in

نداءات أكتوبر

امرأة ذات الوشاح الاحمر

كانت وقتها في أواخر أكتوبر، الشهر الذي يشبه كثيراً تقلبات مزاجها، فتراها تارةً تضحك كانشراح سمائه بلا سبب، وتارةً يغص قلبها بالغمام فتمطر الروح شجناً.. بلا سببٍ أيضاً.

وكانت الغابة الحزينةُ وقتها تغري بالعبور. لكنها سرحت تتأمل في الملامح الهادئة التي توحي بالوقار، للرجل المبتسم الواقف قبالتها، قبل أن تبتسم بطيشٍ وتقول غير عابئة بمكدسات الذاكرة من التحذيرات: ”هيا بنا نعبر“.

منذ طفولتها -هنادي- وهي محذورٌ عليها أن تعبر السياج المؤدي الى الناحية الأخرى، السياج الذي يخفي غابة كبيرة من الأشجار والأشياء التي لا تعرف عنها شيئاً، بل أمضت سنوات طفولتها تتخيل العالم هناك، ما وراء الغابة الغامضة، وكانت تحلم كل يومٍ أن تكبر لتطول سيقانها فتستطيع العبور من فوق الشريط الشائك واكتشاف حلمها، وكانت ماما دائماً تقول: ”إياك أن تقربي تلك الحدود، فإن وراءها الهلاك، وإن وراءها الجحيم.“

لم تكن هنادي تفهم مقصد أمها، كانت صغيرةً جداً، ولكن ما لم تعرفه أنها كلما كبرت؛ زاد الرعب في قلبها تزامنا مع ازدياد الحماس والفضول. تُرى، أي جحيمٍ في حضن هذا العالم الأخضر؟

مرت الشهور ومرت السنوات، وأصبحت هنادي مراهقةً جميلة، وظل الحلم يتربع قلبها المتعطش للمغامرة.

كانت كل ليلةٍ حين تضع رأسها على الوسادة لتنام تسمع نفس الصوت المنبعث من البعيد، من ما وراء الشريط، صوتٌ يقول: ”هنادي تعالي“.

وفي يومٍ رفعت رأسها بثقةٍ في وجه ماما وقالت: ”أصبحت كبيرةً الآن، سأعبرُ الغابة“.

– ”ولأنك كبيرةٌ يا هنادي؛ لا يجب أن تقربي الغابة!“

وحين أمسكت هنادي سلتها لتقطف الورود، أمسكت ماما يدها بقوةٍ وقالت: ”أنت الوردة يا هنادي.. الوردة الوحيدة“.

كان صوت ماما مرعبا ونظراتها محيرة وعباراتها مقتضبة، لم تحب يوماً أن تتحدثَ عن العالمِ هناك، لم تشعر بالراحة يوماً وهي تبث تحذيراتها مجبرةً دون أن تعطي أي سببٍ مقنع، ولكن إن خلف هذا الشريط الهلاك، وإن خلفه الجحيم..

وكبرت هنادي وقاربت العشرين، وتوفيت ماما تاركةً طفلتها الشابة وحدها في بيتٍ لا يبعد إلَّا بضع خطواتٍ وشريطٍ شائكٍ عن الغابة الغامضة.

وفي الحقيقة لم تكن وحدها، فكلما سولت لها نفسها العبور تذكرت وابل التحذيرات المرعبة، فتعزف عن قراراها. حتى أنها مع توالي الأيام نسيت حلمها وأصابه الصدأ في ذاكرةٍ بعيدة، لقد تركت حلمها يذبلُ متجاهلةً الغابة والورود وكومة الأشياء التي لا تعرفها هناك دونما سببٍ مقنع، دونما أن تعرف أي سبب أصلاً. ولكن الرعب الذي نما في قلبها يوماً بعد يوم كان كفيلاً ببتر هدفها ودفن خيالاتها الحالمة مع الصوت الذي يناديها كل ليلةٍ من هناك. ولكن اليوم كان مختلفا…

كانت وقتها تجلس على شرفتها قبيل الشريط، تراقب الأوراق اليابسة وهي تتهاوى، تلك الأوراق التي لن تلمسها أبداً، متعجبةً كيف لهذه المسافة الصغيرةِ التي تعد بالخطوات أن تكون الحد الفاصل بين الأمان والخطر، بين الطمأنينة والرعب، بين الحلم والخوف منه!

ولم تهتم حين جاء الرجل الوسيم أيُّ طريقٍ سلك، وهل جاءها من خلف قضبانها المحذورة أم من طريقٍ آخر يصلها بالعالم المختلف، ولكنه أراد الأمساك بيدها، وجرها إلى المجهول، المجهول الغامض المثير جداً للفضول..

كانت هنادي ترتدي وشاحاً أحمراً يلف رقبتها مخفياً ما بدى من شعرها إلا بضع خصلاتٍ سوداء، وكانت تضع على كتفها معطفاً خفيفاً يساير تقلبات أكتوبر، وكانت تتأمل في وجه الرجل ذو الملامح الهادئة بشغفٍ وفضول:

– ”هيا بنا نعبر الغابة…“

كانت هنادي خائفةً جداً، بل إنه الأدرينالين يغمر جسدها فيجعلها ترتعش، ولم تدري هل هي فعلاً تريد المخاطرة أم أن مكنونات تلك الغابة لم تعد تهمها، ولم تسأل نفسها حتى من هو هذا الرجل ولا من أين جاء، ولكنه قرأ التوتر في ملامحها فأجابها دون أن تسأل والثقة والفخر في محياه: ”أنا البطل الشجاع، أنا فارس الفرسان، أنا ملك هذه الغابة وأميرها الذي لا يُهاب، سأجعلك تطوفين أرضها وتملأين جعبتك من ورودها وترتوين من أنهارها وسأكشف لك غرائبها وعجائبها وسأبوح بكل أسرارها“.

وافقت هنادي…

وافقت ونسيت أنها هي الوردة الوحيدة، ونسيت سنوات من التحذير والترهيب، ونسيت كلام ماما عن الهلاك والجحيم، أمسكت يد الرجل ومضت من أول خطوةٍ نحو الشريط الشائك، تحسس وجهها البارد ورفع الشال عن شعرها ليموج في الهواء، ثم نزع المعطف عن كتفها ورماه وراءها، ثم مضوا نحو الشريط.

هنادي كانت أجملهن، وأصغرهن، وكانت تحب الورود كثيراً…

ذهبت لتقطف الورود من أرضٍ بعيدة، ذهبت ولم تعد!

مقالات إعلانية