in

هل الأرض مسطحة؟

غالباً قد تجد هذا السؤال سخيفاً جداً، وربما معك حق بهذا الشأن كون الأدلة المتراكمة على كروية الأرض لا تترك مجالاً للشك في الأمر، لكن قبل أن تتعجل بالأمر ربما يستحق الأمر الخوض قليلاً بمصدر فكرة الأرض مسطحة وتاريخها، وحتى الحجج التي يستخدمها أتباع هذه النظرية الغريبة.

ومع أن الأمر قد يبدو وكأنني أتحدث عن نظرية يصدقها بضعة أشخاص فقط، فقد يكون من الصادم أن تعرف أن هناك العديدين من أتباع هذه النظرية في العالم حالياً، وبشكل غريب فالتقنية الحديثة ساهمت بانتشارهم أكثر.

عند التفكير بالحديث عن كروية الأرض، فقد يعتقد العديد من الأشخاص أن البشر كانوا يظنون بكون الأرض مسطحة حتى وقت قريب، فيظن الكثيرون مثلاً أن جاليليو (الذي عاش بين عامي 1564 و1642) هو من قدم فكرة كون الأرض كروية لا مسطحة، أو أن كريستوفر كولمبوس قام برحلته الشهيرة لإثبات كروية الأرض، هذا الاعتقاد خاطئ وبشدة في الواقع، ففي وقت جاليليو كان موضوع كروية الأرض معروفاً ومنذ زمن طويل ورحلة كولمبوس كان لها العديد من الأهداف، لكن أياً منها كان إثبات كروية الأرض.

تاريخ معرفتنا بكروية الأرض

الأرض المسطحة والكروية
يعتقد الكثيرون أن اكتشاف كروية الأرض جديد نسبياً حيث يربطه البعض بالعالم الإيطالي جاليليو أو بالمستكشف كولمبو، لكن كون الأرض كروية معروف منذ آلاف السنوات وحتى أن قطرها قيس بدقة قبل أكثر من 2000 عام.

للوهلة الأولى، قد تبدو الأرض مسطحة حقاً، فنحن نسير عليها بشكل دائم ولا نحس بانحنائها، وعند النظر إلى الأفق فنحن نرى خطاً مستقيماً لا دائرياً، وحتى عندما نكون على متن الطائرات أو على قمم الجبال العالية فالأفق يستمر بالظهور كخط مستقيم لا كمنحنىٍ يوحي بكروية الأرض.

لكن في الواقع فالأدلة على هذا الانحناء موجودة حولنا في كل مكان، ومنذ عهد الإغريق القدماء لاحظ أسلاف اليونانيين الحاليين أن المراكب القادمة من بعيد لا تظهر كلها دفعة واحدة، بل في الواقع تبدأ بالظهور من قمتها حتى أسفلها، وهذه ربما كانت أولى الإشارات إلى انحناء الأرض وكرويتها.

معرفة أن الأرض كروية الشكل قديمة كفاية بحيث أن العالم اليوناني إراتوستنس كان قد قام بحساب قطر الأرض بدقة عالية جداً وذلك عندما لاحظ أن ظل عصاً مغروزة في الأرض يختلف بالطول بين الإسكندرية (أقصى شمال مصر) وأسوان (في أقصى الجنوب)، وبالاعتماد على المسافة بين المدينتين والاختلاف بطول الظل تمكن من حساب الزاوية بينهما وبين مركز الأرض، وبالتالي محيط الأرض وقطرها، هذا كله حدث في القرن الثالث قبل الميلاد، أي قبل قرون حتى من ظهور المسيحية والإسلام.

من المرجح أن أصل الاعتقاد بأن البشر في القرون الوسطى اعتقدوا بكون الأرض مسطحة يعود غالباً إلى العصر الحديث وعلى شكل إهانات من فئات لأخرى، فالاعتقاد بكون الأرض مسطحة يعني مناقضة العلم تماماً ومرادف للجهل وبالتالي فهو مذمة كبيرة، ومع الوقت يبدو أن تكرار هذا النوع من الإهانات تسبب باعتقادنا بان كولمبوس أو ماجلان اكتشفوا كروية الأرض، بينما أنهما قاما برحلتيهما في الواقع بشكل مبني أصلاً على كون الأرض كروية.

من أين أتى الاعتقاد الحديث بكون الأرض مسطحة؟

Wilbur Glenn Voliva
في الصورة يظهر Wilbur Glenn Voliva الذي يعد إلى حد بعيد الأب الجديد لنظرية الأرض المسطحة.

في العصور القديمة للغاية كان الأمر بسيطاً جداً، فالبشر لم يكونوا يمتلكون معدات أو معلومات كافية لتعطيهم أي اعتقاد آخر، وطالما أن البشر يسيرون على ما يبدو مسطحاً فالاعتقاد بالأرض المسطحة كان أمراً منطقياً في ذلك الوقت، ومع أن اكتشاف كروية الأرض وحتى أول حساب قريب من الدقة لقطرها جرى منذ قرون طويلة، فالأمر لم ينتشر بسهولة وسط العامة وكان إلى حد بعيد أمراً معروفاً في الطبقات المتعلمة وبين العلماء والباحثين، بينما كان العامة مشغولين بتأمين عيشهم أكثر من أن يهتموا أصلاً إن كانت الأرض مسطحة أو كروية أو حتى مكعبة.

طوال سنوات طويلة وضمن المناطق التي توقفت فيها المساعي العلمية والمعرفية مثل المنطقة العربية في نهاية الخلافة العباسية، استمرت فكرة الأرض المسطحة في الوجود مستندة إلى آيات من القرآن يمكن تفسيرها للدلالة على ذلك بسهولة، وفي الواقع كانت عاملاً أساسياً لإعادة تقوية النظرية في العالم العربي مجدداً بعد ظهورها الحديث في الغرب في بداية القرن العشرين.

كانت فكرة كون الأرض المسطحة في الغرب قد ماتت منذ زمن، إلا أنها عادت في عام 1906 مع شخص باسم Wilbur Glenn Voliva الذي كان يتزعم طائفة دينية غريبة شبه متحكمة بشكل كلي ببلدة Zion في ولاية Illinois الأمريكية، وهناك قام بنشر الفكرة وحتى فرض تعليمها في المدارس في المنطقة لمدة من الزمن مستفيداً من القوانين الإدارية المعقدة في الولايات المتحدة الأمريكية، لاقت عودة فكرة الأرض المسطحة إعجاباً كبيرة من بعض الفئات المعادية للحكومة والتي ترى الحكومات كشرٍّ مطلق ومؤامرة عظيمة لمنع ”المعرفة الحقيقية للبشر“.

في الواقع، انتشار هذه الأفكار كان محدوداً لمدة طويلة، لكنه بدأ يلاقي زخماً حقيقياً مع انتشار الإنترنت، وبات من الممكن لمختلف مصدقي نظريات المؤامرة نشر أفكارهم بحرية أكبر وبتكاليف أقل ولجماهير أوسع، وبالطبع كما الكثير من المعتقدات الغريبة ونظريات المؤامرة الحالية جاء دعم بعض المشاهير كالمغني B.o.B والممثلة والمغنية Tila Tequila كعامل إضافي لانتشار الأرض المسطحة، وصوغ مبررات ونظريات جديدة لتبرير الأرض المسطحة حسب اعتقادهم.

كيف يرد مؤيدو الأرض المسطحة على الأدلة المعاكسة؟

في حال لم تكن منهم، فأنت على الأرجح تعرف العديد من الأدلة المتنوعة والتي تكفي لهدم فكرة كون الأرض مسطحة تماماً، لكن للأسف فالحقائق لا تترجم لإقناع في العديد من الحالات، ومقابل الأدلة العديدة التي تؤكد كروية الأرض، فهم يقدمون إجابات مبنية بعناية لتبدو منطقية ولتبرر موقفهم.

هنا سأحاول ذكر أهم هذه الردود:

– مشكلة الجاذبية:

الجاذبية في الأرض المسطحة
الجاذبية هي أكثر شيء لا يمكن تطبيقه على أرض مسطحة، والتفسيرات المستخدمة تبدو غريبة بشكل مضحك أحياناً.

قوة الجاذبية هي قوة تجعل الأجسام ذات الكتل تتسارع باتجاه بعضها البعض، حيث أن مركز تأثير القوة بالنسبة للجسم الآخر هي مركز الجسم الأول، وبالنسبة للأرض -فطالما أنها كروية- فمركزها هو المكان الذي ينجذب إليه كل ما هو على سطحها، ونتيجة كرويتها وقطرها الكبير فلا يوجد اختلافات كبرى في تسارع الجاذبية التي هي عادة حوالي 9.81 m/s^2 وستتطبق على الأجسام حول الأرض على أي مكان على سطحها بحيث يكون الأسفل باتجاه مركز الأرض والأعلى بعيداً عنها، لذلك لا يسقط الأشخاص في أستراليا عن الأرض مثلاً لأنهم ليسوا في الأسفل في الواقع.

تظهر المشكلة عند تطبيق الجاذبية على الأرض المسطحة، ففي حال كانت قرصية الشكل (وهو الاعتقاد الأكثر شيوعاً) فمركز ثقلها سيكون منتصفها، وعموماً فالأشخاص الذين يعيشون في المنتصف أو الأماكن القريبة منه لن يجدوا أي اختلاف عن الحياة الطبيعية، لكن بالابتعاد عن المركز ستبدأ الأمور بالتغير بشكل متزايد، فتسارع الجاذبية لن يكون للأسفل في المناطق على الأطراف بل سيصبح مائلاً، وكلما ابتعدت عن المركز سيصبح السير مبتعداً ولو على مكانٍ مستوىٍ أشبه بتسلق الجبال في الواقع.

لتبرير الأمر فالعديد من جماعات الأرض المسطحة يلجئون لواحدة من طريقتين: الجاذبية موجودة لكن كل ما نعرفه عنها خاطئ ونظريتا نيوتن وآينشتاين لا صحة لها أبداً، أو الخيار الثاني: الجاذبية غير موجودة أصلاً وهي مجرد كذبة ومؤامرة عالمية لإخفاء الحقيقة من قبل الحكومات ووكالات الفضاء.

هنا مشكلة بالطبع، ففي حال كانت الجاذبية غير موجودة إذاً لماذا تقع الأشياء باتجاه الأرض؟ الجواب هنا هو أن الأشياء لا تسقط إلى الأرض، بل الأرض ترتفع إليها فهي ترتفع بشكل مستمر وبتسارع 9.81 m/s^2 بشكل يحاكي الجاذبية.

أما كيف ولماذا تتسارع هكذا وكيف لم تصل لسرعة الضوء والسرعة الحدي بعد، فالمؤامرة تأخذ الدفة مجدداً: لا يود سرعة حدية ومن الممكن التسارع أسرع من الضوء ونظريات آينشتاين بهذا الخصوص مجرد أكاذيب (وربما يشار لأصله اليهودي حتى من قبل العنصريين الغربيين أو المسلمين).

– الليل والنهار والمناطق الزمنية:

تفسيرات أصحاب النظرية التي تتضمن شمساً صغيرة وقريبة تتناقض مع كل ما نعرفه عن الزوايا والطاقة وانتشارها.

في العصور القديمة، كان من الممكن تفسير أمر الليل والنهار في ظل الأرض المسطحة بسهولة، فالشمس والقمر يدوران حول هذا المسطح الأرضي ويتسببان بالليل والنهار، لكن الأمر يمتلك مشكلة كبرى ظهرت لاحقاً مع تقدم الاتصالات وإمكانية الاتصال السريع بين أماكن متباعدة على الأرض: الاختلاف بالتوقيت بين المناطق المتباعدة عن بعضها البعض، ففي وقت غروب الشمس في لندن مثلاً، تكون الشمس لا زالت تشع بقوة في نيويورك وهذا الامر سيكون مشكلة في حال افتراض أن الأرض حقاً مسطحة.. على الأقل حتى تعرف الجواب الغريب للأمر.

وفق العديد من جماعات الأرض المسطحة فالأمر بسيط للغاية: الشمس لا تدور حول الأرض، بل تدور فوقها، وهي ليست نجماً كبيراً أو بعيداً في الواقع، بل مجرد كرة نارية بعرض 100 كيلومتر تدور فوق الأرض على ارتفاع بضعة آلاف من الكيلومترات، لذا فهي تنير المكان الواقع تحتها فقط، وبدورانها يبدو الأمر كالغروب.

فكيف تعمل الشمس وفي حال كانت كما يقول العلم فكيف من الممكن أن تحافظ على استمرارها، هذه أسئلة لم أجد إجابة من أي أحد عليها خلال بحثي في الأشهر الأخيرة.

– ماذا عن الصور الملتقطة من الفضاء؟

واحدة من الأشياء الأساسية التي أثبتت مراراً وتكراراً ما نعرفه لقرون طويلة حول كروة لأرض هي ببساطة الرحلات إلى الفضاء والعدد الهائل من الأقمار الصناعية المحيطة بنا في كل مكان، فحول الأرض حالياً أكثر من 2000 قمر صناعي تدور على ارتفاعات مختلفة ولأغراض متعددة تتراوح من الاتصالات إلى البث التلفزيوني الفضائي، وحتى خدمات تحديد المواقع العالمية (GPS) والتجسس لأغراض عسكرية.

لن تكون الأقمار الصناعية حول الأرض ممكنة دون أن تكون كروية الشكل ودون أن تكون الجاذبية وكل ما نعرفه عن قوانين الحركة صحيحاً، وبالطبع فتأكيد وجود الأقمار الصناعية لا يحتاج سوى مشاهدة التلفاز الموصول بلاقط فضائي، أو ببساطة تشغيل خدمات المواقع على أي هاتف ذكي حالي وسيكون وجود الأقمار الصناعية واضحاً من فائدتها.

وفق الردود التي رأيتها في عدة مرات وفي عدة جماعات عربية وأمريكية للأرض المسطحة، فالجواب على هذا الأمر يختلف من الادعاء بأن الأقمار الصناعية هي محطات بث مربوطة ببوالين كبيرة تبقيها عائمة عالياً في الهواء، أو أنها خدعة من محطات بث أرضية، أو أنها حقاً في الفضاء وتدور على مدارات عالية جداً معتمدة على تقنيات مجهولة تخفيها ناسا والحكومات العالمية.

أما بشأن الصور من الفضاء فالجواب هنا ربما واضح لأي أحد قابل أشخاصاً من جماعات تكذيب الهبوط على القمر أو تكذيب الرحلات الفضائية أصلاً، فالأمر بالنسبة لهم جزء من المؤامرة الكبرى بالطبع، والهبوط على القمر مجرد فيلم منتج في هوليوود والصور من الفضاء مجرد تصاميم صنعت على برامج تعديل الصور الشهيرة مثل Adobe Photoshop.

– الظلال المختلفة وظهور قمم السفن قبل أسفلها:

عندما تم قياس قطر الأرض الكروية للمرة الأولى كان الأمر بسبب الظلال، لكن أصحاب الأرض المسطحة اليوم يحاولون استخدام هذه الحجة لعكس الأمر.

بالنسبة للظلال المختلفة في الأماكن المختلفة على سطح الأرض ولو ضمن نفس الوقت ونفس اليوم من السنة، فبشكل غريب يبدو التفسير هنا نوعاً ما منطقياً، ولو أنه يقوم على التفسيرات الأخرى الغريبة جداً، فمع كون الشمس صغيرة جداً وقريبة للغاية من الأرض كما يصدق أصحاب نظرية الأرض المسطحة، فكون الظلال تختلف من مكان لآخر منطقية في الواقع كون الزاوية بين الشمس والنقطة المطلوبة تختلف حسب مكانها شمالاً أو جنوباً، لذا فبالنسبة لمن يعتقدون أن الشمس كرة صغيرة ملتهبة في كبد السماء فتبرير الظلال ليس مشكلة في الواقع.

أما بالنسبة للسفن التي تظهر قممها قبل أسفلها (وهو واحد من أولى دلالات انحناء الأرض في الواقع) فالرد يبدو غريباً جداً، فالبعض يدعي أن الأمر ناتج عن أمواج البحر، فيما يقول آخرون أن تبخر الماء بفعل الشمس (التي لا يزيد قطرها عن 100 كيلومتر) يسبب تشوشاً بالرؤية فيما يدعي آخرون أن الامر ”خداع بصري“ دون أي شرح إضافي للأمر أو تبرير للأمر بشكل واقعي.

كيف من الممكن أن تقنع أصحاب نظرية الأرض المسطحة بكرويتها؟

لأمر قد يبدو مغرياً للوهلة الأولى، فادعاء الأرض المسطحة أمر غريب للغالبية العظمى من الأشخاص وغرابة النظرية عموماً قد تدفع المرء للاعتقاد بأن النقاش سيكون سهلاً وحتى محسوماً بمجرد ذكر الأدلة العديدة والكثيرة على الأمر، خصوصاً وأن العلم بأكمله وكل ما نمتلكه الآن من تقنيات قائم على النظريات العلمية التي تؤكد كروية الأرض بشكل لا يقبل الشك، لكن الأمور ليست بهذه البساطة للأسف وربما أن تسأل مجرباً خير من أن تسأل حكيماً.

محاولة إقناع معظم أتباع هذه النظرية هو قضية خاسرة برأيي الشخصي على الأقل، واستهلاك للوقت الجهد والتفكير دون نتيجة، فالأدلة لا تحمل قيمة كبيرة لدى الجميع، وللأسف فمجرد كون أمر مؤكداً علمياً لا يعني أن الأشخاص جميعهم سيصدقونه، ووفق تجربتي فالأمر سيتحول في كل مرة إلى أخذ ورد دون نهاية، وأدلة ونظريات مضادة ستجد نفسك تقضي ساعات طويلة في محاولة دحضها واحدة بعد أخرى حتى تتعب وتترك الأمر.

في الواقع فالأمر ليس مختلفاً حقاً عن العلوم الزائفة كالأبراج والتنجيم وطاقة الجسد والعلاج بالأحجار والتخاطر وغيرها، فهذه الأمور تقدم حججاً مغلفة لتبدو منطقية تماماً، وتمتلك جماعات كبيرة حالياً بحيث أن العديد من الأشخاص يجدون الأمان فيها مهما تعرضوا للتكذيب من الخارج، فطالما أن الفئة التي اختاروها توافقهم سيجدون أنفسهم مرتاحين تماماً لأن يبقوا ضمن هذا الإطار الفكري الهش لكن الصلب في نفس الوقت.

مقالات إعلانية