in

صاحب المقام.. أن تهاجم خرافات السلفيين فتدعو لخرافات الصوفية!

أزعم أنني من القلة النادرة التي تابعت الكاتب والسيناريست إبراهيم عيسى في جميع أعماله، قرأت معظم كتبه وشاهدت برامجه وأخيرًا أفلامه، هذا ليس شيكا على بياض لاقتناعي بأفكاره، لكني على الأقل أعرف أنه سيقدم شيئا جديدا سواء اتفقت أو اختلفت معه، لذلك حين أقول أن ”لحم دماغي من خيره“ فهذا تأكيد للواقع ليس أكثر.

ومنذ أن تم الإعلان عن فيلم «صاحب المقام»، التجربة السينمائية الثالثة لعيسى كسيناريست، وأنا انتظره، فما نُشر عن الفيلم قبل طرحه يشير لمناقشته لقصة الأضرحة وأولياء الله الصالحين، وتوقعت أنه سيناقش الفرق بين التبرك والسلطة الروحية لهذا العالم، وبين الإنسياق للغيبيات و”الدروشة“ غير المسموح بها.

وتوقعاتي تلك أساسها أن إبراهيم عيسى ليس سيناريستا محترفا يكتب من أجل المال فقط، لكنه يطرح أفكاره في أعماله السينمائية تماما مثلما ناقش في فيلمه الأول «مولانا» التعصب لكل دين، وفيلمه الثاني «الضيف» النظريات التي يؤمن بها الإرهابي والحرية.

لكن تلك التوقعات خابت بعد مشاهدتي لـ«صاحب المقام» الذي ينحاز بالكامل لفكرة أن أولياء الله الصالحين قادرين على التحكم في حياتك، وأن ”التسليم“ بقدرتهم هو السبيل الوحيد للنجاة.

ففيلم «صاحب المقام» تدور قصته حول بطل الفيلم آسر ياسين (يحيى)، الذي يقرر هدم أحد الأضرحة من أجل مشروع تقوم به شركته، وبمجرد هدم ضريح سيدي هلال؛ تتكالب المصائب عليه وترقد زوجته في المستشفى دون سبب طبي واضح، وينصحه الأقربون أن ما يحدث نتيجة هدم الضريح، فيبدأ البطل في الإيمان بذلك.

وحلًا للمشكلة يذهب بطل الفيلم لضريح الإمام الشافعي، وبطريقة ما يحصل على الرسائل التي يرسلها له الزوار ومطالبهم ليصبح ”رسول الإمام الشافعي“، ويبدأ في تحقيق أحلامهم، وبالتالي تشفى زوجته في النهاية بعد أن يؤمن بطل الفيلم إيمانا كاملا بقدرة الأولياء.

لم يخلُ أيضًا الفيلم من وجود ”أرواح“ غير مرئية، وهو الدور الذي لعبته (يسرا)، فهي تظهر في كل مكان وتختفي وتمنح البطل رسائل ليسير في مشواره وتمنعه من اليأس، وينتهي الفيلم بإقامة الضريح الذي هُدم بعد بانوراما عن شكاوي الناس البسيطة وتعلقهم بالأولياء.

شخصيًا ليس لدي أزمة مع الأضرحة وزيارة ”الأولياء“، وإن كنت أرى أن سلطتهم روحية ليس أكثر، لكن بعيدًا عن المؤمنين بقدرتهم والرافضين لها؛ يبقى السؤال الذي شغل عقلي هو كيف تخلى إبراهيم عيسى عن أفكاره بتلك الطريقة وما هو السبب!

فبصفتي متابعا لـعيسي أستطيع القول بلا مبالغة أن قضيته الأساسية التي ظل يروج لها في كتبه أو برامجه المتعلقة بالتراث والشأن الديني هي قضية تحرير العقل العربي من سجن الكتب والروايات المفروضة، والتفكير في كل شيء وتفنيده ونقده إن لزم الأمر، ونظرة واحدة على ضيوفه في برنامجه «مختلف عليه» تؤكد ذلك، بداية من مفكرين مثل فراس السواح وحيدر إبراهيم، ووصولًا ليوسف الصديق الذي دعى لقراءة القرآن من جديد، وكلهم لديهم أفكار غير تلقيدية.

بل ومنذ عام قدم عيسى حلقة بعنوان «الجن والخوارق في الإسلام» ناقش فيها قصة الإيمان بالغيبيات وأن هناك أرواح تتحكم في حياتنا، وهاجم بضراوة شديدة كل من يؤمن بذلك، واتهم السلفيين صراحة بأنهم وراء تلك ”الخزعبلات“ التي تجعل الإنسان يكفر بقدرة الله ويجعل له شركاء في الحياة، مؤكدًا أن العقل وحده هو الطريق مع احترام كافة السلطات الروحية التي يؤمن بها الإنسان.

لكن ما قاله عيسى وقدمه على مدار السنين الماضية تهاوى على أعتاب «صاحب المقام»، فالكاتب الذي دعانا للإيمان بأن ”الله وحده هو المتحكم في مصير البشر“؛ يقنعنا في فيلمه أن هناك ”وليّا“ أي كانت قيمته الدينية يستطيع قلب حياتك رأسًا على عقب، ومن رفض وجود أي حديث عن الجن والخوارق، يوظف في عمله السينمائي ”روحا تظهر وتختفي“، وأخيرًا يؤكد لنا أن ”الأضرحة“ لا يمكن هدمها لأنها قادرة على الفعل من العالم الآخر.

ما الذي دفع عيسى إلى تقديم أفكار تناقض أفكاره كليا وتعد سقطة في تاريخه؟ في اعتقادي أن السبب الأساسي هو معاداته التاريخية للسلفيين، وهي معاداة أتفق معها تماما أمام هذا التيار الذي تسبب في كافة الكوارث التي نعيشها حتى الآن وعلى رأسها الإرهاب.

وإبراهيم عيسى الذي اعتاد على نقض ما يروجه تيار السلفية؛ لم يخف ذلك حتى في فيلمه «صاحب المقام»، فقد أشار إليهم باعتبارهم يد رجال الأعمال لهدم الأضرحة التي يحرمون زيارتها، ويعتبرون المتبرك بيها كافرا يجب أن يتوب.

وقبل ذلك أشار عيسى إلى فكرة تحريم السلفيين لزيارة الأضرحة وهاجم ذلك باعتباره تشدد، لكن عيسى الذي أراد مهاجمة السلفيين من حيث لا يدري، أو ربما يدري، وقع في الفخ، فبدلًا من الانحياز للعقل روّج لخرافات غلاة الصوفية باعتبار ”الأولياء آلهة أخرى“ قادرة في التحكم في حياة البشر!

مقالات إعلانية