in

كم أنا مشتاق لك يازينة

Riham Elshamy
صورة لـRiham Elshamy

يذكر تماماً كيف رفّ قلبه، حين شاهدها أوّل مرّة بهندامها المدرسيّ في طريقها إلى المدرسة، ويذكر تفصيلة ابتسامتها الرقيقة الخجلة بعد أيام، واقفاً في المكان نفسه حاملاً كتبه المدرسية بيده، ملفوفة بشريط ملوّن، وكيف احمرّ خجلاً حين حاول الكلام معها مفتعلاً الجرأة مقترباً منها، خرجت كلمة ”هلو“ من فمه بصعوبة بالغة، متسائلاً أين ذهب صوته الجهوري ورزانة جسمه الذي أخذ يرتعش.. يذكر كل هذا كما لو أنه حصل يوم أمس.

يذكر كيف أراد الإثبات لأهله أنّه أهلًا للمسؤولية، بعد رفضهم فكرة الزواج لكونه ما زال طالباً وصغيراً، بعمله كسائق بعد الدوام عند أحد تجّار بغداد بالرّغم من عدم امتلاكه إجازة سوق، لكن كان له شارب غليظ جعل من ملامح وجهه تبدو أكبر مما هي عليه.

يذكر ملامسة أصابعه لأصابع ابنه البكر، وكيف أحسّ بامتلاكه الدنيا وما فيها، كم هو جميل شعور أنك أصبحت أباً من امرأة لطالما وقفت بجانبك، لطالما أحبّتك وأحببتها، لم يذكر يوماً أنّه استيقظ صباحاً ولَم يكن فطوره جاهزاً، كانت دائماً ترافقه لعتبة المنزل، تقرأ له أدعية وآيات قرآنية في سرّها تختمها دائما بـ”الله ومحمد وعلي وياك“.

يذكر طفلته المدللة ”زينة“ كم هي جميلة، يشتاق يومياً للرجوع بعد العمل لملاقاتها فرحةً بمجيء والدها، يحملها يقبّلها يلاعبها، تحدّثه بكلمات لم تنضج بعد، كم يشتاق لهذه النّبرة البريئة، يا للسماء كم يعشق هذه الطفلة! تأتي إليه كلّ ليله ”بابا احجيلي قصة“ لتنام على ذراعه، مستمعة لوالدها بكلّ حواسها عمّا سيحدّثها من وقائع خيالية مبتدءاً بـ”كان يا مكان في قديم الزمان“.

يردد الآن في سرّه ”كان يا مكان في قديم الزمان“، في صمت مطبق مستسلما للأمر الواقع، والسلاح مصوبٌ نحو رأسه، متخيّلاً حبيبته الصغيرة زينة بجانبه تستمع له بإمعان…

تدخل صرخات بربرية في أذنه ”قال تعالى: فإذا لَقِيتُم الذين كفروا فضرب الرقاب، لقد تمكّنت الدولة الإسلامية في العراق والشام من هذا المرتد الكافر، وإن شاء الله سنخلّص الأمّة الإسلامية من كل كافر…“

بدت له هذه الصرخات غير مسموعة بوضوح، كما لو أنّها كانت من مصدر بعيد جداً، لقد تصوّر هذا الموقف عدّة مرّات في أحلام يقظته، ودائماً ما تخيّل أنّه سيبصق في وجه مقيّديه، وتخيّل أيضاً أنّه سيردد الشهادتين قبل موته..

لكنّه الآن غدا صامتاً، متخيّلاً طفلته الجميلة نائمة على ذراعه مردداً ”كان يا مكان في قديم الزمان… كم أنا مشتاق لك يا زينة..“

مقالات إعلانية