in

وكأننا نعيش في ما تبقى من دماء ذاك الطمث!

يأس

على ذلك الفرج المتسخ الذي يدعونه زوراً وبهتاناً كوكب الأرض، أربعة مليارات ونيف من السنون مرت على ذلك الطمث، والأمور لم تكن بسوء ما هي عليه الآن.

حتى وقبل أن يُخلق ذلك الطمث الكوني، في تلك الفترة التي كان فيها مجرد جدار لرحم ما، كانت مجريات الأحداث تسير بهدوء وسلام.

لست تدري هل هناك أحد أراد أن يصل الحال برحم تلك البقعة السحيقة من الكون لهذه الدرجة الكارثية لغاية ما، أم أنها مجرد تغيرات فيزيولوجية جرت بشكل عشوائي وفوضوي، وتلك العشوائية والفوضى نظمت نفسها لتخلق تلك اللوحة الكارثية من هذا الرحم على هذا الفرج!

ولست تدري هل مهمتك تكمن في النجاة من هذا العبث الكوني وأن تستسلم لما ستلقاه بعد هذا الطمث، أم يجب أن تكون غايتك هي أن تستشف هذا النظام الخفي الذي يقبع خلف تلك العشوائية. وبكلمات أخرى (أقتبسها وأقتبس معظم ما سيأتي بعدها من أسطر، من كتاب أساتذة اليأس – النزعة العدمية في الأدب الأوروبي لنانسي هيوستن، ترجمة وليد السويركي) بعيداً عن الكلمات المنمقة السابقة: ”لستَ تدري هل طبق العجة الذي تعده يستحق تلك البيضات التي تكسرها، أم أن لا البيض ولا العجة يستحقان منك أي عناء، فأنت لست جائعًا من الأساس!“

قبل الخوض قدماً، وإن كانت المقدمة قد أزعجتك كنسوي (أو نسوية)، فمن الأفضل أن تتوقف هنا! فإن كنت تظن أن العدميين قد يكترثون لمشاعرك وأفكارك بما يخص هذا الأمر، فقد أخطأت أسْتُك الحفرة! فهل بحقك سترى عدمياً يحب ما هو أمومي وخصب ومتبدل في جسد المرأة، ومسؤول مسؤولية واضحة عن وجود الكائنات البشرية على هذه الأرض؟ بل على العكس، فغالباً ما تكون أقلامهم ”قضباناً سادية“ تغتصب ذلك الجسد المدان.

إن مازلت تقرأ هذه السطور، فأنت قد اخترت أن تبقى لتتفرج على ما سأكتبه لك، لكني أحذرك، كل شيء ههنا ينحط ويزداد سوءاً.

لعل أهم ما يمكنك استخلاصه من الحياة على كوكب الأرض ”أن جريمة الإنسان الكبرى هي أنه قد ولد“ [1].

لا لحظة! هل هي فعلاً جريمته هو؟ أم كانت جريمة والديه اللذين قطع رغبتهما الدفينة في الخلاص من كل هذا العبث، الخوف من العزلة أو الاستغراق في حضن التبعية لهذا العبث الكوني، أو استمتاعٌ بمازوشية تتملك البعض تجاه هذا الجنون!

ولنكون منصفين، فقد يكون دافعهم الأساس مجرد محاولة للاستمتاع بلحظات سرقها الوالدان من وسط كل هذا، ليعيشا تجربة الخلود، خلود النقل والتوريث! لكن على أي حال فوجودك أنت بالذات، دون ملايين النطاف التي جاهدت للوصول لتلك البويضة القابعة في قناة فالوب، تجعلك تميل لفكرة أنك هنا لست بفعل تدخل إلهي، ولا برغبة بشرية، ولكن بمحض الصدفة، وعَرَضَاً، وبل ربما نتيجة غلطة.

أريد مزيداً من الأنصاف، لا داعي للعجلة في إلقاء الأحكام. دعونا نلقي نظرة خاطفة وسريعة على شريط حياة طفل وُلِد للتو.. لا، حرك الشريط بضع أسابيع للأمام.. تماماً هنا، هل ترى الظهور البطيء للغة والشخصية لهذا الكائن الجديد! انظر لطريقته في تشرب العالم وتملكه له وبناء العلاقات معه.. عجل الشريط قليلاً.. بضع سنين أخرى، ها هو يخوض حياة الدراسة، ثم البحث عن عمل، ها هو يلتقي بشريكة حياته، ينجب طفله الأول! توقف، هذا يكفي. أليست دورة حياة ممتعة ومثيرة للشغف، وتستحق أن تكرر مراراً؟ أم ”إننا نشهد وباء حياة حقيقياً، وفيضاً من الوجوه“ [2ٍ] ويجب أن نضع حداً له؟

على أي حال وبعيداً عن إلقاء الأحكام على الآخرين، لكننا لن نختلف على ”أن إنجابك لطفل يعني هذا أن تقول: لقد ولدت وتذوقت طعم الحياة وتحققت أنها من الجمال بحيث تستحق أن تكرر.“ [3]

قد تقع صدفة نادرةٌ تتيح لك إلقاء نظرة خاطفة على كل هذا، سترى البعض يسعى لخلق نظام في هذه الفوضى، ولكن عند كل حركة تجد أن عملية الخلق تلك تتداعى نواصبها. وسترى البعض يلهو بأغنية عن خيانة حبيب وهو يضبط إيقاعها بفقش أصابعه!

لا يملك الأول فضلاً عليك، ولست تملك لوماً تلقيه على الثاني، فجميعكم هنا بالأساس نتيجة تفاعلات كيميائية دفعت آبائكم للتزاوج، الشهوة والحب ضربت في أعماقهم بقوة، وتلاشت بعدها لتتركهم وأنتم معهم هاهنا.

إذا اتفقنا على أن كل ما حولنا عبثي مهما حاولنا أن نقومه، فالأجدر بنا الانتحار على الفور (تذكر، أنت ما زلت في رحاب أساتذة اليأس، لذا لا داعي لأي أفكار مجنونة)، وإلا فالحل هو في اللجوء إلى الكتابة، فكتابتي لما سبق كله (طبعاً كما ذكرت لكم سابقاً، معظمه مقتبسٌ بتصرف من كتاب أساتذة اليأس لنانسي هيوستن) هو رفض أعلنه –بشكل غير مباشر– للعالم القائم، وتعبير عن النقصان وقلق الوجود، فإن من يشعرون بالرضى عن أحوالهم، ويعشقون الحياة عموماً، ليسوا بحاجة لخلق عالم موازٍ عن طريق الكلمات.

حتى الكتابة، يرى البعض أنه لا غاية منها في كوكب يعج بالأحداث الفظيعة وغير المفهومة، فلـ(تيودورو أدورنو) عبارته الشهيرة: ”لم يعد ممكناً كتابة بيت شعر بعد أوشفيتز“. (في الحقيقة، إن معسكرات الإبادة كانت فظيعة بما يكفي لجعل كل أدباء أوروبا عدميين).

في عالم ”أوشفيتز وأخواتها“ (في سوريا وفلسطين واليمن والعراق وغيرها) صارت العدمية التي حلت محل كل اليوتوبيات الفاشلة كنيستنا الحديثة. وبات أتباعها الحاملون فوق رؤوسهم هالات الألم المطلق، هم مُسحاؤنا المرتدون الصليب، قديسونا المعذبون.

لست أدري هل علي أن أطلق سراحكم الآن، أم علي أن أنقلكم لكتاب نانسي هيوستن الذي اقتبست منه معظم ما سبق. على أي حال، إن رأيتم أنه بإمكانكم الاستمرار على هذا الحال، فدعوا الكتَّاب الذين تناولتهم نانسي في كتابها يسممون حياتكم أكثر. أظنه أمرًا مثيرًا للشغف!


  • [1] بدرو كالديرون دي لا باركا
  • [2] إميل سيوران
  • [3] ميلان كونديرا

مقالات إعلانية