in

لماذا تعتبر الركبة البشرية كارثة من ناحية التصميم؟

يعتبر تمزق الأربطة الصليبية على مستوى الركبة واحدة من أشيع الإصابات، حيث يعاني منها الكثير من نخبة الرياضيين المحترفين، بالإضافة إلى المراهقين الهواة الذين يمارسون الرياضات المدرسية في المدارس الإعدادية والثانوية.

بغض النظر عن الرياضيين، لابد أن لكل واحد منا شخص من أقاربه، عم أو خال أو جد أو جدة، يعاني من مشاكل في الركبة، وهو ما لا يعتبر مصدر مفاجأة إذا ما علمنا أنه في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها خضع حوالي 4.7 مليون مواطن لعملية جراحية لاستبدال الركبة.

من الواضح أن الركبة البشرية تعاني من بعض النقائص والعيوب، والمثير في الأمر أننا أصبحنا نشهد الآن من مشاكل الركبة أكثر من ذي قبل، لذا يتبادر إلى أذهاننا التساؤل التالي:

ما هي مشكلة الركبة؟ وما الذي يجعلها عرضة للإصابات بهذا الشكل؟

قام (نايثان لانتز)، وهو بروفيسور مختص في علم الأحياء في جامعة (جون جاي) في نيويورك بتأليف كتاب كامل حول نقائص التطور في الجسم البشري، وهو يقول فيه بأن جذور مشاكل الركبة البشرية تعود إلى ما بين 3 إلى 4 ملايين سنة في الماضي.

يقول البروفيسور (لانتز): ”نحن كبشر تطورنا من المشي والتنقل على أربعة أطراف إلى المشي على طرفين اثنين فقط بسرعة كبيرة، من وجهة نظر تطورية كان ذلك بمثابة تغير حدث في لمح البصر، وكل ما تقوم به بسرعة لا تقوم به بشكل جيد في الواقع“.

فرض علينا التطور تضييق الحوض من أجل السير باستقامة على ساقين، لكنه في نفس الوقت أعاق خروج أدمغتنا الكبيرة عند الولادة.
فرض علينا التطور تضييق الحوض من أجل السير باستقامة على ساقين، لكنه في نفس الوقت أعاق خروج أدمغتنا الكبيرة عند الولادة. صورة: Cheddar/Youtube

من بين جميع الأمور التي كانت تحدث، كان التغير المناخي هو ما دفع بأسلافنا إلى هذا التغير السريع منذ حوالي 4 إلى 5 مليون سنة في الماضي، حيث تقلصت الغابات المطيرة في أفريقيا ما دفع بأسلافنا إلى النزول من على أغصان الأشجار حيث وجدوا أنفسهم في وسط الحقول، وهناك تعين عليهم التكيف مع الوضع الجديد، ومنه السير على طرفين اثنين.

كان للسير على ساقين اثنين الكثير من الامتيازات، منها أن أسلافنا صاروا يسيرون بكفاءة أفضل من بقية القرود، كما ساعدهم ذلك على تحرير أيديهم من عملية التنقل، وبما أنهم كانوا يملكون أدمغة أكبر فصاروا يستخدمون أيديهم للقيام بمهمات متنوعة أكثر، مثل تطوير الأدوات وبقية الأمور على شاكلة نقل وحمل الأشياء.

حدث هذا الانتقال من المشي على أربعة قوائم إلى المشي على قائمتين فقط في أقل من نصف مليون سنة، وهو ما يعتبر فترة زمنية قصيرة للغاية، باعتبار أن التطور للمشي على أربعة قوائم كان قد حدث على مدى مئات الملايين من السنوات، من الثدييات الحديثة إلى الفقاريات وصولا حتى إلى أسلافها.

الآن يمكننا القول بأن التطور قام بعمل جيد في الكثير من الجوانب فيما يتعلق بصقل آليات الركبة البشرية باعتبار السرعة الكبيرة التي تطورت بها.

من وجهة نظر ميكانيكية، تطورت الركبة البشرية لتصبح ما يطلق عليه اسم ”الربط الرباعي بين عظمين“، مما يجعلها على كفاءة كبيرة جدا، حيث تعمل الأربطة المتواجدة خارج الركبة وداخلها مع بعضها البعض من أجل توزيع الوزن المسلط عليها بشكل متساوي، ويشاركها في هذه الوظيفة الغضروف المفصلي وهذا على حد تعبير الدكتور (آرين كريتش) من عيادة (مايو)، وهو دكتور متخصص في جراحة العظام والطب الرياضي.

تتعرض الركبة وفقا له إلى الكثير من القوى البيوميكانيكية، يقول الدكتور (كريتش): ”لنأخذ عملية صعود السلالم أو نزولها على سبيل المثال، حيث نسلط أزيد من ستة مرات أوزان أجسامنا على مفصل الركبة، لذا يمكننا القول بأن الركبة صُممت بذكاء كبير من أجل أن تكون ثابتة وأن تساعد على امتصاص وتلطيف جميع القوى والأوزان التي نتعرض لها في حياتنا اليومية، كما أنها تساعدنا على التعامل مع النشاطات الرياضية التي نقوم بها مثل القفز والهرولة والالتفاف السريع والحاد والدوران، ومن المثير كيف أن ركبتنا تدوم مع كل هذه الضغوطات لفترة طويلة جدا فهي ترافقنا طوال حياتنا“.

متى بدأت العيوب تظهر على تصميم الركبة؟

تطور الركبة البشرية.
صورة: Cheddar/Youtube

في البادئ، أصبحت الركبة البشرية تخضع للمزيد من القوى والضغط بعد أن تطور البشر ليسيروا على قدمين اثنين، لكنها التزمت بعدد الأربطة الأربعة التي تشبه كثيرا أربطة أسلافنا شبيهي القرود، حيث لم يعمل التطور على تقوية هذه الأربطة بالشكل الكافي، لذا أصبحت لدينا أربطة رفيعة جدا تقوم بعمل أكبر منها.

يقول الدكتور (لانتز): ”ما يحدث في الواقع هو أنك في كل مرة تقوم فيها بتغيير مركز ثقل وزنك، على سبيل المثال عندما تكون تتحرك بسرعة كبيرة ثم تقوم بتغيير الاتجاه بشكل مفاجئ، فإن حدث هنا وتمددت ساقك في خضم هذا الزخم الحركي تضرب الكارثة وتتعرض ركبتك للإصابة، لأنك تفرض على الرباط الصغير تحمل مئات الكيلوغرامات من القوة، وهو لا يستطيع القيام بذلك ببساطة“.

استقامة الساق بهذا الشكل بصورة مفاجئة بعد حركة عنيفة قد يؤدي إلى إصابة بليغة.
استقامة الساق بهذا الشكل بصورة مفاجئة بعد حركة عنيفة قد يؤدي إلى إصابة بليغة.

لكن الأمر لا يقتصر على الوزن الزائد فقط، حيث هنالك أيضًا مشاكل إضافية على علاقة بتطور الجزء السفلي من الجسم البشري مقارنة بأسلافنا.

مع تكيفنا على السير على ساقين اثنين بدلا من أربع قوائم، كان يجب أن يحدث أمر ما من أجل ضمان السير السلس، وهذا الأمر هو ضرورة يتمثل في امتداد الساقين بشكل مستقيم قدر الإمكان من الحوض، وأن تكونا قريبتين من بعضهما البعض قدر الإمكان، حتى يصبح لديك ما يطلق عليه اسم Striding Gait، حتى لا يقوم مركز جاذبية أجسامنا بالاهتزاز نحو الأمام والخلف مع كل خطوة نخطوها مما لا يخل بتوازننا أثناء المشي.

لو حدث ورأيت شيمبانزي يسير على قائمتين لرأيت أنه يستطيع ذلك لكنه يقوم بأرجحة ساقيه في زاوية خارج جسمه في خطوات عريضة، وفي خضم ذلك يتحرك مركز ثقله روحة وجيئة من اليسار إلى اليمين مع كل خطوة يخطوها.

من جهة فرض التطور للمشي على ساقين أن يصير الحوض البشري أضيق من ذي قبل، ومن جهة أخرى كان على الحوض أن يبقى عريضا بما فيه الكفاية ليسمح بولادة أدمغتنا الكبيرة بدون تعقيدات، ولم يقم التطور أبدا بحل هذه الإشكالية، وهو واحد من بين الأسباب الذي يجعل الإنجاب عند البشر أخطر من الإنجاب عند بقية الرئيسيات.

كما أنه واحد من الأسباب الذي يجعل بعض النساء اليوم يلجأن للعمليات القيصرية عند الإنجاب، لذا كانت واحدة من الطرائق التي طورنا من خلالها مركزاً أضيق للجاذبية بدون تضييق الحوض أكثر فأكثر هي هيكلة الركبتين بحيث تكونان متقاربتان من بعضهما البعض ما جعل لعظمتي الفخذ لدينا زاوية مميزة تضيق نحو الأسفل يطلق عليها اسم الزاوية Q، حيث سمح لنا جعل عظام الفخذ بتلك الزاوية الضيقة بالتحرك بفعالية أكبر وبدون مشاكل وبسرعة كبيرة مقارنة بأسلافنا الذين كانوا يتنقلون على أربع أطراف.

لكن هذه الزاوية والحركة التي أنتجتها سلطت المزيد من الضغط على الركبة:

الزاوية Q
صورة: Cheddar/Youtube

تكون الركبة البشرية متماسكة ومتينة في معظم الأوقات، ذلك أن العديد من الأجزاء التي يتكون منها الجسم البشري قد تطورت لدعمها: من عظام وعضلات وأنسجة، غير أنها ليست بالقوة والمتانة الكافية لتتحمل بعضا من الحركات الخطيرة أو الضغط الكبير، وقد تنهار وتتعرض للإصابة تباعًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالرياضات التنافسية والعنيفة.

يقول البروفيسور (كريتش): ”نحن عندما ننظر إلى الإصابات التي يتعرض لها الرياضيون الشبان [على مستوى الركبة] معظمها يكون لحظة هبوطهم من قفزة ما“، ويستطرد الدكتور (كريتش) الذي قام بدراسة القوى التي تتسبب في وقوع إصابات الركبة خاصة الأربطة الصليبية منها بشكل معمق داخل المختبر: ”نحن لا نمعن النظر في الركبة فقط، بل نتفحص آليات أجسامهم ككل، نحن نعلم أن الرياضيين الذين يرتفع لديهم خطر الإصابة على مستوى الأربطة يميلون إلى امتلاك آليات معينة –خاصة على مستوى الخصر– والتي تتسبب في تسليط ضغط غير عادي على الركبة.

عند أسلافنا من جهة أخرى، تكاد تكون إصابات الأربطة الصليبية للركبة منعدمة، لذا فإن جميع الإصابات التي تحدث لنا على مستوى الركبة على علاقة بالخصائص الفريدة التي تتميز بها مفاصلنا عن مفاصل أسلافنا.

هنالك عامل آخر يؤدي إلى وقوع هذه الإصابات وهو التقدم في العمر، حيث سمحت لنا أدمغتنا الكبيرة بتطوير الطب الحديث والبنى التحتية الخاصة بالصحة العمومية والاقتصاد الصناعي الديناميكي، وهو ما زاد بشكل كبير من متوسط العمر المتوقع لدينا، حيث مدده من مجرد 30 سنة عند الحضارات ما قبل الحديثة إلى 79 سنة اليوم، وكل تلك السنوات الإضافية الطويلة تضيف المزيد من التلف والضغط على الركبة المتقدمة في العمر.

في الولايات المتحدة، تكون بين 10 إلى 15 مليون زيارة للطبيب سنوياً بسبب مشاكل في الركبة، وهو ما يوحي بأننا بينما نتقدم في العمر تصبح الركبة لدينا أكثر عرضة للإصابات، لذا لو تنظر إلى البالغين فوق سن 60 سنة على سبيل المثال، ترى أن حوالي 15 في المائة منهم يعانون من مرض التهاب المفاصل والإصابات التي تصاحبه، وهو ما يعتبر نقطة عمياء في المسار التطوري للبشر.

أضف إلى ذلك أن التكنولوجيا الحديثة وفرت لنا المزيد من الطعام لنتناوله بينما سمحت لنا بعيش حياة أكثر خمولا مما أدى إلى ظهور السمنة كمرض خطير، ليس فقط على الصحة بصفة عامة، بل على الركبة أيضًا، لأن كل تلك الأوزان الزائدة تمثل المزيد والمزيد من الضغط عليها (لا تنس أن الأربطة لم تتطور بالشكل الكافي لتحمل الضغط الزائد بكفاءة).

لذا أصبحنا اليوم نرى رابطا مباشرا بين السمنة ومشاكل الركبة، حيث يكون الأشخاص من ذوي الوزن الزائد أكثر عرضة للإصابات على مستوى الركبة.

حتى عندما يتعلق الأمر بالرياضيين المتمرسين، فإن ممارسة التمارين الرياضية المجهدة طوال اليوم قد يزيد من خطر إصابة الركبة، ذلك أن التعب الذي يصيب الجسم يزيد من خطر الإصابة بشكل كبير، لذلك ينصح الأطباء المختصون في الطب الرياضي بجعل فترات استراحة بين فترات ممارسة الرياضة الطويلة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالرياضات القاسية، ورياضات الاحتكاك، أو الرياضات التي تتطلب استخداما كبيرا للركبة.

ما الذي يجب فعله لتفادي وقوع إصابة الركبة؟

هنالك الكثير يمكننا القيام به من أجل تفادي حدوث الإصابات على مستوى الركبة، وذلك من خلال استغلال أقوى التركيبات التي تتميز بها أجسامنا لحماية الحلقات الأضعف فيها.

يعمل الدكتور (كريش) اليوم على تطوير برامج وقائية ضد إصابات الركبة، فهو يقول: ”نحن نحاول بحق البحث عن الرياضيين الذين هم أكثر عرضة للإصابة بمثل هذه الإصابات، على سبيل المثال نحن نعلم أن لاعبات كرة القدم الأوروبية من بين أكثر الرياضيين عرضة لها، ثم نطبق برامج الوقاية التي تعمل على تكييف الركبة أكثر فيما يتعلق باستهداف الطريقة التي يتحركون بها والطريقة التي يهبطون بها على أقدامهم بعد القفز، وهي تقنيات ناجحة جدا“.

تساعد كذلك التكنولوجيا المتقدمة الأطباء على إعادة هيكلة طرائق وتقنيات العلاج بالنسبة لهذه الإصابات بشكل ممتاز، يقول الدكتور (كريش): ”لقد أصبحنا أفضل أكثر فأكثر في تشخيص الإصابات، على سبيل المثال، أصبحت أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي مذهلة بحق، فقد صارت تمكننا من رؤية الإصابات على مستوى رائع من التفاصيل“.

لقد أصبحنا حاليا نشخص هذه الإصابات في مراحلها الأولى، مما يمنح أملا كبيرا في نجاح العلاج، وفي حالة ما كانت الإصابات كبيرة، فقد صارت بين أيدينا الكثير من البيانات والتقنيات التي نوجه بها المريض إلى أفضل علاج محتمل.

ومنه فقد جاءت أدمغتنا الكبيرة مرة أخرى لتساعدنا على تجاوز بعض من المشاكل والعيوب التي تخللت تصميمنا وتطورنا، ومن يدري، ربما في غضون بضعة أجيال قادمة، سنتمكن من فك شيفرة تجاوز هذه العيوب التطورية جميعها.

قد يبدو هذا الطرح بعيد المنال اليوم، لكن هذا ما كان قد شعر به ربما شخص يعيش في القرن السادس للميلاد عند التفكير في أن العرق البشري قد يتطور في يوم من الأيام ليعيش ليصل سن التاسعة والسبعين.

مقالات إعلانية