in

الثالث الوغد: الرعب القادم من الظلمة، كما صوره المخيال العربي

الفتنة

ظاهرة الثالث المندس والفكرة الرائجة حول الغريب الذي سيدخل لشق صف الجماعة الواحدة (المتكاتفة)، ليلقي الفتنة التي ستنطلي على الجمع (الطهراني) وليتفرق على أساسها، وهي الفكرة التي ترددت خلال التاريخ العربي والحديث والقديم على حد سواء، على لسان الساسة السلطويين ومناوئيهم، من غير ان تأتي من فراغ بل ولدها المخيال الشعبي، وتراشقتها التجمعات السياسية ولاسيما ذوات الخلفية الدينية.

فمن هو ذلك الثالث الوغد؟ وما هي سماته الأساسية في الوعي العربي؟ وما الدور الذي سيلعبه في سيناريو الحرب؟ وهل سينجح في مهمته الموكولة إليه؟ ولماذا يحتاجه المجتمع العربي بالذات؟ هذا ما سيحاول هذا المقال معالجته في مقاربة تشخيصية للوعي العربي عبر نماذج تاريخه.

فقد عرفت الحضارة المشرقية القديمة هذا النوع من الكائنات المندسة التخريبية، فحدثتنا الأساطير الفرعونية عن شخصية الرب ست ابن العائلة المقدسة، الذي اغتال اخاه اوزير واستولى على الحكم، ورغم أنه نال عقابه على يد حورو ابن اخيه، إلا ما لبث ان صار عضوا من المجلس التحكيم في الاسطورة المصرية, كما قد تجد سلوكا مشابها في شخصية عشتار في نص ملحمة جلجامش. إلا أن المخيال المشرقي القديم لم يصنع من تلك الشخصيات مكانا لرمي التهم وإلقاء الفتن على كاهلها، بل لطالما كانت تلك الشخصيات محل تقدير وتقديس.

وفي مرحلة أخرى من التاريخ ومع ظهور الاديان التوحيدية، تحولت ملامح تلك الارباب إلى آخر عدو، كما قد ترى ذلك في شخصية إبليس التي ستكون وراء الخطايا التي سيرتكبها (آدم) ومن ثم لتوقع الشقاق داخل الصف البشري الأول، وتكون السبب وراء الخطيئة الأولى، وتنزّل بالجنس البشري إلى الأرض. وتنتمي هذه الشخصية إلى جذر غامض نسبيا حسب المرويات الدينية، فهو يعيش بين الملائكة ولكن لا ينتمي إليها أساسا فهو من (الجن) كما تروي النصوص الدينية، وإن كانت هذه المخلوقات غامضة بذاتها ذات طبيعة مخيفة لبني البشر، كما اتسمت شخصيته بقدرات خارقة للعادة فهو يستطيع أن يكفل معاصي البشر جميعها في زمان مفتوح، كما أنه سيضع إمكانياته بين يدي وعده، للإيقاع بني البشر في فخ الفتنة والشقاق، أو يساعد على نشوب الحروب الأهلية، وأخص هنا الأهلية منها لأن الميثولوجيا العربية لم تذكر له مهمة الحروب مع الآخر الغريب، لكون هذه الأخيرة (مقدسة) من المفروض أن يُقعد عنها ويثبط الهمم ويعمل على إفشالها.

والشخصية الأخرى التي ظهرت إبان الحرب الأهلية في فترة صدر الإسلام، والتي اختفت من حيث التأريخ لها مع نهاية الحرب تماما، وهي شخصية ابن أبي السوداء عبد الله بن سبأ، والتي كانت حسب المرويات التاريخية وراء اشتعال الحروب الأهلية الاولى في العالم العربي (الجمل، صفين، النهروان). رغم أن طه حسين وغيره من المؤرخين العرب أنكروا وجود تلك الشخصية تاريخيا، إلا ان استحضارها على ما يبدو كان ضرورة اجرائية، بغض النظر عن حقانيتها المادية، فقد اتسمت شخصية ابن سبأ بصفات ضرورية للمخيال الشعبي أولها اليهودية، ومن ثم قدومه من اليمن وهذا ما سيضيف الغموض إليه، لما لليمن من شهرة واسعة في الوعورة الجغرافية والمعرفية كذلك، فكان من المنطقي ان تكون الجذور تمتد إلى المجاهيل، إضافة إلى اسمه كذلك (ابن ابي السوداء) بكل ما تعنيه الظلمة من مجهول، ناهيك عن (ابن سبأ) ذاته، كما لا يخفى وصوله للدلالات التاريخية والاسطورية لمملكة سبأ.

المؤامرة

واستمر هذا المخيال حتى العصر الحديث ينسج الاقاصيص الغرائبية حول مسببات الفتنة، بل لتتحول من أشخاص إلى منظمات خفية كـ(الماسونية) بذات المواصفات السابقة (اليهودية، الغموض، القوة المهيبة، الاسطورية، القدرة العجائبية على السيطرة والتحكم والتشيطن) لتتحول هذه المفاهيم الذهنية إلى الحامل التي سيعلق عليها جميع الآثام التي ارتكبتها الاطراف المتنازعة، فكون ابن سبأ هو المخلوق الكائن خلف الحرب فهذا يعني شيئا واحدا، وهو تبرأة ساحة علي وعائشة عن ذنب مئة ألف ضحية سقطت في حرب الجمل مثلا، ناهيك عن الدور المهم التي لعبته شخصية ابن سبأ في المصالحة النهائية مع التاريخ المذري، التي تحول فيه شخص وهمي إلى جسر للآثام، بغرض الاحتفاظ بقداسة الشخصيات التاريخية والواقعية، فكان يكفي أن تذكر ذلك الاسم (الشيطاني) لتتوقف الفتنة عن الاستمرار للأجيال اللاحقة.

كما أن وجود الماسونية سيعين على فهم الخلل الاخلاقي الذي دفع الولايات المتحدة إلى غزو العراق وأفغانستان من الأراضي العربية، كما أن نسب آل سعود لعائلة يهودية بمواصفات ماسونية سيسهل كثيرا تفسير القواعد الامريكية في الأراضي (المقدسة)، إضافة إلى إخلاء المسؤولية عن الإحتجاج فإن القوى الشريرة الغامضة أقوى من الارادة السياسية!

إلا أن اكتشاف مدى قوى الاخر اليهودي حقيقة مادية خرب على المخيال العربي متعة التهرب من المسؤولية فينبغي أن يكون الثالث الوغد ضعيفا جدا في حقيقة الأمر، لا يملك القدرة على التخريب إلا من خلال التآمر في الظلام، ولذلك تشهد اليوم تحول مواصفات الثالث الوغد إلى طائفة أخرى، فقد بات (شيعيا) (نجسا) كما روجت له وسائل الاعلام الخليجية في العقدين الأخيرين، وساعدت عليه الحكومة الدينية الحاكمة في ايران، فلطالما وفر الدين الارضية الخصبة لنسج الاساطير حول الذات والآخر. وبات من المعتاد سماعه أن ”الخطر الإيراني أشد من الخطر الاسرائيلي“، طبعا بناء على الزعم أن (دولة إسرائيل) عدو لدول الخليج! مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأطراف الثلاثة المتنازعة تحكمها ميثولوجيه دينية متشددة.

الخطر الايراني (الذي يقف خلف الفتن في العالم) العربي حسب الزعم الرسمي العربي! والذي سيتكثف في السنوات المقبلة بناء على المعطيات السياسية، ولكن لن يلبث المخيال العربي حتى يكتشف مدى قوة الطرف الايراني أيضا، بعد أن زج نفسه في حرب عبثية لن يتبقى منها سوى خطاب الكراهية.

وحين يهزم الجميع ستكتشف الأطراف المتنازعة الثالث الوغد المناسب للمرحلة المقبلة، ومن باب التنبؤ فإن الشخصية الجاهزة لدى الطائفة اليهودية والمتمثلة بــ(السامري) وعلى الصعيد الاسلامي المعروف بـ(القرمطي) وتمثلاتها في الواقع، كحوامل اجتماعية مؤهلة لتدخل حيز الثالث الوغد المشرقي المقبل.

بغض النظر حاليا عن الأسباب المنطقية خلف تلك النزاعات الدامية المتعلقة بالبنية الاقتصادية وتطوراتها وانعكاساتها على التشكيلات المجتمعية والمركبات العقائدية، والتي من غير المتيسر فهمها للجميع، فإن الهزيمة المطلقة، والشعور بفقدان السيطرة وانهيار المنظومة الاخلاقية بشكل مفاجئ والذي سيولد بدورة شعور بعدم الثقة من كون ردة الفعل صائبة أو لا، وكل هذا يحدث تاريخيا بشكل دراماتيكي متسارع، تجعل حضور ثالث ضرورة فائقة واحتياج مزمن لخلق (الآخر الوغد) بالصفات العامة الواردة اعلاه، بناء على التمثلات الثقافية الشعبويية، مما يعنى أن الأمة التي تعيش مع آخرها الوغد هي في مرحلة مأزومة بشكل هائل حتى احتاجت إلى استنساخ ذاتها في أخرها. بمعنى أن الثالث الوغد ليس سوى النسخة النذلة عن الذات لا شيء آخر، ومجوعة السلوكيات المجنونة عن ذواتنا، والكتلة الاخلاقية الرثة بجرائمها غير المبررة تحت أي ظرف، وبالتالي يعكس مدى التدني الاخلاقي والمعرفي للذات، فيتناسب حضور الثالث الوغد طردا ودناءة الامة المأزومة، وعكسا مع مستوى تحضرها.

مقالات إعلانية