in

كفلسطيني صريح مع نفسه وواقعه وتاريخه؛ أهنئ الإمارات على معاهدتها التاريخية مع إسرائيل

إن أردنا التأثير على السياسات الإسرائيلية، علينا أن نمتلك شيئًا ترغب به إسرائيل!

ملحوظة من الكاتب: يعبر هذا المقال عن آرائي وقناعاتي في وقت كتابته، مع العلم أن آرائي قد تطوّرت وتغيّرت منذ ذلك الوقت بحيث لم أعد أتفق مع ما يرد به، لكن شئت الإبقاء على النص كما هو لأجل الأمانة الأدبية.

اجتاحت موجة غضب واستنكار ووعيد عارمة وسائل الإعلام العربية والتواصل الاجتماعية ردًا على اتفاقية بين الإمارات العربية المتحدة ودولة إسرائيل، تنص على تطبيع العلاقات بين الدولتين – نعم إنها تلك الكلمة المحرمة التي يقشعر لها بدن المواطن العربي المليء بالوطنية: التطبيع والعياذ بكل الآلهة.

وقد حاولت أن أرى وجهة نظر هؤلاء الغاضبين المنتفضين المتوعدين لدولة الإمارات ولم أنجح. أين المشكلة؟ عادي، فالحرب ليست حربهم، ولا شيء يربطهم بالقضية الفلسطينية، ومن حقهم أن يسعوا وراء مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية كما يرونه مناسبًا لهم. بل وليس من واجب أي دولة عربية أن تكره وتحارب إسرائيل لأجلنا نحن الفلسطينيين.

”لكن القدس قضية كل العرب، وفلسطين عربية، ومعاداة الصهاينة واجب عربي.“ سمعت كل هذه التبريرات وأكثر، وكأنها ليست أساس المصيبة الفلسطينية – فرفض وجود اليهود في أرض فلسطين منذ البداية كان رفضًا نابعًا عن الإهانة التخيلية التي يسببها وجود دولة بأغلبية غير عربية في الشرق الأوسط للهيمنة العربية على المنطقة، وهي ذات العاطفة التي دفعت ولا زالت تدفع الأغلبية العربية لرفض أي كيان كردي مستقل في المنطقة كذلك.

”من يظن هؤلاء اليهود أنفسهم، يريدون أن يؤسسوا دولة لهم بيننا نحن العرب أسياد المنطقة؟“ وبناءً على ذلك قامت الحروب تلو الحروب، وتهافتت علينا العرب يستغلون مصيبتنا في زمن كانت فيه قوميتنا حديثة الولادة ولم يكن لنا ممثل حقيقي بعد، وخسر الشعب الفلسطيني حديث الولادة الحق تلو الآخر، والفدان تلو الآخر، كله في سبيل إرضاء العنجهية العربية التي لا تسمح بوجود الآخر إلا تحت رحمتها ورغبتها. لذلك دعوني أصرح بنقطة مهمة من البداية: كلا، فلسطين ليست عربية. فلسطين فلسطينية، وقضيتها قضية شعبها، وليست متاحة للتجارة.

لكن ذلك لم يمنع المنتفعين من قضيتنا من التجارة بها. فلا يقتصر ضرر ”عربنة“ القضية على الشعب الفلسطيني، بل أصبحت ولا زالت تجارةً رابحةً لأي طاغية عربي يود الاستبداد بشعبه أو سرقته أو إهماله (أو الثلاثة معًا)، فالقضية الفلسطينية حجة سهلة لسرقة المال العام ”لأجل محاربة إسرائيل“، وتجاهل الفساد والتخلف الاقتصادي والاجتماعي ”لأن فلسطين أهم“، والاستبداد بالأقليات وذبحها ”لأنها موالية للكيان الصهيوني“، وسجن وإعدام المعارضين وإخراسهم لأنهم ”أداة في يد العدو الإسرائيلي“، وقد رأينا قضيتنا تستخدم لتبرير استبداد وإجرام العديد من الطغاة العرب، من صدام حسين لمعمر القذافي لجمال عبد الناصر، فلا نحن نالنا خيرٌ منهم، ولا شعوبهم نالت خيرًا منهم.

أما على الصعيد الدبلوماسي، فما قامت به دولة الإمارات ليس بالمسبوق، فقد سبقها جيراننا الأردن ومصر منذ عقود، ورأت هاتين الدولتين الفائدة العظيمة من الحوار والتعاون مع إحدى أرقى دول المنطقة اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، خصوصًا حين استوعبت تلك الدول أن حرب إسرائيل ليست معهم، وأن لا مصلحة للدولة اليهودية في محاربتهم. وهكذا، استطاع الرئيس المصري المغتال أنور السادات باتفاقية سلمية اكتساب ما لم يقدر عليه سابقه في الحكم بالحرب، بل واسترجع أيضًا ما خسره ذلك الآخر في حروبه، ويبقى التعاون الأمني بين الدولتين إلى هذا اليوم من أفضل أسلحة الدولة المصرية ضد الإرهاب في سيناء.

وعلى الصعيد ذاته، ينتفع الأردن من كم هائل من المنافع الاقتصادية بفضل التعاون مع إسرائيل، كالقدرة على تصدير المنتجات المحلية للولايات المتحدة الأمريكية بإعفاء كامل من الجمارك والحصص المحددة، بشرط وجود مكونات ومدخلات إسرائيلية فيها، وأصبحت بذلك أقوى محرك للنمو الاقتصادي في الأردن في العقود الأخيرة.

ولهذا النوع من تطبيع العلاقات مع إسرائيل نتيجة جانبية مهمة: ألا وهي تحقيق فائدة محققة لإسرائيل بفضل تلك العلاقات. فأي الدولتين برأيكم تحظى بأذن إسرائيل الصاغية وبالأولوية الديبلوماسية: الأردن – حليف إسرائيل الأمني والاقتصادي والعسكري، أم لبنان – دولة لا تعترف بوجود إسرائيل أصلًا، ولا تؤثر بأي شكل من الأشكال على مصالح إسرائيل؟

فعلى عكس لبنان، يحظى الأردن بوزن خاص لكلمته في الساحة السياسية الإسرائيلية، وهذا يتجلى بعدة أشكال في السياسة الإسرائيلية، ليس أولها التضييق الإسرائيلي المستمر على حرية الشعب الفلسطيني في الحركة والسفر لإرغامه على السفر من وإلى البلاد عن طريق معابر ومطارات الأردن لإنعاش اقتصادهم على حساب حريتنا وكرامتنا. فبينما يستغل الأردن تأثيره على السياسة الإسرائلية لأجل قمعنا وتقييدنا، أوضحت الإمارات نيتها بعكس ذلك من خلال طلبها الرمزي بإيقاف عملية الضم الإسرائيلية للأراضي المحتلة. وعلى ذلك نتوصل لنتيجة مهمة: إن أردنا التأثير على السياسات الإسرائيلية، علينا أن نمتلك شيئًا ترغب به إسرائيل: إما تعاون أمني أو علاقات اقتصادية تعود لهم بالنفع، وإلا فمهما علت أصواتنا بالمطالبات والتهديدات فلن تصل إلا إلى آذان صماء.

وهنا رسالة ودرس لنا الشعب الفلسطيني: نريد إسرائيل أن تعطينا هذا، وتتنازل عن ذلك، وتمنح هذه، وتَهَبُ تلك. أين المقابل؟ تمتلك إسرائيل اليد العليا علينا شئنا أم أبينا، ومهما علت أصواتنا بغير ذلك فهي لا تغير الواقع. نحن، كشعب وقيادة فلسطينية، لا نمتلك شيئًا يمكن أن يغري إسرائيل، لأننا ببساطة أنفقنا الاثنتي وسبعين سنة الماضية في تعزيز واقع سيء ومضر لنا: واقع لا تحتاجنا فيه إسرائيل ولا تأبه لنا به. فإصرارنا بمقاطعتهم وعدائهم التام ومنع أي من الدول التي تهتم لنا من التعامل معهم ولّدت واقعًا إسرائيليًا لا يبالي أبدًا بما لدينا من رأي أو قول أو عمل. وقد آن لنا أن نستفيق لذلك. آن لنا أن نرحب بمبادرات كمبادرة دولة الإمارات، علّ اشتراكنا مع إسرائيل بمصالح مستقبلية تفتح آذانَهم لإرادتنا. لقد أصبح حائط زئيڤ جابوتينسكي الحديدي حقيقة، وقد آن الأوان لنا أن نطرق بابه.

 

مقالات إعلانية