in

مضاجعة الواقع

مضاجعة الواقع

”عام 1914 ماذا عرفوا عن الحرب بعد حوالى نصف قرن من السلام، لقد أصبحت أسطورة بطولية ورومانسية، ونظر الناس إلى الحرب من منظور الكتب المدرسية واللوحات فى المتاحف، على أنها هجمات الفرسان الشجعان فى دروعهم اللامعة، والذين يؤدون مسيرة النصر دون وقوع ضحية، إنها مغامرة برية رجولية وتجرية رائعة ومثيرة، لهذا كانوا يغنون ويرقصون فى القطارات التي حملتهم الى المذبح“.

جاءت الكلمات إلى مسامعي من سلسلة أبكاليبس الوثائقية فى مشهد وداع الجنود لذويهم، وهم يعبئون داخل القطارات التى تقودهم إلى عالم يبدو من وقع الصوت أعلاه أنهم كانوا تواقين لخوضه.

وهم هو فكرة معاناة البشرية أبد الآبدين من أجل السلام أو المثالية، مجرد مطالعات تصفحية لتاريخ ما قبل الحرب، نجد أن العالم كان كالعادة سيئا فى المجمل، لكن ليس كجحيم ما بعده.

ما أردناه حقا هو إشباع تلك الرغبات والأهواء الدفينة بداخلنا، فالقبل والأحضان والليالى الماجنة مع النساء المريدات أو المومسات، بخلفية تؤهات متعتهن أو صراخ لعنة احتياجهن، لم تشبع حاجة الحضارات الذكورية، احتجنا نزوات أكثر طغيانا وتؤهات أكثر تعقيدا في وصف ماتحتويه من مشاعر متعة مركبة ممزوجة بآلام وتؤهات حزن مشوه، سادية تريد دماءا حقيقة غير دماء العذرية، وأشلاء من أعضاء تنتصب عنفا غير تلك المعلومة الأوصاف.

احتجنا الاحساس بزفير دخان السجائر مع كؤوس البيرة فى أراض غير معتادة، كل ما نعرفه عنها لا يتعدى صور المخيلات أو كتب الأدب وتذكرة وصولها مجانية، بشرط بيع الروح وإحداث أكبر ضرر ممكن بالأسلحة أو تشابكات الأيدي، والإحساس بنشوة الانتصار حتى بمجرد سحق جرذان الخنادق أو نمل الصحاري أو أشجار الغابات لإثبات حتمية عدم تملك خيارات الحياة حتى في أشكالها البسيطة.

امتطاء الخيل واستحواذ الأيدي على مقابض السيوف والزناد وقيادة الطائرة وإرسال قرى بأكملها إلى العدم بكبسة زر، كانت تجربة أخرى أكثر شبقا من تحسس النهود تطالب الشعور بها، أهدت الناجين أكثر من هالات البطولة وقصص المغاوير فى مسيرة النصر العائدة، مضاجعات أخرى مجانية لرواية ما حدث أثناء مضاجعتهم للواقع وما تمخض من رحم المعاناة—بعد أن امتلأ بسوائل الموت—من حروبنا ضد السماء.

أديان بشرية ظهرت مزقت ما بقى لنا فى العالم إلى آلهة ورسل وملائكة وعبيد وشياطين، فهناك من اقتسموا عرش الألوهية وطاعات العبيد بين الزعماء الخطباء، ذوي الكلمات الرنانة الساحرة والأيادي الحديدية والأيدولوجيات الفاشية فاشلة التطبيق واقعيا مثالية، مالكي المادة بكل أنواعها، يرسلون من يشاؤوا إلى الجحيم ويعيشون هم في جنة الأرض، يقولون كن فيكون فيجدوا ولاءا وخلفاء يسيرون على نهجهم، وعلى الجانب الآخر دعاة السلام بادئي الدائرة اللانهائية من يملكون كلمات وأحلام فقط، وجنتهم الصبر يملؤه ألوان أخرى مناقضة لما حيوه ولن يمسهم ضرر فيكفى ما مروا به.

سائرون هياما في ملكوت آخر، مجاذيب رأوا نفس ما رأى الآخرون، واحتملوا من المادية والوحشية والروحانية مثلهم، لكن لم يعد باستطاعتهم المضي قدما فى الحياة أكثر من ذلك، احتواهم عالم آخر غير الذي نعيشه، ملؤوا المشافي بما شاؤوا من ضجيج وصمت، ملائكة لا يقترفون خطأ أو صواباً لأنهم ببساطة لا يعرفون، استسلموا للموت ومازالو أضعف من الحصول عليه إلا قلة يتخطون الوهن.

مضاجعات الأوتار والأقلام والريش والأزاميل والانسجام مع منتوجاته في خطوات راقصة، تعبيرات جسدية تمثيلية وتوثيق العدسات، كان نصيب الرسل فى الدعوة إلى المقدسات في الحياة بآلهة أو بدون، موسيقى صاخبة وضوضاء وكلمات صارخة، أزياء ممزقة، شعور كثة طويلة، تتلاعب مع عويل الآلات وأنين مدفون في نبرات حناجر مميزة تلخص الأحداث وتتعداها.

والشياطين في هؤلاء جميعا في مسارات التحويل والخيوط الرفيعة التى تفصل بينهم، وهم محركوا العبيد فى اختيار طائفتهم من تلك القسمات.

لن يبقى من الآلهة إلا أسماء يتبعها لعن أو تبجيل، والملائكة سينسون فى عالمهم مع أشباحهم، ورحلة الشياطين مع العبيد في الاختيار تظل إلى الأبد، أما الرسل فهم فقط من استطاعوا أن يضاجعوا برومانسية تستحن من جميع الأطراف وتحتفظ بخلود آخر مميز.

مقالات إعلانية