in

كيف تتلاعب الموسيقى بعقولنا داخل الأسواق والمطاعم

كيف تتلاعب الموسيقى بعقولنا داخل المطاعم

تعتبر أفضل طريقة لتنبؤ المبلغ الذي ستصرفه في مكان ما هي معرفة مدة الوقت الذي تمضيه في ذلك المكان، حيث لا يتعلق الأمر عملياً بالثروة التي تمتلكها، نواياك في ما ستشتري، جنسك، أو حتى إدمانك على الشراء والتسوق. فالمعادلة ببساطة؛ الوقت الذي تقضيه = المبلغ الذي ستصرفه.

وهنا يُطرح السؤال، كيف يتمكن أصحاب المحلات التجارية من إبقائك في محالهم لأطول مدة ممكنة؟ إذا كنت تفكر أنهم يفعلون ذلك عبر وضع أفضل منتجاتهم وأكثرها رواجاً في أبعد نقطة من المحل، أو في وضع العديد من المرايا لجعلك تتفقد نفسك عند كل واحدة منها، فأنت مخطئ! بكل بساطة، يلجؤون إلى وضع الموسيقى!

يعتقد البعض، والأمر الذي يعتبر برهاناً وحجةً أكثر من كونه إثبات، أن الزبائن الذين تعرضوا لسماع موسيقى في المحلات التجارية قد تمكنوا من البقاء لمدة أطول بحوالي ٢٠٪‏ مقارنةً مع وجودهم في المحلات التي لا توضع فيها موسيقى، كما دفعوا مبلغاً إضافياً يعادل خمس المبلغ المدفوع بدون موسيقى.

لماذا؟ ربما لأن الموسيقى تريحهم، وتتيح لهم مزاجاً أفضل. فتعتبر الموسيقى مخدراً جيداً؛ شرعياً، لا يسبب الإدمان، وذا تأثير سريع جداً. الأمر الذي لم تلبث الشركات والمنظمات التجارية أن انتهزته، فاستغلت المردود المادي الناتج عن استخدام الموسيقى في المحلات والأسواق والمطاعم والبنوك…

بنك

يترأس العالم النفسي البريطاني أدريان نورث موضوع البحث النفسي لتأثير الموسيقى على سلوك الزبائن، في كثير من الدراسات التي وضّحت مفهوم التأثير الموسيقي.

ففي إحدى الدراسات، اتفقت مجموعة فريق العمل القائمة على البحث النفسي، مع عدد من أصحاب المحلات التجارية، على وضع أغانٍ تقليدية فرنسية وألمانية، بشكل متناوب كل يوم لمدة أسبوعين، وذلك في قسم بيع المشروبات الكحولية، لاسيما النبيذ.

وبعد قياس الكم والنوع للنبيذ المباع أثناء تلك الفترة، نجحت التجربة. حيث قاد وضع الموسيقى الفرنسية إلى زيادة مبيع النبيذ الفرنسي، وكذلك الأمر حين تم وضع موسيقى ألمانية، حيث لجأ الزبائن إلى شراء النبيذ الألماني منه.

الممتع في الأمر، أن هؤلاء الزبائن لم يدركوا تأثير الموسيقى عليهم والتي قادتهم لشراء نوع معين من المنتجات دون الآخر.

وفي دراسة أخرى، قام فريق العمل القائم على التجربة بوضع مختلف أنواع الموسيقى أثناء تذوق الناس للنبيذ. وكما توقعوا، أوضحت التجربة أن الكلمات التي استخدمها الناس في وصفهم لطعم النبيذ ”هادئ، شديد.. “، كانت نتاجاً عن فعالية تأثير الموسيقى التي كانت موضوعة أثناء تذوقهم للنبيذ.

وبتجربة مشابهة، تم وضع بعض أنواع الموسيقى، منها الكلاسيكية أو الشعبية، كما في بعض الأحيان لم يتم وضع أي موسيقى على الإطلاق، وذلك في مطعم بريطاني لمدة دامت حوالي ٣ أسابيع. وبعد تقدير الباحثين القائمين على التجربة حول الوقت الذي قضاه الناس والمبلغ الذي تم صرفه، تبين أن الزبائن قضوا وقتاً أطول ودفعوا مبلغاً أكبر (على المقبلات والقهوة، دون الكحوليات) حين تم وضع موسيقى وأغانٍ كلاسيكية.

وقد فسر فريق الباحثين ثلاثة أسباب كامنة خلف السلوكيات والنتائج المبينة: السبب الأول أن الموسيقى الكلاسيكية ترتبط مع كافة العناصر التي تكوّن الجو العام للمطعم. وثانياً، أن الزبائن فضلوها ببساطة، وقد تترجم شعورهم الجيد عبر قضاء وقت أطول ومبلغ أكبر. والسبب الثالث أن الموسيقى الكلاسيكية توفّر جواً من الرقي وشعوراً عاماً مرتبطاً بالترف، وبالتالي فيصبح من الطبيعي في مثل تلك الظروف أن يتم صرف مبلغ أكبر. وبالطبع فإن كافة التفسيرات السابقة يمكن أن تطبق معاً لتؤثر سوياً على نفسية الزبائن.

ماذا عن العناصر والإعدادات الأخرى؟

في دراسة أخرى، قام فريق الباحثين بوضع موسيقى كلاسيكية في بعض الأحيان، وإطفاء الموسيقى في أحيان أخرى داخل بنك وبار، وطُلب من الزبائن أن يقدموا تقييماً عن الجو العام في هذين المكانين. فتبين في التقييم ارتباط الموسيقى وتأثيرها على الزبائن، حيث أظهرت التجربة أنه كلما أحب الزبائن الموسيقى أكثر، ارتفع مستوى تقييم الجو العام، وارتفعت قيمة المبلغ الذي كانوا على استعداد لصرفه على المنتجات في البار. كما أثرت إعدادات أخرى في اختلاف التقييم، منها صوت الموسيقى بارتفاعه أو انخفاضه، إيقاع الموسيقى، إضافة لتوقيت اليوم آنذاك.

تأثير شدة الصوت

وجد الباحثون أن وضع الموسيقى بشكل صاخب وصوت مرتفع يؤدي إلى انخفاض المدة الزمنية التي يقضيها الزبائن في ذاك المكان أثناء التسوق. حيث قام ثوماس فان ستراتين؛ مختص في مجال تطوير التسويق عبر الموسيقى، بتجربة اعتمدت على أبحاث مطورة من جامعة واجينينجين، بينت نتائجها أن الناس يميلون لقضاء وقت أطول في الأسواق التي تضع موسيقى هادئة. على عكس الأسواق التي تفتقر إلى الموسيقى، أو تضع موسيقى صاخبة، والتي أدت إلى مغادرة الزبائن بشكل أسرع. حيث قضى هؤلاء الذين بقوا في الأسواق مدة أطول بحوالي ١٥٪‏، ودفعوا مبالغ أكثر بحوالي ٣٣٪‏ من هؤلاء الذين غادروا مسبقاً.

تأثير شدة الصوت

يكمن التفسير وراء ذلك إلى أننا نمتلك كمية معينة من القدرة على استقبال عناصر حسية خارجية، لذا فعندما يرتفع الصوت بشكل صاخب، يؤدي ذلك إلى توترنا ودفعنا للمغادرة بشكل سريع. لذا يلجأ المسوقون التجاريون إلى وضع موسيقى هادئة ذات صوت منخفض. وذلك على عكس مطاعم الوجبات السريعة، التي تريدك أن تغادر بأسرع ما يمكن لتأمين المزيد من الأماكن الشاغرة، حيث تلجأ إلى وضع موسيقى عالية وأضواء شديدة، مستخدمة ألوان صاخبة في تصميمها الداخلي، لتؤثر عليك فتغادر بسرعة.

تأثير إيقاع الموسيقى

تؤثر الموسيقى على النظام البيولوجي للأشخاص، لذا فإن الموسيقى السريعة ستزيد من معدل ضربات القلب وتصعّب عملية التنفس، ما يجعلك ترغب في التسوق والشراء بسرعة أكبر لتغادرة بأقصر مدة ممكنة.

وفي دراسة أجراها رونالد ميليمان؛ بروفيسور في مجال التسويق بجامعة ويسترن كينتاكي، وجد أن سرعة تحرك الناس في الأسواق يمكن التحكم بها عن طريق إيقاع الموسيقى. فالموسيقى البطيئة ساهمت في إبطاء المتسوقين وجعلتهم يمضون وقت إضافي يعادل ثلث الوقت السائد.

وفي دراسة أخرى، وجد ميليمان أن الموسيقى أثرت على سرعة تناول الأشخاص لوجباتهم. حيث نجحت الموسيقى ذات الإيقاع السريع داخل مطاعم الوجبات السريعة في دفع الناس إلى تناول وجباتهم بسرعة والمغادرة بعد مدة قصيرة، ما يساعد تلك المطاعم على حرصها على وجود أماكن شاغرة لمزيد من الزبائن. أما في المطاعم العادية، فإن الموسيقى البطيئة شجعت الناس على البقاء لمدة أطول وشراء المزيد من الكحول.

ماذا عن قدرة الموسيقى على التأثير في إدراكنا حول مفهوم الوقت؟

في دراسة أخرى، قام فريق العمل بطلب الانتظار من عدد من المتصلين على الهاتف، وقد وضعوا لكل فئة عدد من الأصوات، منها مجموعة مختارة من أغاني فرقة البيتلز الأصلية، وأخرى لحناً معزوفاً لتلك الأغاني، إضافة لفئة وضع لها تسجيل صوتي يقول ”الرجاء الانتظار، الخط مشغول حالياً… “ وتم تكرار التسجيل كل ١٠ ثوان.

وقد اعتمدت التجربة على قياس إمكانية تحمل الناس وقدرتهم على الانتظار، إضافة إلى إعجابهم بالموسيقى والأصوات الموضوعة. في نهاية التجربة، جاءت الألحان الموسيقية في المرتبة الأولى، حيث استطاع الأشخاص الذين استمعوا للموسيقى أن يصمدوا في انتظارهم لمدة أطول بدقيقة كاملة نسبة إلى هؤلاء الذين استمعوا لتسجيل ”الرجاء الانتظار“. أي أن الموسيقى الصوتية التي توضع أثناء الانتظار، تساعد الناس حقاً على الانتظار لمدة أطول!

فمن المحتمل أن الموسيقى تمتلك قدرة خاصة على مساعدة الأشخاص على المضي قدماً، بقدر قدرتها على جعلهم يتعلقون بالبيئة المحيطة. بعضهم يعمل على وضع موسيقى تشجيعية ضمن بيئة الأماكن العامة كالمحطات، وذلك لتشجيع المارة على المشي بشكل أسرع.

حيث تمتلك الموسيقى قدرة كبيرة على التحكم بشروط البيئة المحيطة، مسببةً تعديلاً في المزاج، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير سلوك الزبائن تحت تأثير تلك الإعدادات.

كما يمكن للموسيقى المألوفة أن تكون مخدراً قوياً يساهم في تغيير المزاج بشكل سريع جداً، مثل أغاني الميلاد، الترانيم التي تردد غالباً في الأعراس والجنازات، أو الأغاني التي تتضمن لحن الغيتار الإسباني.

ولمعرفة تأثير الموسيقى الكبير، أغلق عينيك لمدة ١٠ دقائق في المرة القادمة التي ستشاهد فيها فيلماً معيناً. ودوّن الملاحظات حول عدد المرات التي تتغير فيها الموسيقى، لمعرفة الأحداث التي تجري. فالناس غالباً لا يدركون تأثير الموسيقى إلّا عندما تكون عالية وصاخبة جداً، أو في بعض الأحيان، حين تسبب لهم الإزعاج.

خلاصة الأمر، أن الموسيقى تؤثر بشكل كبير على الوقت الذي يقضيه الزبائن داخل الأماكن التجارية، والمبلغ الذي يصرفونه هناك، بطريقة ملحوظة ويمكن التنبؤ بها.

ولهذا السبب، يتوجب على فريق التسويق الذكي القائم في تلك الأماكن، أن يدرك نوعية الناس الواردة إليه وطباعهم، نوع الموسيقى التي يحبونها والتي يعتبرونها مألوفة، وما تعنيه تلك الموسيقى بالنسبة إليهم. وهكذا، يتمكنون من إبقائهم لمدة أطول، بربح مادي أكبر!

مقالات إعلانية