعود علينا بأي مكسب.

الإسهاب بهذه النقطة يتطلب تخصيص مقال كامل، لذا سأكتفي بهذا القدر، مع الإشارة إلى مقال ”أخلاق ملحد“ الذي يناقش هذا الموضوع بالتحديد.

نظرية المؤامرة:

نظرية المؤامرة
نظرية المؤامرة

لا تقتصر نظرية المؤامرة على السياسة والسياسيين، فهي فضفاضة لدرجة أن أي فئة تستطيع الاعتماد عليها لتمرير سياساتها وأفكارها الخاصة، أو التغطية على أخطائها في حالات معينة.

فالبعض يعتبر الإلحاد والملحدين بشكل عام منظمة سرية تهدف إلى محاربة الديانة التي يعتنقونها تحديداً، وما يزيد الطين بلة الفتاوى والنصوص الدينية الصريحة حول هذا الموضوع، وبعض رجال الدين الذين يتخذون من منابرهم ومعابدهم منطلقاً لبثّ خطاب الحقد والكراهية ضد من يخالفهم فكرياً وعقائدياً، دون الالتفات إلى المخاطر التي قد يتسببون بها على المدى الطويل.

وهنا لا بدَّ من اطرح تساؤل بسيط، لماذا قد يوجه شخص ما انتقادات لدين معين لا وجود لمعتنقيه في البيئة التي يعيش فيها، ولا تأثير فعلي لممارسة عقيدتهم على حياته وحريته الشخصية؟

شخصياً، أُفضل عدم الخوض في موضوع نظرية المؤامرة وارتباطها بالأديان، لكنني سأحاول طرح مثال بسيط:

اذا افترضنا وجود شخص يسكن بيتاً توارثه هو وآباؤه عن أجدادهم على مدى مئات السنين، البيت سيحتاج صيانة وإصلاح وتطوير مع ازدياد تعداد العائلة، وعليه مجاراة البيئة المحيطة كي لا يبدو شاذاً وسط القرية التي تتطلب أنظمة وقوانين تتغير مع الزمن لتلائم حاجات الناس ومتطلباتهم.

في هذه الحالة، لا يحق للرجل الذي نتحدث عنه أن يلوم من حوله إذا تعرّض منزله للانتقاد أو الإساءة من قِبل أبناء قريته، فهو من تقاعس ورفض التأقلم مع الظروف الزمنية المتغيرة منذ البداية.

الدين والبيئة الاجتماعية:

التربية الدينية
التريبة الاقصائية – صورة لـmisterminhaz من فليكر

تعتبر الأديان المرجعية والأساس لعدم تقبل الملحدين في المجتمع، بسبب طبيعتها الإقصائية بشكل عام، والنصوص التي تحتويها الكتب الدينية بما يتعلق بالملحدين واضحة تماماً، فهم أعداء الإله، وسبب الابتلاء والكوارث التي تحل على البشر، أما العقوبات فهي متشابهة تقريباً من حيث المبدأ في معظم الأديان (العذاب الأبدي بعد الموت)، لكن بعض الأديان قد تأخذ منحى أكثر تطرفاً، وتأمر معتنقيها بتكفيرهم وملاحقتهم وإقامة الحد الشرعي عليهم، والذي ينتهي عادة بالموت.

كي لا نبتعد عن هدف المقال، لن أخوض في أسباب عدم تقبل الآلهة لمن لا يؤمن بها، أو توعدها لهم بالعقاب، فالسؤال الأهم هنا هو عن الخطر الذي سيشكله وجود ملحد وسط بيئة متدينة.

بمعنى آخر، لكل حزب سياسي حزب معارض يختلف معه بالآراء والرؤى وآلية تطبيقها، وهذا أمر طبيعي. فإذا افترضنا أن الحزب الأول الذي يستلم مقاليد الحكم يساهم بشكل فعال بتطوير الدولة وتقدمها واستتباب الأمن والرفاهية للمواطنين وما إلى ذلك…

هل سيلتفت الأخير إلى الاتهامات والانتقادات التي يجاهر بها الحزب المعارض ضد الحزب الحاكم، ويتوقف عن دعمه في صناديق الاقتراع؟ ومع ذلك، وجود حزب معارض أمر ضروري لتوجيه الانتقادات والإشارة إلى المشاكل من أجل إقامة مجتمع صحي ومتوازن.

من جهة أُخرى، تلعب البيئة الاجتماعية دوراً هاماً في بناء شخصية الفرد منذ الصغر، فكلما زادت هيمنة الأديان على المجتمع وفرضت قوانينها عليه، زادت احتمالية ظهور أفراد متعصبين لانتمائهم الديني، وإقصائيين لمن يخالفهم عقائدياً.

وأكبر مثال على ذلك هو ”الدولة“ التي ظهرت في العقود الأخيرة الماضية باسم الدين، وتحت ذريعة ”أرض الميعاد“، فهجّرت السكان المحليين، وارتكبت بحقهم أفظع المجازر… وكل ذلك ضمن إطار الدين و شعار ”شعب الله المختار“.

حرية المعتقدات:

ميز السيناريست السوري د. ممدوح حمادة—بإحدى منشوراته على فيسبوك—بين ”السخرية“ و”المسخرة“، معتبراً أن الفرق بينهما كبير، ولا تجمع بينهما أية صلة.

فالسخرية بالنسبة له: ”فن راقٍ صعب يعتمد في إيصال الفكرة على المفارقة المختزلة والكلام غير المُقال“. أما المسخرة: ”تتسم بالبلاهة والسطحية وتعتمد على الثرثرة والإسهاب والفذلكات اللفظية السمجة، وغالباً ما تعبّر عن بلادة صاحبها“.

إذاً، تستخدم السخرية في النقد البناء، ويمكن توظيفها في تحسين الواقع الاجتماعي والنهوض به بطريقة لطيفة جذابة. أما المسخرة فهي هدامة، تسيء لصاحبها والفكرة المراد مناقشتها عند الطرح.

هذا الخلط بين المصطلحين وسوء استخدامهما من قبل الناقد ينتج عنه تأثيرات عكسية، فعندما يفشل بأسلوبه وطريقته بالتعاطي مع فكرة معينة، يثير حفيظة الفئة المستهدفة، وقد يسبب كوارث في البيئة التي يعيش فيها.

من جهة أُخرى، علينا التمييز بين من يقدم أفكاراً جادة وهمه الارتقاء بمجتمعه إلى واقع أفضل، وبين من يطرح أفكاره الهزلية بشكل سطحي سخيف بهدف الاستهزاء لا غير.

بناءً على ما سبق، ننتقل إلى مسألة حرية المعتقدات وقدسيتها وتحريم المساس بها. احترام الآخرين كالحب تماماً، غير مثمر إن كان من طرف واحد، وهو عبارة عن فرض الآراء على الآخرين بالقوة والترهيب، خصوصاً إن كانت قوانين الدولة تخضع لحكم دين معين، ما يؤدي إلى فرض شرائع ذلك الدين وإقصاء الآخرين، مع إمكانية فرض العقوبات الدينية على من يوجه انتقادات أو يطرح أفكاراً مخالفة لما هو سائد ومتعارف عليه.

في هذه الحالة موضوع احترام المعتقدات لن يقبل به المهمّشون الممنوعون من إبداء رأيهم وطرح أفكارهم بحرية، بما أن الطرف الأول هو من ألغاه وحظره من الأساس.

كلمة أخيرة:

الإيمان بإله أو ديانة معينة أو عدم الإيمان مسألة شخصية خاصة بين الإله وعبده، من حق أي شخص أن يكون حراً باختياره للمعتقدات التي تناسبه، لكن فرضها على غيره وقياس الأشخاص وتصنيفهم من هذه الزاوية (الدينية) أمر عبثي، فلكي نكون جادين في الحكم على الآخرين، علينا أن نترك الدين جانباً، ونتجرّد، ونبحث عن أساليب ووجهات نظر أكثر منطقية.

وكما قال المدون والكاتب العراقي علي رضا:

من الخاطئ أن نقول: قرأ كتابين فصار ملحداً، الأصح أن لديه تساؤلات، والإجابات التقليدية لم تعد مقنعة بالنسبة إليه.

مقالات إعلانية