in

الحياة على النجوم

الحياة على النجوم
لوحة: tehno60.ru

بعدَ أن غابت الشمسُ، وسادَ الليلُ مُلقياً بوشاح الكرى على الإنسانِ وفارضاً السكونَ على كلّ حي، تركتُ منزلي واتّخذتُ من البحيرةِ التي لم تدنّسها يدُ إنسانٍ بعد، وجهةً لسيري؛ فقد كنت في وقتٍ سابق قد وعدتُ الليلَ بأن أزوره عند تلك البحيرة، لنتباحث سويّةً في بعض القضايا التي تخصّنا.

عبرتُ الطريق الذي حَفَرَتْهُ سيولُ الشتاء قاسمةً بذلكَ غابة الصنوبر إلى قسمين، فكان القمر تارة حليفي في إزاحة الستار عمّا حجبتهُ الظلمة من معالم الطريق، وتارة حليف الظلمة، إذ رسمَ أشجارَ الصنوبرِ على الطريق ظلالاً، وكان لي من النسمات المنعشة المُقْبِلة من قمم الجبالِ رفيق سفرٍ لطيف لم يفارقني حتى بعد بلوغي وجهتي.

جلستُ عند ضفّة البحيرة، فسكبتْ لي الأزهار من عبقها بعضاً من الخمر – كنوعٍ من حُسنِ الضيافة – وأخذنا – أنا والليل – نشرب ونتحادث في حضور كلٍّ من القمر والنسمات وبعض العناصر الأخرى، ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى قطع مجلسنا صوتُ خطواتٍ خائبةٍ قادمة من الغابة نحونا.

اقتربَ الرجلُ صاحب الخطوات منّي وجلس بجانبي دون أن ينظر إليّ، وبعدَ مدّةٍ لا بأس بها من الصمت، نظرَ إلي ونطق قائلاً: ”اعذرني، فقد قطعت عليك حلاوة عزلتك ومتعة انفرادك بأفكارك، وها أنا ذا بهذه الكلمات أنتزع عذوبة الصمت من محيطك“.

فأخبرته بأنّه لا بأس في ذلك وأنّه لا يزعجني بوجوده، كما قلتُ له – على سبيل اللطف – أننّي على كلّ حال أستطيع أنْ أُرجئ موعدي مع الليل إلى وقتٍ لاحق، فلا شيء مُستعجل.

وسرعان ما عاد الرجل إلى صمته قبلَ أنْ أُبادره أنا الحديث؛ فقلت له بأنّ صوتَ خطواته قد خلّف لديّ انطباعاً عن خيبةٍ تسكنه، وأنّي لا أرى في عينيه ما يخالفُ هذا الانطباع، وسألته إذا ما كنتُ مُصيباً في قولي وإذا ما كان من الأدب أن أسأله عمّا آتاه الدهرُ حتى وصل لحاله هذه، فهزّ الرجل رأسه مشيراً لصحّة تخميني، وقال:

”آتاني الدهرُ بما آتاك، ولربّما آتاهُ الوجودُ بنا، فليست خيبتي ظلّاً لمصيبةٍ اعترضتني دون غيري: منذُ مدّةٍ ليست بالبعيدة، ذهبتُ – وقد بلغَ الفضولُ منّي حدّه – إلى منزل التاريخ، فطرقتُ باب ذلك العجوز الماكر وطلبت منه متوسلّاً أن يدلّني على قلعة الماضي، فمَن غير التاريخ يعرف حقّ المعرفة الطريق الموصل إلى الماضي!؟

والحقُّ أنّه ذهب بصحبتي بغيةَ إرشادي، فأخذنا نتمشّى سويّة في غابة الزمن، بينما كان يحدّثني عن كلّ ما يقع عليه نظري، ويُثري معرفتي بمعلومات عظيمة الفائدة.

ولا شكَّ بأنّ ذلك الماكر كثيراً ما حاول تضليلي؛ فتارةً يأخذني إلى سبيلٍ مسدود، وطوراً يحاول إقناعي أنّ الكوارثَ من عواصف وحرائق وزلازل قد محت آثار الطريق، بيد أنّنا دوماً ما كنّا نعود إلى الطريق الصحيح.

وبعد أن قطعنا مسافةَ ما يزيد عن نصف الطريق، نظرَ التاريخ إلى ساعة يده وأخبرني بأنّه لا يستطيع إكمالَ الطريق بصحبتي، وأنّ لديه موعداً مهمّاً مع أحد الأحداث المزيّفة وعليه أن يذهب، ولمّا توسلّتُ منه البقاء معي قال أنّ ذلك أمرٌ مستحيل ولا طائل من إصراري، وأنّي أستطيع – إن رغبت – أن أرافقه إلى موعده، وأستطيع هناك أن ألتقي بالماضي الذي لم يمضِ، فأجبته بأنّي أودّ أنْ أقابل الماضي الذي مضى، وأنّ ذلك المزيف – في حقيقة الأمر – لا يثير اهتمامي، فما كان منه إلّا أن تركني في الغابة أبحث وحيداً عن الماضي.“

صَمَتَ الرجلُ قليلاً وحدّق في عينيّ، ثمَّ حوّل نظره إلى نقطةٍ بعيدةٍ من السماء، وأكمل قصّته:

”تهتُ مراراً في تلك الغابة الكثيفة، وجَهِدتُ كثيراً حتّى وجدتُ قلعة الماضي، إلّا أنّ حماسي لمقابلته قذفَ الجهدَ الّذي أثقلني بحجارة النسيان، فهممتُ بالدخول.

في البدء بدا لي الماضي متغطرساً، غيرَ أنّهُ سرعان ما نسي الغطرسة بعد أن بدأ بسرد مغامراته الوحشيّة بحميّة، وعلى الرغم من استمتاعي بحديثه، إلّا أنّ رائحة الدماء المنبعثة من فمه أنبتت في ذهني بذور أسئلةٍ علمتُ أنّ أجوبتها ليست بين يديه، فودّعته وعدّتُ من الطريق ذاته قاصداً قصرَ المستقبل.

كانت السماء قد بدأت تمطر، وبات الطريق موحلاً هذه المرّة، فذهب الناس كلٌّ إلى منزله، وتجمّعوا حول المواقد، أمّا أنا فقد بقيتُ أبحث عن خيطٍ واحدٍ يدلّني على قصرِ المستقبل، وعبثاً أبحث! إلى أن نصحني أحّدُ أصدقائي – وقد أشفقَ لحالي – بأن أذهب لعائلةٍ تُدعى عائلة ”العقل“ وقالَ بأن أفراد هذه العائلة يملكون – على حدِّ تعبيره – من المواهب ما يكفي لمساعدتي، فشكرتهُ ومضيت إلى منزل هذه العائلة.

عندما فتحَ ”التفكير“ – وهو أحدُ أفراد العائلة – البابَ، كان المطر قد كفَّ عن الهطول، وبعد أن تعرّفتُ على كلٍّ مِنَ التأمّلِ والتفسير والاستنتاج والمنطق (بعض أفراد العائلة) طرحتُ عليهم مشكلتي والتمستُ منهم المساعدة، فما كانَ منهم إلّا أن رحّبوا بطلبي وأخذوا يتباحثون في مشكلتي ويبحثونَ عمّا يدلُّ على موقع المستقبل.

كذا مضتْ الساعات وهم في حيرةٍ من أمرهم، فتارةً يشيرون إلى أنّ الطريق الموصل للمستقبل هو هو الموصل للماضي، وطوراً يقولون أنّ ما من طريقِ يوصل للمستقبل، إلى أنْ نهضَ المنطقُ لحسم القضيّة فقال: ’ما من شيءٍ مؤكّد، ولكن الإجابة قد تكون لدى الحاضر، فالحريّ بك إذاً أنْ تذهب إلى منزل الحاضر وتسأله عن طموحاته وعن مدى رغبته بلوغها‘. وبالفعل هممتُ بالذهاب.

عندما خرجتُ من منزل العقل كانت الشمسُ قد سطعتْ، لكنّ الطريق كان لا يزال موحلاً، الأمرُ الذي لم يمنعني من متابعتي السير، ولم يكن مِن العسيرِ العثور على منزل الحاضر؛ فقد كان عنوانه مطبوعاً على صفحات الصحف، كما كان يُشارُ إليه بانتظام في محطّات التلفزة، ولم يلزمني الأمرُ أن أطرق عليه البابَ كي أقابله؛ فقد رأيته قبالة منزله يدّخنُ الحشيشة ويشربُ الخمر وهو يغنّي ويُقَهْقهُ مترنّحاً يمنةً ويسرة.

رميت عليه السلامَ وجلستُ إلى جانبه، فردّ السلام بمثله وهو يبتسمُ ويظهر لي لسانهُ، تقبّلتُ ذلك منهُ بحسنِ النيّة وأخذتُ أحادثهُ، فسألتهُ إنْ كانَ ينوي الإقلاعَ عن أيٍّ من عاداته السيئة، فأجابني على الفور بأنَّ لا شيء يدفعه لذلك؛ فالناس يريدونهُ كما هو، ثمّ أضاف مقهقهاً: ’وهل لي أنْ أخالفَ ما يطلبهُ الجمهور!؟‘

فسألتهُ عندها – بأسلوبٍ أكثر جديّة – عن طموحاته ومدى رغبته في بلوغها، فأجابني: ’في الحقيقة لم أفكر في الأمر، ولا أجدُ الموضوع على قدرٍ منَ الأهميّة، ولكن يخيّل إليّ أنّي سأضاعف من كميّة الحشيشة، ففي النهاية ما أنا إلّا انعكاسٌ لإرادة الجمهور‘.

علمتُ حينها أنّ لا طائلَ من حديثي معه، فودّعته ورحتُ أفكّرُ – بمساعدة ”آل العقل“ – في كلماته (ما أنا إلّا انعكاسٌ لإرادة الجمهور)، لقد بدت لي تلك الكلماتُ غريبةً بعض الشيء؛ فمنذ الصغر وأنا أرى الجميع مُستاء من عادات الحاضرِ السيّئة، فكيف لعاداته إذاً أنْ تكونَ انعكاساً لإرادة الجمهور؟!

كثيرةٌ كانت ليالي انشغالنا – أنا وآل العقل – بهذا السؤال، غير أنّ آل العقل أوجدوا بالنهاية إجابةً وجدتها – من وجهة نظري – مقنعةً:

لقد وجدوا أنّ إرادة الجمهور تصل حدّ التناقضِ مع ما سمّوه ”فروض حدود الهويّة“ وأنّ حدودَ هويّة الجمهور هي التي تصنعُ – بقوّةِ العاطفة – إرادة عقلهم الجمعي اللاواعي، وهكذا فإنّ إرادة العقل الجمعي الواعي للجمهور تصلُ حدّ التناقض مع إرادة عقلهم الجمعي اللاواعي، والذي بدوره يفرض أفعالهم التي تشكّلُ الحاضر، وفسّروا ذلك بقولهم:

’إنّ الإنسانَ – بطبيعته – كائنٌ ذو تفكيرٍ ذاتيٍّ عاطفي؛ أي أنّه يرى كلَّ شيء من منظور فهمه لذاته، وفهمهُ لذاتهِ يشكّلُ ”هويّتهُ الفرديّة“، والإنسان يمنحُ عاطفتَهُ لذاته أي (لِهُوِيَّتِهِ).

كما أنّ الإنسان يفهمُ ذاتهُ أيضاً باعتباره فرداً في مجموعةٍ محدودةٍ من الأفراد، كلّ فردٍ منهم يفهم ذاتهُ باعتباره هو الآخرُ كذلكَ فرداً من هذه المجموعة المحدودة؛ وهذا الفهمُ المتماثلُ لكلٍّ من الأفراد داخل نطاق المجموعة المحدودة يشكّلُ ”هويّة المجموعة المحدودة“.

وبما أنّ هذه الهوية محدودة، فهي إذاً تميّز الأفراد الذين هم داخلَ حدودها عن الأفراد الذين هم خارج حدودها.

وبما أنّ الإنسان يمنح عاطفتهُ لِهُوِيَّتهِ؛ فإنّه بهذه الطريقة يمنح عاطفته لهذه الهويّة المحدودة ولكلِّ ما يتعلّقُ بها وكذلكَ لكلِّ فردٍ مِنْ أفرادها، وعاطفتهُ هذه هي التي تصنعُ إرادة عقله اللاواعي، وبهذا فهي التي تفرضُ أفعاله، والتي بدورها تصنعُ حاضره.

وهكذا فإنّ التواصلَ بين الأفراد داخل حدود هويّة المجموعة، يتمُّ على أساس الهويّة الفرديّة لكلِّ فرد، فعلى سبيل المثال (لا الحصر): إنْ أساء مواطنٌ من جنسيّةٍ ما لمواطنٍ آخرَ له الجنسيّةَ نفسها، يكون قد أساءَ لذلك المواطن ذاته، أي لهويّته الفرديّة، الأمر الذي يحرّكُ عواطف الفرد المُساء إليه، فيقوم برد الفعل المناسبِ بحسبِ شدّة الإساءة.

وأمّا التواصل بين أشخاصٍ يملكون هويّاتٍ جماعيّةٍ مختلفة، يتمُّ على أساس الهويّة الجماعيّة، فعلى سبيل المثال (لا الحصر): إن أساء مواطنٌ من جنسيّةٍ ما لمواطنٍ من جنسيّةٍ أخرى، يكون قد أساء ليس فقط لذلك المواطن ذاته، وإنّما لجميع المواطنين الذين يحملونَ الجنسيّة ذاتها، أي لهويّتهم الجماعيّة المحدودة، الأمرُ الذي يحرّكُ عواطف المجموعة بأكملها، فتقوم المجموعة بردّ الفعل المناسب بحسب شدّة الإساءة، وبالتالي فإنّ هذا الفعل فرضتهُ حدودُ الهوية ولذلك تسمّى ”فروض حدود الهويّة“.

والحرب ما هي إلّا إحدى الأمثلة على تناقض إرادة الجمهور مع فروض حدود الهويّة، فالناس بشكلٍ عام يريدون السلام ويستاؤون من الحروب، إذاً فإنّ إرادة عقلهم الجمعي الواعي هي السلام، غير أنّه حين تفرض حدود الهويّة في أحد المواقف – بقوّة العاطفة – ردّ فعلٍ هو الحرب، فإنّ هذا الفعل هو من إرادة عقلهم الجمعي اللاواعي.‘

هذا ما أجابني به آل العقل، فتساءلتُ في نفسي عن حلٍّ لهذه المشكلة التي هي السبب في معظم كوارثِ البشريّة، فقد أخبرني المنطق أنّه من المستحيل تغيير طبيعةِ الإنسان، وأخبرني التاريخ بأنّ ما من جماعتين تمكّنتا من التعايش معاً إلى الأبد، ما الحلُّ إذاً؟!“

توقّف الرجلُ عن سردِ قصّة خيبته، وصمت قليلاً وقد بانت عليه الخيبة أكثر ممّا مضى، وبعد أنْ طلبتُ منهُ أنْ يكمل لي سردَ قصّته، عاد ليقولْ:

”لقد وجدّتُ أنّ ما من حلٍّ إلّا أنْ يَوسِّع الإنسان حدود هويّته الجماعيّة لتشمل الوجود بمن فيه (مع الاحتفاظ بهويّته الفرديّة)، فخرجت أصرخ في الطرقات والحدائق العامة وفي كلّ مكان محذّراً الناس، بأنّهم إنْ لم يفعلوا ذلك فلن يكون الحاضرُ والمستقبلُ غير ما كان الماضي، وبينما أنا أصرخُ، اقترب منّي ظلُّ إنسان وقال:

’أنتَ متشائم!‘، ثمّ قال آخر: ’أتريدنا أن نتخلّى عن هويّتنا!؟‘ وقال ثالثٌ: ’أنتَ خائنٌ بلا مبادئ وبلا انتماء‘، وحتّى أنَّ غراباً حطَّ على كتفي وقال: ’أنت متشائم!‘ فرضيتُ الخيبةَ لباساً، وجئت إلى هذه البحيرة لأنال قسطاً من العزلة.“

هكذا سرد لي الرجلُ قصّة خيبته، فقلتُ له أنّي مررتُ في السابق بمثلِ تجربته، واكتشفتُ أنّهم نادرون أولئكَ الذينَ يدركون خطورة حدود الهويّة فيوسّعونها حتّى تشمُلَ الوجود بمن فيه، وقلتُ له كذلك أنّ الأمر يتساوى لديّ، وأنّي في حقيقة الأمر لم أعد أهتّم بمصير البشريّة، وأنّي لم أعد آخذ الحياة على الأرض على محمل الجد.

وأخبرتهُ أنّي على كلّ حال نقلتُ مكان سكني إلى النجوم، ولست أُسافرُ إلى الأرض إلّا كنوعٍ من أنواع الزيارات القصيرة لموطن ذكرياتي، فسألني عندها إنْ كان على النجوم بشرٌ أو كائنات، فأجبتهُ أنّه لحسنِ الحظّ ما من بشر، وأنّ الأمر يتعلّق بالمسافر، فمن يعيش على النجوم يستطيع أن يفعلَ ما يشاء؛ كأن يخلق كائناتٍ مثلاً أو أيّ شيءٍ آخر.

نظرَ إليّ عند ذلك بفرحٍ واندفاع؛ كأنما عزيزٌ لَهُ قد عادَ من عالم الأموات، وسألني عن طريقة السفر إلى النجوم، فأجبتهُ على الفورَ بأنّه أوّلاً عليه معرفةَ أنّ الطريق الوحيد للسفر هو الليل، وقد عزمتُ أنْ أُدلي له بتفاصيلَ أكثر عن طريقة السفر، إلّا أنّي استدركتُ عندها بأنّ البشر يُفسدون كلَّ شيء، فاستأثرت لنفسي بأن أكون المخرّب الوحيد، وقلتُ له بأنّ عليه أنْ يسأل الليلَ لأنّهُ أعلم منّي، وودّعته وأنا كلّي ثقة بأنّ الليل لن يبوح لإنسانٍ بأسرارنا المشتركة.

مقالات إعلانية