in

حدثتني جارتي وقالت.. ”أتعرفون داعش؟“

امرأة عربية محجبة

– ”لا.. لا أحد يعرفها!“

– ”أنتم سمعتم فقط، أنا أيضاً سمعت فقط“.

فاطمة عاشت ورأت.. أتت اليوم إلى منزلنا وكنتُ أول مرةٍ أراها، إنها جارتي منذ زمن، فتاةٌ صغيرةٌ جميلة، عمرها سبعة عشر!

المسافة بين عينيها حلمٌ قتيل؛ عيناها بلون رمال الشاطئ، قد تتلبَّدُ بالغمام وتمطر في أيّ لحظة، ”لماذا الحزن يا فاطمة؟“

سكتت وابتسمت، أخذت رشفة قهوة وهزّت رأسها بعفوية، فشعرتُ كأنّ الكون بما وسع يهتزّ أمامي، وأنني أُجَالِسُ عجوزاً خَبِرَت كل آلام الدهر وكتمت، وأنها بعد قليلٍ ستغمض عينيها وتقول: لم يعد في العمر شيئاً أكثر ممّا مضى يا ابنتي.

تنهّدت وشهقت لكأنّ العالم كلّه انحشر في رئتيها وتعيد زفره مع كل نفس، وقالت: ”الحياة هنا جميلة أنا أحببت لبنان“.

– ”ألا ترغبين بالعودة إلى سوريا؟“

– ”بلى ولكن.. الوضع لا يسمح“

إنها تهرب بعينيها.. شيء ما تهرب منه فتتأمّل الجدران والسقف وحتى جانب الصينية المزركش.

– ”منذ متى متزوجة؟“

– ”سنتين، لكنني أعرف أن أطبخ وأنظّف و…“

لا أدري صدقاً لما دمعت عيناي؛ ربما لأنني توقعتُ أن أكلّم طفلةً تحدّثني عن أجمل فساتينها، عن الموضة لهذا الشتاء؛ عن طلاء أظافرها الذي لا يجفّ سريعاً بسبب الطقس، أو ربما عن نتيجة اختبار الكيمياء وعشقها للتاريخ، وحلمها في أن.. في أن تغيّر العالم! لكنها قالت بحيرةٍ وارتباك: ”تركت الغداء على الموقد قد يحترق وأخاف أن يصل زوجي“، آه يا فاطمة..

– ”لماذا هربتم من سوريا؟“

– ”لأننا تعبنا حقاً، لم يعد الوضع محتمل“.

– ”احكِ لي..“

…وتقول فاطمة بأنّ بلدها جميل، ولكنه وقع ضحية اغتصاب جماعيّ لعصبةٍ من اللصوص، شكّلوا دولة اسمها ”داعش“..

– ”هل تعلمين يا جارتي أننا كنّا سعداء! والآن حتى النفس نخاف منه، داعش أسوأ ما يمكن أن تعرفيه، قتلة ومجرمون، قتلوا رجالنا وشرّدوا عيالنا وحاكموا وجودنا تحت راية الدين.. فعلاً لبنان رائعة وأنتم أحرار“.

– ”أحرار؟!“

– ”أجل.. عندنا هل تعلمين لو خرجت المرأة بدون حجابٍ سيُقطع رأسها؟ لأنها أبدت عورتها.. ولو كشفت عن وجهها أو لون ثيابها سيُسجن زوجها أو أبوها وأخوها ويدفعون غرامةً ويُجلدون.. أصبحت سوريا بائسة الآن!“

– ”بأي حقٍّ تُقتل!! هل الكشف عن شعرها جريمةٌ قضائية؟“

هزّت كتفيها استنكاراً، وعادت تتأمّل السقف، تريد قول شيءٍ لكنها خائفة؛ خائفة أن تكون داعش عالقةً في جدران منزلنا أيضاً، وأنها قد تموت لو عبّرت أو حكت..

– ”وجهك جميل يا فاطمة وتبدين صغيرة، ألا ترغبين إكمال تعليمك والعمل؟“

– ”الآن لا“! (هي لم ترد أبداً أن تقول لا! نعم فعيناها حدّثتني. أرادت أن تقول بلى ولكنهم أقوى منّي!! ولكنهم أرغموني وكسروا الحلم في داخلي)، ورأيتُ في بسمتها ربيعاً قتيلاً، غصون زيتونٍ شهيدة، وحلماً متحللاً في قبرٍ من الأحداث؛ فآخر ما تذكره يوم سألها الشيخ وقالت ”قبلت“..

ورأيتُ في عينيها شيئاً من تراب، رائحة التراب، وخطوات طفلة تركض فوق العشب الأخضر فتقع ضاحكة.

– ”فاطمة، كيف تتحمّلين كل هذا؟“

– تنهيدة أخرى احتوت العالم في رئتيها: ”تعوّدنا“

– ”هل يعتاد الإنسان على الألم فيصبح جزءاً منه؟ وهل يخاف أن يُعاقَب بجريمة الحلم؟“

اتبعت وهي تبتسم؛ ”أنت ترتدين ألواناً جميلة، لو خرجت هكذا سيذبحونك..“

الألوان.. تذكّرتُ نفسي!

كم أعشقُ الفن والبهجة والألوان.

فاطمة كانت غارقة في كوكبٍ أسود حالك، عيناها نجمتان وسط سوادها، وضحكتها موقفة بتهمة التعدّي على القوانين.

فاطمة جميلة.. ستحزرون من بياض بشرتها ولون حاجبيها أنها شقراء، أيضاً هي نحيلةٌ جداً، بريئةٌ جداً!

ضحكتُ من أعماقي: ”سيذبحونني لأجل قماشٍ ملوّن؟“

– ”أجل.. ممنوع!!“

– ”من ذا الذي يملك الجرأة ليمنع الحياة ويمنع الفرح ويمنع الألوان؟“

حكت لي الكثير.. سرحتُ عنها وهي تبتسم وتحكي بدهشة عن كل التجارب وكل الألم، تحكي وكأنّ ذاك الألم هو منعطف حياة، وكأنه جزء من الصلصال الذي يشكّلها..

سرحتُ عن ألمي أيضاً؛ ربما لم أُرد أن أتوجّع.. وتخيّلتُ فتاةً جميلةً شعرها يلامس الهواء وتتطاير خصلاته، الهواء الشقيّ يداعب وجهها ويرفع طرف تنورتها، الهواء يغازل مفاتن جسدها ويعانقها، وتخيّلت أنها حرةٌ حتى النخاع؛ وأنها حقّقت أحلامها ومستمرة في الحلم..

وأردتُ أن أقول شيئاً فلم أستطع.. أردتُ أن أخبرك يا فاطمة أنّ الحياة أعظم بكثير من وجبة الغداء التي قد تحترق لو نسيتها على الموقد، وأننا مستمرون في الحياة لأننا مستمرون في الحلم.. وأنك ميتة يا صغيرتي؛ وأنني أبكي في عزائك بصمت..

لكنني لو قلت، لتفقّدت أنفاسكِ وقلت أنا حية! حيةٌ لأنني أتنفس فقط!

مقالات إعلانية