in

بصفتي مراقباً سورياً أتساءل: ”لماذا لا يستطيع اللبنانيون إحداث تغيير سياسي جذري بعيداً عن المحاصصة؟“

لبنانيون يتظاهرون في ساحة الشهداء في بيروت من عام 2019. صورة: Amir Makar/AFP

بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية وانتهائها باتفاق الطائف عام 1989؛ نرى أن لبنان ما زال كما كان، بلد يتخبط بين المحاصصات الطائفية والفساد والمديونية، ولا يستطيع مسؤولوه فعل شيء بحجة حماية هذا الاتفاق الذي أنهى الحرب.

نصَّ الاتفاق على مبدأ «العيش المشترك» بين اللبنانيين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، لكن بالنسبة للسلطة، كان هذا العيش المشترك أقرب إلى المحاصصة والاقتسام المشتركين للبنان وثرواته.

منذ بداية الألفية الجديدة وحتى اليوم، ينزل اللبنانيون إلى الشوارع في أوقات متفرقة ليعبروا عن غضبهم ويأسهم من السلطات، لكن في العام الماضي، كانت الاحتجاجات أقرب إلى تعبيرٍ عن غضبِ شعبٍ لم يعد يحتمل أكاذيب الزعماء. ففي كلّ مرة ينتفض فيها اللبنانيون ويحرقون إطارات السيارات، يخرج الزعماء أنفسهم في محاولةٍ لتهدئة الشعب، لكن وعود حكومات التكنوقراط المتعاقبة لم تعد تفلح في إنجاز مهمتها على ما يبدو.

بدوري، أنا الذي أعيش في دولة ستختفي ضمن أقبية معتقلاتها إنْ فكرت فقط في انتقاد الدولة علناً والمساس بـ”هيبتها“، يدور في خاطري دائماً هذا السؤال: ”لماذا لا يستطيع اللبنانيون إسقاط حكومتهم ومجلس نوابهم ورئيسهم؟“

ففي لبنان، وعلى الرغم من قمع السلطات الأمنية وتطاول مؤيدي الأحزاب الحاكمة على من يعترض على زعيمها، لا يزال بإمكان اللبناني التعبير عن رأيه السياسي وشتم وزيرٍ ما والنزول إلى الشارع للتظاهر، بناءً على حقه المكفول في القانون، تلك أمور حُرم منها معظم العرب لأسباب مختلفة، إذاً لماذا لا يجتث اللبنانيون هذه الطغمة الفاسدة؟ يبدو أن الجواب عن هذا السؤال معقدٌ بقدر تعقيد لبنان نفسه.

اندلعت موجة الاحتجاجات الأخيرة في لبنان في سنة 2019 إثر فرض رسوم مالية على مكالمات تطبيق واتساب، لكنها تعاظمت لاحقاً وبدأت تدعو لإسقاط النظام السياسي بأكمله، وأخيراً، وإثر انفجار بيروت نتيجة الإهمال وعدم الاكتراث سوى بنهب ثروات الشعب –هناك أسباب أخرى بالطبع ننتظر أجوبتها– بات من الواضح أن هذه العصابات الحاكمة لن تستطيع إخراج لبنان من أزماته المالية والسياسية والبيئية، بل لا ترغب بذلك أبداً.

تكمن المشكلة في لبنان نفسه، وفي اتفاق الطائف أيضاً. فعلى الرغم من أن لبنان بلد ”ديموقراطي برلماني“ دستورياً، لكن بنيته القائمة على المحاصصة الطائفية هي العائق الرئيس أمام إنشاء دولة ذات قرار.

لمن لا يعلم، لا تقتصر المحاصصة على تقسيم المناصب الرئاسية وفقاً للطوائف الدينية، بل هناك أيضاً محاصصة طائفية في وظائف الدولة، وتكمن المشكلة الأكبر بخصوص المحاصصة في الكتل البرلمانية نفسها.

فمثلاً، بلغ عدد المقاعد في مجلس النواب 128 مقعداً، توزع على المسيحيين والمسلمين بالتساوي –النصف مقابل النصف. لم تتخذ تلك الأحزاب مساراً سياسياً موحداً، بل كانت تغير ولائها حسبما يرى زعيمها، ويتجلى ذلك بوضوح في تحالفي 8 آذار –حزبولا وحركة أمل (الشيعيين) وتيار المردة والتيار الوطني الحر (المسيحيين)– وتحالف 14 آذار –تيار المستقبل (السني) والقوات والكتائب (المسيحيين)، وجميعنا يذكر أزمة منصب الرئاسة بين عامي 2014 و2016، حيث فشلت الأحزاب بانتخاب رئيس جديد بسبب عدم اتفاقها، ما أدى في نهاية المطاف إلى وصول ميشال عون للرئاسة.

وفوق هذا التقسيم، باتت الأطراف المتصارعة لا تهتم سوى بكسب أكبر عدد من المقاعد البرلمانية والحقائب الوزارية. إثر الاحتجاجات الكبيرة التي ظهرت في أواخر العام الماضي، بدا من الواضح أن النخب السياسية اللبنانية غير قادرة –وغير راغبة أيضاً– على تشكيل حكومة ترضي جميع الأطراف، وبات تشكيل أي حكومة في لبنان يحتاج إلى عملية طويلة قد تستغرق شهوراً من المفاوضات لإرضاء جميع الأحزاب، وهنا تبرز السخرية، فعندما يطالب اللبنانيون بتغيير سياسي، يردّ المسؤولون على ذلك باستبدال الوزراء بآخرين ينتمون لنفس الأحزاب التي تهيمن على كل شيء في لبنان، فما يحصل هو تبديل للوجوه فقط.

كشفت الأشهر القليلة الماضية عن حجم الفساد والإهدار الذين مارستهما الحكومات اللبنانية المتعاقبة والدَّين العام الذي بات كارثياً، ما يعطينا دليلاً أكثر وضوحاً، وقتامة في الآن ذاته، على أن هذه النخب السياسية فاشلة، وهي لا تكترث لفشلها.

إذاً لماذا لا يستطيع اللبنانيون خلع هذه الطبقة بأكملها؟

تظاهرات لبنانية عقب انفجار بيروت قوبلت بعنفٍ من قوات الأمن التي استخدمت الأعيرة المطاطية والغازات المسيلة للدموع. صورة: Reuters

كانت الفكرة من المحاصصة هي إنهاء الحرب الأهلية وإعطاء جميع الأطراف اللبنانية فرصة للمشاركة في الدولة والحكومة، وعند بروز الأزمات، تسارع الأطراف إلى تشكيل حكومات تكنوقراط لتسيير الوضع لا أكثر، وكأن الشعب اللبناني مُقدر عليه أن يبقى خاضعاً لسلطة أطراف وأحزاب تحكم البلاد بطريقة أقرب إلى العشائرية والقبلية، أو كأن لبنان ليس بدلاً ديموقراطياً متحضراً يملك كفاءات سياسية وعلمية. واليوم، الحكومة اللبنانية الحالية معزولة دولياً بشكل لم تشهده أي حكومات سابقة، فلا أحد يريد التعاطي معها أو إقراضها الأموال. ويبدو أن اللبنانيين يستوعبون هذا الأمر جيداً، فخرجوا إلى الشوارع يهتفون «كلن يعني كلن» في إشارة واضحة إلى غياب ثقة اللبناني بالأحزاب التي يُفترض أن تمثله سياسياً لا دينياً.

تظاهر عشرات آلاف اللبنانيين في الشوارع، واستطاعوا اقتحام المباني الحكومية، ومع ذلك لم يرَ القادة السياسيون ضرورة للتغيير أو الاستجابة لمطالب الشعب، بل يبدو أنهم قرروا الاستعانة بقوى الأمن، ما زاد من غضب الشعب. أما بالنسبة للانتخابات التشريعية عام 2018 –والتي كان من المفترض أن تحدث عام 2013 بالمناسبة– والتي عُدل فيها قانون الانتخابات لاستبدال النظام القديم، لم نلحظ أن شيئاً تغير خلالها، بل ما حصل هو محاصصة جديدة بين أحزاب وتكتلات سابقة أفضت في نهاية المطاف إلى تفرّد حزب الله بالقرار السياسي نوعاً ما ووصول عون إلى رئاسة البلاد، ولم نشاهد سوى قلة قليلة من الوجوه الجديدة والمستقلة، على الرغم من أن نسبة المقترعين لم تتجاوز الـ 50 بالمئة، والمصيبة أن الأحزاب السياسية حينها لم تعمد إلى تقديم برامج أو رؤى سياسية مشتركة، بل كان أكبر همها هو تحصيل أكبر عدد من الأصوات. وكلنا لاحظنا كيف امتطى بعض السياسيين المخضرمين في لبنان موجة الاحتجاجات، مثل وليد جنبلاط أو مجرم الحرب سمير جعجع، وحتى بهاء الحريري مؤخراً، فحاولوا التقرب من الاحتجاجات الشعبية وانتقاد الحكومة والنظام السياسي خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت بتصريحاتٍ مثيرة للسخرية، وكأنهم ليسوا جزءاً من هذه الطبقة الحاكمة ولم يستفيدوا منها على الإطلاق.

وهنا بالذات تكمن مشكلة اللبناني مع دولته، فالأحزاب والتكتلات هي نفسها، تتغير كل فترة بما يتماشى مع الأهداف الخاصة بكل حزب أو تيار أو بما يتماشى مع ضرورات الأمر الواقع، لكن الشخصيات هي نفسها، أي أن «النظام السياسي» في لبنان هو العقبة الرئيسة والأكبر في وجه تشكيل حكومة نزيهة تهتم بالدولة قبل اهتمامها بمصلحة أحزابها. وقد ترى تصريحات نارية من سياسي أو نائب ما، هدفها على الأرجح كسب بعض الثقة وتلميع الصورة لا أكثر، فتلك التكتلات لا تكترث سوى بالحصول على الحقائب الوزارية وتمرير مخططاتها بدون اعتراض، وإنْ غضِبَ اللبنانيون من وزير أو نائب ما، فلا مشكلة، يمكن استبداله بسهولة، ويكون البديل من نفس الحزب أو التكتل الذي انتمى إليه الوزير السابق. ما يعني أن الانتخابات، ولو أُجريت 100 مرة، ليست الحل، إنما البنية السياسية والمجتمعية لهذا البلد هي المشكلة، فلن تجد أحداً من المسؤولين يتخلى عن كرسيه أو موقعه طوعاً.

هناك مشكلة أخرى تقف في وجه اللبنانيين أمام تأسيس بلد ديموقراطي لا يقوم على المصالح الطائفية، وهي أن تلك المظاهرات والاحتجاجات، وهي مظاهرات عفوية، تنادي بمطالب فضفاضة وواسعة، فلا يملك اللبنانيون اليوم حزباً مستقلاً يعطي أولوية لمصلحة البلد العليا، ولا يملك اللبنانيون زعيماً أو قائداً لهذه التظاهرات والحركات الاحتجاجية لديه برنامج سياسي واضح، وهنا نعود إلى الحلقة المفرغة، حكومة التكنوقراط النخبوية التي تُنشأ لتسيير أمور البلاد بما يخدم مصلحة الطبقة الحاكمة لا أكثر. ومع أن اللبنانيين بمختلف طوائفهم أصابهم الإحباط من هذه الطغمة الحاكمة، لكن جميع الأحزاب لا تزال –حتى هذه اللحظة– تملك قاعدة طائفية تستند عليها وتقدم لها وعوداً فارغة في كل مرة تُعقد فيها انتخابات، ما يؤدي مراراً وتكراراً إلى إنتاج نفس الشخصيات السياسية لحكم البلاد، ولو تغيرت الأسماء والوجوه، ما يعني أن لبنان يُدار طائفياً بالدرجة الأولى، وليس لأحزابه رغبة أو مصلحة في فكّ هذه التحالفات الطائفية المعقدة.

إن إحداث تغيير في نظام لبناني السياسي هو الطريق الصحيح والوحيد لإخراج هذا البلد من أزمته الوجودية. ويتطلب ذلك إحداث تغييرات في بنية وطريقة تفكير المجتمع اللبناني، فلم يعد من المقبول اليوم أن يصطف اللبنانيون مع الأحزاب التي تمثلهم طائفياً. وبذلك نرى أن الحلّ لا يقتصر على إحداث تغيير سياسي أو استقالة جميع الوزراء والنواب، فالفساد مستشرٍ في هذا البلد الذي احتلّ المرتبة الـ 143 عالمياً من ناحية الشفافية (بينما احتل المرتبة 83 في عام 2005)، لذا لا بد من خلق سلطة قضائية مستقلة ونزيهة وحكومة مركزية تعمل بكامل قواها ورغبتها على إخراج لبنان من أزماته السابقة.

«كلن يعني كلن» هو المطلب الأنسب لانتشال لبنان من مستنقع الفساد والفشل السياسي، لكن كيف سيحدث ذلك؟ وما الطريقة التي سيلجأ إليها اللبنانيون لاقتلاع هذه الطبقة السياسية؟ وما المصير الذي ينتظر لبنان إذا حدث ذلك؟ تلك أسئلة لا أحد سيعرف أجوبتها إلا اللبنانيون أنفسهم إن فكروا في مصلحة دولتهم قبل التفكير في مصلحة زعمائهم السياسيين والدينيين، أما تبرير العودة إلى أحضان الأحزاب السياسية المهيمنة بحجة الخوف من المجهول فلم يعد صالحاً، ولم يكن صالحاً من الأساس، وخير دليل على ذلك هو ما حدث ويحدث في سوريا.

مقالات إعلانية