in

أحداث الشيخ جراح: خير مثال عن ازدواجية المعايير المطلقة التي ابتلي بها هذا الصراع

هنا نرى ازدواجية المعايير بأبهى صورها: ”يحق لي ما لا يحق لعدوي“، فالمحاكم الإسرائيلية تطرُق مطرقة العدالة لإعطاء حق العودة لليهودي، وتطرقها بذات الوقت لمنعه عن الفلسطيني

صورة: Angelie Zaslavsky / The Forward

امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية الأسبوع المنصرم بالصور والفيديوهات والكتابات والقصائد عن المظاهرات وأحداث العنف التي اجتاحت ناحية الشيخ جراح في القدس. إن كنت تعيش تحت صخرة، فحوى القضية هي أن المحاكم الإسرائيلية قد أقرت بإخلاء عددٍ من سكان الحي الفلسطينيين وإعطاء بيوتهم لعدد من العائلات الإسرائيلية اليهودية.

صورة جوية تظهر حي شيخ جراح في الخلفية. صورة: Wikipedia

بالطبع، أثارت هذه القرارات حفيظة عدد هائل من الناس في الأوساط المناصرة للقضية الفلسطينية، أولها بسبب تجاهل الجانب الإسرائيلي كافة القوانين الدولية التي تحيط بالوضع السياسي لشرق القدس، وآخرها بسبب الأزمة الإنسانية التي قد حلت بسكان هذا الحي الفلسطينيين. لكن إن نظرنا إلى ما وراء أزمة أهالي هذه البيوت، سنرى كمّ ازدواجية المعايير الهائل في هذه القضية، والذي اعتدناه من طرفي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني السرمدي، بالأخص من الجانب الإسرائيلي، وهو الجانب الأقوى في هذا الصراع والذي يتحمل القدر الأكبر من المسؤولية فيه.

لنبدأ بـنبذة تاريخية بسيطة: أُنشئت ناحية الشيخ جراح في القرن الثاني عشر إبان انتصار صلاح الدين الأيوبي على الجيوش الصليبية واستعادته مدينة القدس، وسكنها خلال القرون عددٌ من العائلات المسلمة العريقة –كعائلتي الحسيني والنشاشيبي– إضافةً إلى عدد من العائلات اليهودية والمسيحية. وفقًا للإحصاء العثماني عام 1905، سكن في ناحية الشيخ جراح 270 عائلة –167 عائلة مسلمة في أحياء متعددة، وست عائلات مسيحية، و97 عائلة يهودية قطن معظمها في حي شمعون الصالح (شيمون هاتسادك) وحي ملكية شمعون (نخلات شيمون) نسبة لرئيس كهنة الهيكل الثاني شمعون الذي يعتقد أنه دُفن في المنطقة.

بعد سقوط الدولة العثمانية، أدى تنامي الحركة الصهيونية وتصاعد العدوان بين عرب ويهود فلسطين إلى الطرد التدريجي للسكان اليهود من أحيائهم في القدس، من ضمنها ناحية الشيخ جراح، انتهت أخيرًا مع استيلاء الأردن على شرق القدس إبان حرب عام 1948 وطرد آخر مواطن يهودي من المنطقة. قامت بعدها الحكومة الأردنية بالتنسيق مع الأنروا بإسكان 28 عائلة فلسطينية نازحة في بيوت الشيخ جراح التي أخليت من سكانها اليهود.

يهودي يمرّ أمام مقتنيات عائلة فلسطينية في حي شيخ جراح. صورة: Miriam Alster/Flash90

نعود إلى يومنا هذا، لنرى أناسًا يعرّفون أنفسهم كأحفاد تلك العائلات اليهودية التي طُردت من ناحية الشيخ جراح، حيث يطالبون المحاكم الإسرائيلية بإخلاء سكان منازل أجدادهم ليسكنوها بأنفسهم، مدعين أن هذه البيوت من حقهم وأن أجدادهم طُردوا منها عنوة.

نزاع الملكية الدائر في الشيخ جراح ليس بجديد، بل بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي، وعلى إثره تم الاتفاق مع بعض سكان هذه البيوت أن يدفعوا آجارًا سنوية للملاك اليهود مقابل التمتع بحق تام في السكن دون مضايقة أو خطر الإخلاء، إلا أن أغلبية السكان رفضوا هذه التسوية لأسباب سياسية. للمهتمين، يلخص هذا التقرير، من منظمة عير عميم الخيرية، الرحلة القانونية لهذا النزاع.

إن بدت هذه القصة مألوفة لك، فهذا لأنها فعلًا كذلك: تلك هي ذات الحجة التي أقامها الشتات الفلسطيني على مدى خمس وسبعين سنة: عائلات طردت من بيوتها الأصلية واستولى عليها آخرون يطالبون بحقهم بالعودة إليها.

وهنا، أعزائي القراء، نرى ازدواجية المعايير بأبهى صورها: ”يحق لي ما لا يحق لعدوي“، فالمحاكم الإسرائيلية تطرُق مطرقة العدالة لإعطاء حق العودة لليهودي وتطرقها بذات الوقت لمنعه عن الفلسطيني.

من السهل تفهم حنق الجانب الفلسطيني في هذه القضية: فهذا شعب يتعرض لشتى أنواع التضييق والظلم والتنكيل، لا يتمتع بأي حق من حقوقه المدنية وفي ذات الوقت يرى أفرادًا من عرق آخر –أحيانًا في نفس الحي– يتمتعون بكل ما هو محروم منه، ثم تأتي القشة لتقصم ظهر الجمل: ”حق العودة“ لعرق دون الآخر. وهذا مجرد امتداد لتاريخ حافل بالقوانين الجائرة المبنية على العرق والدين، بدءًا من حقوق المواطنة إلى حقوق التملّك وصولًا إلى حقوق المياه أو حرية التنقل وغيرها.

لكن بدلاً من استغلال الطرف الفلسطيني ازدواجيةَ المعايير تلك من أجل تسليط الضوء على عنصرية التعامل الإسرائيلي مع كل شيء يخص فلسطين وأهلها، اكتفى الفلسطينيون برفض مطلق لحق سعوا منذ عقود إلى الحصول عليه. وهكذا، بازدواجية مماثلة، يتظاهر الفلسطيني حاملًا مفتاح منزل أجداده بيمينه ويكسر مفتاح أجداد اليهودي بيساره.

وهذا غيض من فيض في صراع يكيل كل طرف فيه بمكيالين: واحد له وواحد لعدوه، ثم يتهم الآخر بالفعل ذاته.

مقالات إعلانية