الموت، كلمة واحدة من خمسة أحرف تستطيع أن تشتم رائحتها، أن تشعر بطيفها يدور حولك في المشفى، في العمل، في المسبح، على التلفاز أو على طريق بيتك حتى.. خمسة أحرف قادرة على قلب موازين حياتك كلها رأساً على عقب.. هو واحد للجميع، سواء كنت طفلاً صغيراً، امرأة عجوزاً أم رجلاً شاباً فلا يميّز ولن تكون الخيرة من أمرك كيف ومتى ستذهب. الجميع سالك إليه صغيراً كبيراً، غنياً فقيراً، حتى من لم يولد بعد..
لم أفهم الموت يوماً، ولكنّي استطعتُ تخيّل كل شيء، هوّة عميقة سوداء تستطيع ابتلاع كل شيء ولا تمتلئ، تطلب المزيد دائماً. أراه في مخيّلتي يدوّن أرقاماً عل جبهاتنا، لا يعرفنا بالأسماء بل نحن عنده مجرد أرقام عليه التخلّص منها، ومتى تخلّص من الشخص فإنّه يحرق رقمه ويرميه في الهوّة لينتظر الرقم التالي فيقوم بحرقه تالياً.
لم أتخيّله يوماً كما يظهر في الأفلام، شبحاً برداءٍ أسود يحمل المنجل في يده اليمنى.. بل تخيّلته رجلاً أسمر البشرة طويلاً ذا لحية بيضاء وقبعة رمادية، رجلاً يمقت الفرح، متشائماً سارقاً للأحلام ومفرقاً للأحباب..
يناديه البعض ويطلبونه بل ويرجون لقاءه فيلبّي دعواتهم ويقبضهم، ولكنّه يغدر بالبعض الآخر فيظهر فجأة كالضيف الثقيل غير المرغوب، فيسرقهم مكرهين من بين أحبّائهم نحو البعيد جداً إلى تلك الهوّة العميقة السوداء.
أراه أحياناً حين أقطع الشارع، حين أركب السيارة، حين أدخّن سيجارتي حتى، يتربّص بي من بعيد، أعترف أنّي ناديته مرّات عديدة ولكنّني تراجعتُ في اللحظة الأخيرة، فانتقم منّي وسرق أعزّ ما أملك من أشخاصٍ في حياتي، أحاول إبعاده عن من أحبّ ولكنّه سريع، سريعٌ جداً يجيد الاختباء..