in

دخان ودرج

دخان ودرج

مكتب محاسبة ضيق، أوراق على الأرض، عمل ممل لا ينتهي، وعلى سبيل التقاط الأنفاس يتحجج بأنه سيخرج ليشرب سيجارة، رغم أنه لا يحب التدخين ويكره رائحة السجائر إلا أنها صارت حجه غيابه الوحيدة.

”مشفناكش ماسك سيجارة قبل كده، أنت بتقول حشرب سيجارة عشان تخلع!“ قالها مديره بنبرة غليظة. وبدأ التدخين بالفعل؛ حتى يتخلص من تلك الجملة المزعجة، ولم يأبه للعبئ المادي لها ولا لأي شيء آخر، فمرتبه لا يكفي لأي شيء على أي حال.

”العيادة اللي فوشنا اشتكوا كذا مرة من ريحة السجاير!“ جملة مزعجة أخري تتكرر، لا يريد من مديره أن يمنعه من دقائق الراحة المعدودة فاتجه يصعد الدرج، ويشرب سيجارته على شباك السلم بين الدورين، وكل مرة يقف على السلم وينفث دخان سيجارته خارج النافذة علي السلم ثم يلقى نصف السيجارة غير مهتم أين تهبط؟ وغير مهتم بما يقبع خارج النافذة، وعندما هم بالهبوط إلى الهم ووضع قدمه على أول السلم لمح القمر بدراً يسند بيداه على جدار الشرفة المقابلة، ويشرد بنظرة على تلك الشجرة الكبيرة وينشر الملابس علي حبال الغسيل، فلم يشعر بقدماه على السلم ولم يشعر بانزلاقه، شعر بجسمه يحلق في الهواء، فأغمض عينيه وتهيأ للارتطام. وعندما فتح عينيه لم يرتطم بالأرض؛ بل كان الارتطام أشد عنفاً!

لقد ارتطم بالواقع، ونظر إلى قدميه.. وجد نفسه لايزال في أعلى الدرج فنظر عبر النافذة، فبادلته النظرة ودخلت وأغلقت باب الشرفة، وتركته كالعاري في عاصفة ثلجية، فهبط الدرج على مهل. وفي أول الدرج لم يكن يشعر بقدميه، وآخر الدرج لم يكن يشعر بقلبه ودخل مكتبه لا يشعر بعقله، وأكمل عمله ويداه تكتب وعيناه لا تقرأ، وأنهى ما كان قد بدأه، ولم يبال ولم يعلم أنه لم يبال، ولم يدر ماهية الأوراق التي قدمها لمديره قبل الرحيل.

استيقظ في صباح اليوم التالي في نشاط غير مسبوق، لم يلاحظ الناس في الطريق إلى عمله، وصعد الدرج في نشاط ونظر إلى باب المكتب فوجده مغلقا!

من أغلق باب الحياة في وجهه؟! ثم أدرك أنه لم يلاحظ خلو الشارع من المارة؛ لأنه—بالفعل—لم يكن هناك أحد في الشارع، وقطع تفكيره صوت المؤذن لصلاة الجمعة… توقف مكانه برهةً، وصعد الدرج ونظر من النافذة: ها هي الشجرة في مكانها! وها هي الشرفه في مكانها! وها هو برج الحمام في مكانه! ولكن غاب القمر عن تلك اللوحة فما كان منه إلا أن ألقى برأسه بين كتفيه وأخرج سيجارة ودخنها في بطء، وألقي بعقب السيجارة علي الشجرة متعمداً، ونظر إليها في حقد. ولما لا؟! فتلك الشجرة تنعم بتلك النظرات وأخرج سيجارة أخرى..

عندما كان على مقربة من أن ينهيها لاحظ شيش الشرفة يُفتَح إلا أن قلبه لم يدق! عقله لا يزال يعمل.. قدماه يشعر بهما، فتعجب قليلا! وانتهت حيرته بخروج فتاه أخرى تكبر القمر ببعض السنوات، ولما رأته أدلفت إلى الداخل في عجل، وقد أدلف هو إلى منزله في عجل، وأخذ يتساءل: كيف يمكنه أن يصبر يوما آخرا؟! لا يمكن أن يقتطع من عقله تلك الذكرى، هذا العقل اللعين يتذكر كل هذه الذكريات المزعجة، ويعجز عن تذكر لحظة واحدة جميلة أم أن تلك الذكريات البائسة تزاحمت في تلك اللحظة.

ذهب إلى مكتبه في يوم الأحد، قابله مديره بعبارات تهديد ووعيد ومزيد من الإزعاج: ”ايه اللي انت سببته يوم الخميس ده؟! عيد الشغل ده تاني وركز في شغلك!“ وها هي تدق الساعة الواحدة—وهو وسط أوراقه وهمومه—ترك المكتب وصعد الدرج ووقف في النافذة ينفث دخان السيجارة في غضب.. ينظر إلى الشجرة في حنق وترك سيجارته فجأة، وتأسف لعقله الذي وصفه باللعين! إنه ينصفه الآن! باب الشرفه مغلق؛ ولكنه يكاد يجزم أنها خلفه تبادله النظرات، الآن القلب لن يخفق! هل تنتظره أن يرحل حتي تخرج وتمطر قبلات الحياة من أعينها علي تلك الشجرة؟! سيجارة تلو الأخرى.. يرمي أعقاب السجائر على السلم باتجاه المكتب؛ حتي لا يؤذي الشجرة!

ونزل الدرج كله وهو ينظر إلي الخلف، وودع النافذة كالبحار يودع الشاطيء في الأفق، ورغم أنه كان دائم الشكوى من غباء مهندسي الحي، وكيف تكون العمارات بجوار بعضها والشرفات تبتعد عن بعضها نصف دور؟! وأن كل شرفة تطل على شباك منور العمارة المقابلة، إلا أنه يعلم أنها أجمل صدفه حدثت له!

في صباح اليوم الروتيني التالي انتظر بعد منتصف النهار بقليل، وذهب ليصعد الدرج بين الدورين ورأى الشرفه المقابلة مفتوحة؛ لكن لم تعبأ بهذا دقات قلبه كما بالأمس! ودرجة فدرجة، أدرك أنها الأخت الأكبر سناً، بالطبع أنهما أختان تتبادلان الأدوار في الأعمال المنزلية يوماً بعد يوم، فلم يكلف نفسه عناء صعود الدرج وعاد إلى مكتبه وهو يعلم تماماً أن غداً سيكون اليوم الذي ينير فيه القمر الطريق إلى صحراء روحه.

”ايه أخيراً ناوي تتوب علينا من السجاير وتخلص شغلك في ميعاده؟!“

”عشان مضايقش حضرتك حشرب يوم ويوم!“ أجاب مديره بابتسامة بلهاء!

وفي اليوم التالي دقت الساعة تقول بأن الشطر الأجمل من النهار يبدأ، وقد خرج من باب المكتب وخرجت روحه من الدنيا، ولاح القمر في الشرفة كالواحة للشريد.. اتجهت عيناه الحيارى إلى تلك العيون، وأخذت تنهل منها حتي ارتوت عيناه وشربت روحه الجافة، حتي أصبحت تجري فيها المياة كالنهر وتُسقي براعم الكلمات الطيبة في قلبه، وتنمو الورود في حياته وتكبر حتي تكاد تُلَثم السحاب، وشعر بشظايا ذكرياته الجميلة تتجمع من جديد، والدم في عروقه يسري بشغف كالحديقة يملؤها الأطفال حبوراً، حتي أدرك أنها أدركت وجوده إلا أنها هذه المرة لم تمانع وانتظرت حتي أنهت ما تفعله بالشرفة، ودخلت إلى الشقة، وسقت روحه من عينيها خمراً بنظرة مصحوبة بضحكة خفية، وأغلقت الشيش بهدوء وغابت عن أنظاره كغياب الشمس عن السماء لتعلن انتهاء صيامه عن العمل!

الأسابيع القليلة التالية اعتاد الوقوف في الشرفة في الأيام المخصصة لها لتقوم بأعمال المنزل في الشرفه، وظل يحرص علي أن ينال تلك النظرات كالمدمن في انتظار جرعته من الحياة، فهو يعلم جيداً أنه لم يدمن السجائر، لقد أدمن تلك النظرات.. أدمن مراقبة الشجرة.. أدمن خفقان قلبه علي السلم، وكان صعود الدرج وانتظاره لها لم يكن كالإدمان؛ بل كرحلة لمنزل قديم يحن إليه، ولم يسأل نفسه—ولو لمرة—لماذا رغم تلك النظرات والابتسامات لم تُجِب علي الخطابات التي يلقي بها في شرفتها قبل رحيله؟! وهو يعلم جيدا أنه يشعر بها تلتقطهم بنفسها ولا تسمح لأختها بأن تعرف أي شئ عنهم، فحتى لو أنها تتمنع عن الرد عليه فهو لا يستطيع التخلي عن تلك الدقائق المفعمه بالحياة وسط سنوات حياته القاحلة، ورغم جحيم ذاك الهدوء إلا أننه مازال يحرص على رؤياها، إلى أن جاء اليوم الذي شعر فيه بخفقان قلبه واضطراب روحه عند نزوله من المكتب أكثر من أي وقت مضى.

إنها في الشارع أمامه، ولأول مرة ستكون المسافة بينهم أقل من عرض الشارع، وفور إدراكه لهذا شعر بالضياع ماذا يفعل؟! هل هي وحدها أم ترافقها أختها الكبرى؟! شعر كنجم يهدر نوره في الصحراء.. كوردة تهدر عطرها علي معطف زوج خائن، لا يدري ماذا يفعل حتي مرت من أمامه بجوار باب العمارة تضع يد علي الشجرة تتحسسها وتتكأ عليها، وبيدها الأخرى عصا طويلة تضرب بها الأرض حتى لا ترتطم بما يمتد أمامها!

مقالات إعلانية