in

العبثية، الهباء، اللامعنى… دخلك بتعرف تصورات الوجود؟

كرسي منحوت في شجرة
Emmanuel Chaussade

يبدو مفهوم (الغاية) هو البرزخ المهول الذي يحول فيما بين الفوضوية المطلقة واللامعنى من جهة، وبين الحكمة من جهة أخرى.

الغاية والمعنى:

هو ذلك الشعور الذي أحس به البشر منذ القدم بوجود غاية وراء هذا الوجود، لربما انطلاقا من وحشتهم وقلقهم الدؤوب من كل المحيط، إضافة الى أن كل الحركات والسكنات البشرية التي تحف بالغايات والمقاصد، الأمر الذي جعل الانسان يدرك أن جميع سلوكياته لها هدف محدد، وثم إعادة إضفاء تلك المشاعر على الوجود الكوني بأسره.

إضافة إليه فإن المرحلة التي ظن الانسان أن للكون روحه التي يتحرك بها، ولم يستطع تخيل الاشياء اللاحيّة، فظن أن كل متحرك حوله إنما لغاية في نفسه.

الغائية الأرسطية:

لعل المشكلة بدأت منذ أن حاول أرسطوطاليس عقلنة الغائية الوجدانية وتحويلها إلى فكرة فلسفة تساهم عقليا في فهم الكون، فأضاف العلة [العلة: سترد في المقال بالمعنى الفلسفي، أي السبب الكلي الموجد] الغائية لرباعيته، إلى جانب العلة الفاعلة والمادية والصورية، وبمعنى آخر فإن أرسطو أخرج التصورات الأولى عن الكون والعالم بما فيها فهمه للعلل والغايات من حقلها الوجداني إلى حقلها الوجودي لتكون دلالة على للوجود ذاته، ولتوضيح المعنى بمثال:

فيما لو بحثنا عن علل وجود (الكرسي)، ستجد أن الخشب هو العلة المادية بينما الشكل الخارجي هو العلة الصورية وبينما يكون النجار علته الفاعلة، بينما سيكون الجلوس علة غائية وراء الكرسي ذاته وقس على هذا المثال الوجود ذاته.

كرسي منحوت في شجرة
كرسي منحوت في شجرة – عمل لـEmmanuel Chaussade

أيديولوجية المتكلمين، ورفض الفلاسفة:

تلقف المتكلمون العرب [لا تشير الكلمة إلى دلالة عرفية أو أثنية، بل إن العربية هي بمثابة الجنسية والهوية الثقافية، ولاسيما للكتاب الذين كتبوا وحاضروا باللغة العربية كلغة علم وثقافة ومعرفة أنذاك] علل أرسطو الأربعة، وطبقوها مباشرة لتدل على الأيديولوجية الدينية ليكون الله الفاعل والعبودية هي الغاية. ولم يلبث التوظيف الايديولوجي إلا أن فشل بعد أن كشف الفلاسفة العرب عن مشكلة أكبر شككت في جدوى الاستدلالات الربانية من الأصل.

فالعلة الفاعلة هي ”ما يتقوم بها الوجود“ بمعنى أنه فيما لو فنيت العلة انعدم المعلول، وفي مثال الكرسي الذي سيتلاشى إلى العدم مباشرة مع موت النجار! وبما أن ذاك لا يحدث فلا النجار ولا الله علل فاعلة. بينما العلة الغائية هي ”ما انتهى إليه الشئ“ فالعلة الغائية لحجر متحرج ثباته في نهاية المطاف، بالتالي فلا معنى لفرض أي هدف عقلاني وراء أي شئ من الأصل، الذي يفترض إلا عندما يتدخل الانسان وهو الكائن العاقل ذاته لفعل ما.

وبالتالي أسقط الفلاسفة العرب العلة الغائية عن الأهمية بينما بدت العلة الفاعلة في الكرسي هي التماسك الذي سيحفظ الكرسي عن الإنهيار. فالأمر اشبه بعلاقة النار والحرارة على فرض أن النار مكونة للحرارة وعلة لها، فما إن تتوقف النار ستتوقف الحرارة بذات الوقت.

بل وعجزت العلل الاربعة، كما في شكلها السابق الذكر، عن تفسير الحركة وذلك أن أهم عملية حركة كونية هي (الإعلال) على اعتبار أن ذات عملية الإيجاد والخلق بما فيها التطور هي حالة خلق وحركة وتطور كوني لا ينتهي، الامر الذي حدا بآخر الفلاسفة الناطقين بالعربية وهو الملا صدرا الشيرازي المعروف بـ(صدر المتألهين) إلى القول بالحركة الجوهرية، بمعنى العلة الذاتية والمحرك الذاتي، بحيث يفهم من فكرة صدر المتألهين أن التخليق والتكوين ذاتي في الكون بدون الحاجة إلى قوى خارجية، إلا أنه احتفظ بالقول بواجب الوجود المبدع الكوني.

صدر الدين الشيرازي المعروف بملّا صدرا
صدر الدين الشيرازي المعروف بملّا صدرا

بل وأكثر من ذلك، طور الفلاسفة آنذاك طريقة أخرى لفهم العلة والمعلول، رأوا أن المسألة متعلقة بالأنواع (الأنسان بما هو نوع موجود) وعلته المادية هو الجنس الذي ينتمي إليه (الحيوانية) بينما الصيغة التي ميزته عن أقرانه من بني جنسه (العقلانية وعبروا عنها بالناطقية على اعتبار أن النطق لا يأتي من غير عاقل [من هنا عرف الانسان بـ”حيوان ناطق“ أي عاقل بالامكانية والمَلَكَة]) وهذه السمة أو الصبغة الأساسية هي علته الصورية، وبالتالي لم يتبق مجال لفرض علة غائية بل وحتى فاعلة. وعليه تبدو العلة الغائية واهية جدا بل وهمية واعتبارية.

الحقيقة لا تخلوا من ألم:

امراة تقبل الزجاج
صورة لـJames Elliott

أما في العصر الحديث فقد حسم الامر حول خرافية العلة الغائية، على أنها أكثر المغالطات انتشارا في العصور الوسطى، طبعا إحتاج نفيها مناطقة [المناطقة: مفردة وردت في كلاسيكيات الفلسفة العربية وتعني جملة الباحثين في علم المنطق] من وزن برتراند راسل.

ومن الطبيعي أن تهز هذه الحقيقة عمق الكيان البشري، فما الذي سيتبقى من الوجود البشري بلا الغاية والمعنى، مما دفع جملة من الفلاسفة المعاصرين إلى منظومات فكرية مستقلة عرفت بالوجودية، وتنطلق الفكرة من أساس انعدام الغاية الوجودية مما يضع الانسان في مواجهة مريرة مع فكرة العدم، لتفجر لديه ذلك الرعب المقيت القادم من الظلمة واللاوجود، ذلك الشعور الذي نحس به جميعا حيال فكرة الموت، واصطلح عليه بـ”القلق الوجودي“ الذي اعتبره الوجوديون الدافع الاساسي لتقدم البشرية.

فشعورك الدائم بضيق الوقت المتاح لك للإنجاز سيدفعك للعمل أكثر، بل وإن الحضارات بذاتها بينت تحت قرع طبول الموت واللهاث خلف الخلود، التي تجسدت بشكل مباشر في أسطورة جلجامش الرافدينية، والحضارة المصرية القديمة الجنائزية برمتها، أو بشكل غير مباشر ككل الأعمال الابداعية اوليست (الاخوة كرمازوف) تخليدا عميقا لديستوفسكي، أولم يزل أبو الطيب المتنبي بين ظهرانينا ينادي ”الخيل والليل والبيداء تعرفني…“.

ففيما بدت وجودية شوبنهاور وفريدرك متشائمة وسوداوية، ظهرت حالة انسانية مبدعة لدى جان بول سارتر، فيما بقيت العبثية واللامعنى حقيقة مرة وغرائبية لدى آلبير كامو كما صورها في رواية الغريب.

أين ترى نفسك؟

رغم بساطة الفكر فإنها محورية في توجهك الفكري، واتخاذ موقف حيالها سيغير جذريا فهمك لكل ما حولك. فإن رأيت بوجوب العلة الغائية وربطتها بالمعنى المتعالي فنظرتك لاهوتية دينية للكون والوجود. وإن قبلتها وحسب، كلازم لا كعلة للوجود، دون ربط بالمعنى فأنت في صف الفلسفة العربية الكلاسيكية المعيارية وعليك أن تتفقه الحياة وفق المنطق الصوري على منهج صدر المتألهين.

وإن رفضتها يا صديقي دون ربط بالمعنى فسترى الحياة من منظار برتراتد راسل والمنطق الرياضي، وستحيل السلوك البشري للمتخصصين مما لا شأن لك به، وأما فيما لو رفضتها وربطت ذلك بالمعنى الوجودي، فعليك أن تختار بين سوداوية شوبنهاور أو تفاؤل سارتر، علما أنه يستحيل عليك أن تطلق هذه الصفة على نفسك فالوجودة والعبثية واللامعنى تعني بالضرورة اللاإنتماء واللاشيئية، في حال شعورك بهذا الانماء سيكون نقدا للطلب حسب التعبير الرياضي.

للتوسع:

  • صدر الدين الشيرازي: الاسفار الاربعة.
  • برتراند راسل: العلم والمجتمع.
  • جان بول سارتر: الوجود والعدم، والوجودية مذهب انساني.
  • جون ماكوري: الوجودية، تعريب إمام عبد الفتاح إمام.

مقالات إعلانية