كل من قرأ عن نشوب الحرب العالمية الأولى، يعرف قصة الصراع بين صربيا والنمسا الذي بدأ باغتيال ولي عهد النمسا ووريث عرشها الأرشيدوق (فرانز فرديناند) وزوجته على يد الطالب الصربي (غافريلو برنسيب) في مدينة سراييفو في نفس هذا الشهر من عام 1914.
تناولت معظم الدراسات السياسية والتاريخية، وحتى الأكاديمية، هذا الحدث حد الاغتيال وحسب، وتابعت في سرد تفاصيل الحرب، وأغفلت الجزء المثير من هذه القصة، وهو مصير مَنْ يقتل رجلاً سياسياً بهذه المكانة؟ هل سيواجه عقوبة الإعدام؟ أم السجن؟ أم البقاء في زنزانة لا ترى النور ولا الهواء؟
ببساطة، السجن عشرين عاماً لأنه لم يبلغ سن الرشد وإعدام كل أفراد عصابته، زنزانة لم يحتمل منها سوى أربعة أعوام وترك على أحد جدرانها رسالة مفادها أن أشباحهم ستبقى تتجوّل في فيينا ضمن القصور والأمراء يرتجفون.
قد يرتجف الأمراء والملوك والرؤساء والساسة، وقد يُصفعون ويرشقون بالبيض والحجارة وغيرها، وقد يتحوّل هذا المشهد التلفزيوني الذي يُبث عبر شاشات التلفزة إلى لقطة تاريخية دائمة، ولكن ما بعد نهاية المشهد ما الذي يحصل؟
ماكرون وصفعة ”كفراق الوالدين“
كأي رئيس جمهورية، نزل الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) ليتجول في منطقة دروم جنوب شرقي فرنسا، استقبله جزء من أهل المنطقة ليتفاجأ بشاب (28 عاماً) يصفعه وهو يردد ”تسقط الماكرونية“ و”مونتجوي سانت دينيس“، والأخيرة صرخة رددتها الجيوش الفرنسية عندما كانت البلاد لا تزال ملكية. قام شاب آخر بتصويره، وخلال ثوانٍ قليلة، هجمت الحاشية الأمنية على الشاب من ناحية، وعلى الرئيس لحمايته من ناحية أخرى، فكانت صفعةً قوية كما نصفها بالعامية ”كفراق الوالدين“ من شاب رياضي يدير نادياً لعشّاق الألعاب القتالية وفنون المبارزة بالسيوف.
أراد (ماكرون) جس نبض البلاد بعد جائحة كورونا، وقبل عام واحد من الانتخابات الرئاسية، فكان جس نبضٍ علني لشعبيته، واعتُبر الحادث فردياً، وقال (ماكرون) أنه لا يمكن أن يكون هنالك عنف أو كراهية في لغة الخطاب أو الأفعال، وإلا ستكون الديمقراطية ذاتها هي المهددة، واستمر في مصافحة الناس بعد الصفعة، علماً أنها ليست الحادثة الأولى التي يواجهها ماكرون.
في السابق، تلقى (ماكرون) بيضةً على رأسه ألقاها مزارع خلال زيارته معرض الزراعة السنوي في باريس عام 2018، وواجه العديد من محتجي السترات الصفراء أثناء تنزهه في حديقة تويلوري قرب متحف اللوفر مرددين عبارة ”استقيل يا ماكرون“، علماً أن المشهد صُوّر على الكاميرات ولكن لم ينتشر حينها.
حوادث مشابهة… والبيض يبقى السلاح الأفضل
لرؤساء فرنسا صفحات طويلة من كتاب المواقف المهينة مع الشعب، فتعرّض الرئيس السابق (فرانسوا أولاند) إلى هجوم بالدقيق خلال رحلة إلى مؤسسة آبي بيير في باريس، بينما تلقى (نيكولا ساركوزي) هو الآخر رشقة بالبيض، ولكن هذه المرة في آيرلندا، ورشقات أخرى من البيض في مدينة بايون جنوب غرب فرنسا، فلم يجد أمامه في الحالة الأخيرة سوى الاختباء داخل مقهى تحت حماية شرطة مكافحة الشغب. أما الرئيس الراحل (جاك شيراك) فلم يكن البيض أو الدقيق من نصيبه، بل محاولة اغتيال من ناشط يميني متطرف عام 2002.
قد يعتبر البعض أن المناخ الديمقراطي الفرنسي حار، ويسمح لأي مواطن بالتعبير عن غضبه بهذه الطرق، ويرى البعض أن رؤساء فرنسا، في القرن الحالي، لم يفلحوا في التقرّب من الجمهور، أو أن الانقسام السياسي شرّ لا بد منه، ولكن لم تكن فرنسا وحدها صاحبة هذه المشاهد: إذ يبدو أن المواطنين عموماً يتشاطرون الرغبة الجامحة في قذف قادتهم، كالمستشار الألماني السابق (هيلموت كول) الذي قام متظاهرون برشقه بالبيض عام 1991 في مدينه هاله، ونفس الحادثة أصابت السيناتور (فرايزر مانينج) بعد تصريحاته ضد المسلمين، فتلقى بيضةً استرالية من مراهق على الهواء مباشرةً، ورئيس الحكومة الإيطالي السابق (سيلفيو برلسكوني) الذي أصابته قطعة حديدية من مواطن أدت لكسر في مختلف أنحاء وجهه.
القادة وتاريخ من القذف بالأحذية
قد تكون الحادثة الأشهر في العصر الحديث من نصيب الرئيس الأمريكي الأسبق (جورج بوش الابن) الذي قُذِف بحذاء الصحافي العراقي منتظر الزيدي عام 2008 أثناء انعقاد مؤتمر صحافي في بغداد، حينها سخر (بوش) من الموقف بتصريحه أن قياس الحذاء كان 43.
لم تسلم (هيلاري كلينتون)، وزيرة الخارجية السابقة، من حوادث مشابهة، وتلقت حذاءً على وجهها من سيدة خلال مشاركتها في مؤتمر بمدينة لاس فيغاس، ولكن لم تعرف (كلينتون) حينها ارتفاع الكعب كـ (بوش)، أو كرئيس وزراء باكستان السابق (نواز شريف) الذي واجه صفعةً بالحذاء في لاهور عام 2018، وكذلك الرئيس التركي (رجب طيب إردوغان) الذي صُفِع أيضًا بالحذاء في إسبانيا عام 2010 من مواطنٍ كردي. وفي العام نفسه، تعرض (طوني بلير) رئيس الوزراء البريطاني الأسبق إلى الرشق بالحذاء في دبلن، أما الرئيس الإيراني (أحمدي نجاد)، فواجه حذاءً سورياً خلال زيارته لمصر عام 2013.
للقانون حسم؟
لكل دولة قوانينها من ناحية التعرض أو المساس قولاً أو فعلاً برجل دولة، ولا سيما عندما يكون بمرتبة رئيس أو ملك. قد لا يفرّق القانون فيما لو كان الهجوم ببيضة أو حذاء، ولكنه حتماً يقول كلمته، فالشاب الذي صفع (ماكرون) سيواجه النص الفرنسي الذي يعاقب أي معتدٍ على شخص يمارس سلطة عامة في فرنسا، وهو السجن 3 سنوات ودفع غرامة 45 ألف يورو، ولكن المحكمة أصدرت حكمها عليه بالسجن 4 أشهر نافذة و 14 شهراً إضافياً مع وقف التنفيذ، بالإضافة إلى منعه من تولي أي منصب في فرنسا ومنعه من حيازة الأسلحة لمدة 5 سنوات، وهو نفس الحكم الذي نُفّذ بالمعتدي على ساركوزي عام 2011 في منطقة لوت إي غارون في جنوب غرب فرنسا.
وتشترك معظم الدول الأوروبية في مسألة العقوبة حول الاعتداء على موظف عام أو رجل دولة، ولكن الموضوع يعود لتقدير القاضي حول الحادثة وتفاصيلها وحجم الضرر وغيرها، وفي قضية منتظر الزيدي وضربه الرئيس (جورج بوش)، لا يمكن أن يُطبّق عليه القانون الأمريكي كونه عراقياً والحادثة وقعت في بغداد، فكان من المفترض أن تكون العقوبة تحت بند إهانة رئيس دولة أجنبية وخاصةً أنه في زيارة رسمية، وعقوبتها السجن من سبع إلى خمس عشرة سنة وفقاً للمادة رقم 111 من قانون العقوبات العراقي، إلا أن المحكمة العراقية حكمت عليه بالسجن ثلاث سنوات قابلة للتمييز، وبعد الطعن تم تخفيف الحكم إلى عام واحد لم يقضِ سوى ثلاثة أرباعه.
أما في الدول العربية، فالقانون مختلف: في المملكة السعودية مثلاً، يعتبر الاعتداء على رجل السلطة العامة أثناء تأدية عمله جريمة موجبة للتوقيف، ويتيح القانون للقاضي ناظر الدعوى حقّ تقدير حجم الضرر وفرض العقوبة المناسبة. أما في الأردن، فينصّ قانون العقوبات بمادته رقم 187 على أن الاعتداء على موظفٍ عقوبته السجن مدة 6 أشهر، أما الاعتداء على الأمن العام والمخابرات وغيرها يصل إلى سنة، وكذلك الأمر بالنسبة للعديد من الدول.
ماذا لو كان الاعتداء على رئيس عربي؟
لم نسمع في الغالب عن أي اعتداء من هذا النوع في الدول العربية، على الأقل في التاريخ المعاصر، علماً أن بعض القادة تعرضوا للاغتيال أو لمحاولات، كالرئيس العراقي عبد الكريم القاسم، والملك فيصل بن عبد العزيز، والرئيس المصري أنور السادات، والرئيس اللبناني رينيه معوّض، والرئيس الجزائري محمد بوضياف، بالإضافة لرؤساء حكومات وغيرهم.
لكن حالات اعتداء عادية من قبل مواطنين أمر نادر الحدوث، بسبب الحراسة الأمنية المشددة والتفتيش وغيرها من الإجراءات التي يتم اتخاذها، علماً أن رؤية رئيس عربي يسير بين المواطنين مشهد لا نراه كل يوم في الشوارع العربية، ولو حدث، ففي الغالب يكون مدبّراً ومنظّماً من قبل.
أما الشتائم والقذف، فمن الطبيعي أن تحدث، ولا سيما خلال فترة الثورات والانتفاضات العربية، ولكنها تكون جماعية، علماً بوجود قوانين رادعة في الدول العربية: ففي قانون العقوبات اللبناني مثلاً، تعاقب المادة 384 كل من حقّر رئيس الدولة بالسجن مدة ستة أشهر إلى سنتين، فيما تشير المادة 209 من القانون نفسه إلى أن العبارات المسيئة تعتبر منشورة إذا ما عرضت في مكان عام أو وزّعت على شخص أو أكثر، والقضاء الجزائي هو من يحاسب.
أما في قانون العقوبات السوري ووفقًا للمادة 374، يعاقب من حقّر رئيس الدولة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وتفرض العقوبة نفسها على من حقّر العلم أو الشعار الوطني علانيةً، وتختلف بعض المنظمات الدولية مع هذه القوانين مثل منظمة العفو الدولية التي تحفظ حقوق الشعوب حتى لو تعرضوا بالسباب والشتيمة في المواقف الصعبة والمصيرية.
لهذا السبب، يمكن أن يكون شتم رئيس في دولة أجنبية تصرفاً عاديًا، أو ليس مستغرباً على أقل تقدير، لذلك دائماً ما نروي النكات والقصص في شوارعنا العربية حول هكذا مواضيع، كقصة الأمريكي الذي تباهى بالديمقراطية في بلده وقال أنه يستطيع شتم الرئيس الأمريكي في شوارع واشنطن، ليجيبه العربي أنه هو أيضاً قادرٌ على شتم الرئيس الأمريكي في الشارع العربي، وهو ما يدل على حالة الخوف التي سرعان ما تصيب نفوس العرب عند ذكر أصحاب المناصب العالية. كثيراً ما سمعنا، وخاصةً في السنوات الأخيرة، أن أشخاصاً اعتقلوا أو اختفوا ”وراء الشمس“، مثلما يُقال، بسبب شتيمة أو نقد على مواقع التواصل الاجتماعي أو إساءة وجهوها إلى السلطة في بلادهم العربية.
من الطبيعي أن نرفض، بحكم المدنية والحضارة، أي شكل من أشكال الإساءة والعنف اللفظي أو الجسدي تجاه كائنِ من كان، وهنالك أساليب مختلفة للتعبير في طبيعة الحال، ولكن لا يمكنك أن تنفخ ”البالون“ إلى أقصى طاقته وتتفاجأ عندما يفقع! أو أن تجرّد هذا الحدث من أسبابه، وهذا ما ينطبق على تصرّف المواطن الفرنسي –مهما كانت غاياته– فهي غايات غير شخصية، ولا يريد الثأر من رئيس الجمهورية، لكن في حالة الشعوب العربية، والتي تتعرض إلى ضغوطات حياتية شخصية وعامة من الصباح إلى المساء، فهل يحرّم عليها حق الاعتراض؟!