in

من قتل تاليا؟

لوحة لامراة حزينة وتبكي
صورة: Cris Motta

كلُّ الأشخاص في هذه الغرفة بدوا أتفه من أي وقتٍ مضى، السفهاء الذين يضحكون ويستخفون بحزنها كأن شيئاً لم يكن، لم تعرف لما لا أحد مهتمٌ بها وبطفلتها الصغيرة تاليا، ألم تكن تضحك قبل ساعاتٍ وتناديها ماما؟ أليست جدتها من كان يضفر شعرها وهي تغني بغبطةٍ: ”يلَّا تنام تاليا“؟

كيف تجاهلها الجميع وتركوها لمصيرها! وهي التي لم تتقن الكلام بعد؟

حين عادت روز من رحلتها القصيرة إلى شاطئ البحر وجدت البيتَ مليئاً بالزوار من خالاتها وأطفالهن، وكان العبث قد بلغَ أوجه وكل شيءٍ هنا مقلوبٌ رأساً على عقب، ورغم أنها تكره الصخب والضجيج، ابتسمت روز وسلمت بذوقٍ كعادتها على جميع الحاضرين، ثم استأذنت ودخلت غرفتها لترتاح.

كانت مشتاقةً لغرفتها كثيراً، لسريرها وتلفازها الصغير وجهاز الكمبيوتر الجديد الذي ابتاعته من مدخراتها، وطبعاً لطفلتها التي لم تجاوز الشهرين، وكانت قد مددتها على السرير مؤتمنةً جدتها عليها قبل أن تذهب، بعدما لم تشأ اصطحابها خشية أن تمرض وهي في عمرها هذا.

وحينَ فتحت روز باب حجرتها تفاجأت بفوضى لم تعهد لها مثيلا، حاجياتها مبعثرةٌ على الأرض، وصندوق مكياجاتها محطمٌ كل قطعةٍ منه في زاويةٍ من الزوايا، حتى ثيابها غادرت الخزانة دون سابق انذار. والسرير!

كان هذا منذ عدة أيام، إلَّا أن روز من وقتها لم تتكلم أو تأكل، وتوقفت عن فعل الأشياء التي تحبها، باتت لا تطيق النظر في وجه أحد كما وأن أعصابها متلفة.

لقد فقدت رزو صغيرتها… وجدتها على الأرض وقد فارقت الحياة، ولم تستيقظ أبدا.

من الذي قتل تاليا؟

هرعت روز إلى المطبخ حيث تجتمع النساء وصرخت بملأ حنجرتها: ”تاليا ماتت يا ماما.“

نظرت إليها الأم بشفقة، ثم احتضنتها وقالت: ”اذهبي إلى غرفتك، سنتحدث فيما بعد.“

اختنق الصوت والحزن في حنجرة روز، إنها لا تصدق! خالاتها يضحكن بلا التفات حتى لما قالته، والأطفال يلعبون في كل زوايا البيت بلا رادع أو قانون، كما أن الأب مشغول في الحديقة بحفل شواء يصاحبه ضحكات الرجال الخشنة، لا أحد يفقه الكارثة!

قالت خالتها الأكبر سناً: ”لا بأس يا روز، مجرد طفلةٍ وانتهت، لا تحزني“!

أضافت شقيقة أمها الصغرى: ”سأجلب لك ابنتي الصغيرة لتتسلي معها، موافقة؟“

أضافت الأم: ”روز، لا بأس، لم يحصل شيء“!

ثم التفت الثلاثة بعضهن إلى بعض وأكملن الضحك والأحاديث على الناس والجيران وسكان الحي.

ربما كان يجب أن تأخذها إلى الطبيب، ربما كان يجب أن تبقى جنبها، لكنها تركتها وذهبت تستمتع برحلة البحر مع صديقاتها، يالها من أمٍ سيئة! وشريرة!

جلست الأمس على نفس السرير مع أمها، حملت رضيعتها وراحت تغني لها، فقبلتهما الجدة وتمنت أياما سعيدةً لكليهما، ثم طلبت من روز أن تعتني بتاليا جيدا. وهل تحتاج توصيةً على صغيرتها التي تحبها أكثر من عينيها؟ كيف تموت بعد كل هذا؟

كانت تتمنى من أمها أن ترشدها، وأن تقف معها في مأساتها وتخفف عنها، وأن تبدي أي حزنٍ ربما أو ضيقٍ قليل، وأن تسألها حتى عن حالها وشعورها بعد الذي حصل.

لا شيء يهم الآن، فتاليا ماتت، أي أنها لن تراها صباحاً بعد الآن، ولن تنتظر شقيتها الكسولة حتى تفتح عينيها، ولن تأخذها بنزهة قصيرة كما عودتها، أي أنها رحلت إلى السماء البعيدة، كما يرحل الكبار.

لم تعد روز تحب أن تجتمع بعائلتها، الأغبياء الذين يتصرفون ببلاهةٍ غير عابئين بحزنها وتأثرها. فتاليا كانت… كل شيء!

أشرقت الشمس وتسلل النور من شبك روز يدعوها للحديقة، كانت قد تعودت أن تستيقظ مع الفجر لتزور قبر صغيرتها في فناء المنزل وتضع الزهور الملونة، لم تذهب هذه المرة!

جمعت كل حاجيات طفلتها من العربة الصغيرة ذات العجلات والكرسي الهزاز الذي تحبه، وحتى الفساتين الملونة، ورمت بها في سلة القمامة، لا زال كل شيءٍ يؤلمها كثيرا.

جلست روز على أرجوحتها وانهارت دموعها، مشتاقة لطفلتها كثيراً، لشعرها الأشقر وعينيها الزرقاوتين وصوتها حين تنطق ماما.

شعرت أنها وحيدةٌ في هذا العالم، ولا أحد يفهمها، وربما هي صدقاً لا تهم أحد، تذكرت نظرات طفلتها قبل الرحيل ونظرات أهلها المتجاهلة وتذكرت عدم اكتراث إخوتها واستخفاف أصدقائها، ولكن ما قررته روز وقتها أنها ستجمع كل أسرارها وتكتمها داخل قلبها، فلن تخبر أحداً؛ ولا تريد أن تشارك أحداً بأشيائها بعد الآن.

وفي الجانب الآخر من المنزل، وضع الأب صحيفته جانباً واقترب من الشباك: ”ما بالها روز حالها لا يعجبني منذ ثلاثة أيام، هل حصل شيء؟“

ردت الأم التي كانت لتوها قد استيقظت وفي يدها فنجان القهوة:

”لا بأس، طفلةٌ في السابعة مزق أولاد خالتها لعبتها.“

”لا بأس سنحضر لها واحدة أخرى.“

”لا عليك، ستكبر وتفقه أنها مجرد دمية من القماش.“

تاليا

مقالات إعلانية