in

كتابة متأخرة عن رجاء الجداوي.. أو عن نجوم الصدفة في السينما المصرية

في مصر، من ينجح في دور يعني حصره في هذا الدور، وكثير من الفنانين خسروا سنوات من عمرهم بسبب رفضهم أن يتم حصرهم في دور واحد عكس رجاء الجداوي التي لم ترفض فطال بقاؤها وباتت ”مطلوبة“

في زمن الثنائيات المفروضة، حب أو كره، تقدير أو سخرية، مع أو ضد، يصبح الكاتب في مهمة صعبة حين يريد أن يفصل بين الأبيض والأسود لإظهار أن هناك درجات رمادية، وأن التوصيف حتى ولو لم يرضى الجميع ليس به أي نوع من التقليل.

لذلك، حين توفت الفنانة الجميلة رجاء الجداوي منذ أسابيع قليلة، وجدتني صامتًا، لا لأني لم أحزن عليها، بل على العكس، تلك الفنانة الراحلة لها معزة كبيرة في قلبي ووجهها محبب إليّ بجانب إنسانيتها التي أعرف عنها الكثير. لكن صمتي لأني أردت القول أن تلك الفنانة التي أحبها جدًا ليست ”قديرة“ كما وصفت، بل مِنْ أصحاب ”المواهب المتوسطة“ وهذا لا يعيبها في شيء على الإطلاق، بل يُحسب لها أنها استطاعت التواجد على الشاشة حتى أواخر أيام حياتها والحديث هنا عن الفن فقط فهي ”إنسانة رائعة“.

الممثلة رجاء الجداوي.

والمتتبع لما قدمته رجاء الجداوي على مدار سنين طويلة يستطيع القول بأنه ليس هناك دور فيه ”بصمة“ ولم تقدم أي شخصية ذات أحاسيس مركبة أو تعقيدات ولم تغير من جلدتها فنيًا، فمن البداية تقوم بأدوار صديقة البطلة كما حدث في «إشاعة حب»، ويمكن لأي ممثلة أن تؤدي هذا الدور. ثم بعد ذلك أدوار المرأة ”الشيك“ معتمدة على رصيدها السابق كعارضة أزياء، ثم دور الأم في آخر عقدين من الزمان، وبالتحديد الأم الهادئة التي ليس لها أي بصمة أو تعاني من مشكلة.

وإذا كان ليس هناك موهبة تؤهلها فلماذا استمرت؟ وهو السؤال الأهم، فالكثير يعتقدون أن استمرارية فنان تعني ”موهبته الطاغية“ واختفاؤه يعني ”فشله في التمثيل“، ولكن الحقيقة أن للنجومية والبقاء أسباب كثيرة، وفي حالة رجاء الجداوي، فإن نجاحها اعتمد بالأساس على التعامل معها كإنسانة ملتزمة في المواعيد، ولا تطلب أجراً مرتفعاً، والأهم لا تطالب بتغيير جلدها.

في مصر، من ينجح في دور يعني حصره في هذا الدور، وكثير من الفنانين خسروا سنوات من عمرهم بسبب رفضهم أن يتم حصرهم في دور واحد عكس رجاء الجداوي التي لم ترفض فطال بقاؤها وباتت ”مطلوبة“ إذ ليس هناك مشاكل حولها أو مطالبات بتعديل سيناريو أو سأمها من دور كررته كثيرًا.

لم تكن رجاء الجداوي الأولى، فتاريخ السينما يُخبرنا أن هناك ”نجوماً“ فرضتهم الظروف، وآخرون اعتلوا العرش بمحض صدفة، كما أن هناك من استغل الفرصة وأثقل موهبته فأصبح فناناً قديراً بعيدًا عن الظروف الذي دفعته لذلك.

ولعل البداية مبكرًا وتحديداً بحسين صدقي نجم مرحلة الأربعينيات، والذي يقول عنه الناقد الفني كمال رمزي في كتابه «نجوم مصر الجوهر والأقنعة»، أن اختيار صدقي كـفتى أول لم يكن له علاقة بأي قدرات تمثيلية، لكن في ذلك التوقيت، برزت حاجة لتقديم «وجه مصري» يعبر عن السينما المصرية الناشئة، وساهمت ملامح حسين صدقي في ذلك من حيث الصرامة والهدوء والوجه الشرقي، وبالتالي أصبح نجماً أولاً ووقف ـمام نجوم بعظمة ليلى مراد، لكن بمجرد أن انتهت تلك المرحلة انتهى حسين صدقي نفسه سريعاً.

الممثلة سامية الجمال.

ورغم أنها راقصة من الطراز الأول، لكن من الناحية التمثيلية، يمكن اعتبار سامية جمال ضمن فرقة «النجوم بالصدفة»، وإذا كان ”الرقص“ أول طريقها لشاشة السينما، لكن بقاءها وجعلها بطلة يعود فيه الفضل لفريد الأطرش الذي أنتج الكثير من أعمال ودفع بسامية جمال كبطلة لتلك الأعمال بعد قصة الحب التي جمعت بينهما، وظل فريد يشعر بهذا الحب رغم عدم وجود زواج، ويمكن معرفة ذلك جيدًا بالمقارنة بين تحية كاريوكا التي استمرت في التمثيل تؤدي أدوارها ببراعة في كافة الاعمار وبين سامية التي خفت نجمها سريعاً.

وقد يٌفاجيء كثيرون حين أقول أن عماد حمدي نفسه كان من أصحاب «نجومية الصدفة» وإن كان أثقلها بعد ذلك ليصبح قديرًا عن حق، لكن بالعودة إلى أول أدواره في فيلم «السوق السوداء» لكمال الشيخ، لم يكن هناك أي سبب للاختيار سوى أن كمال الشيخ كان يبحث عن رجل تخطى الثلاثين وصاحب ملامحٍ فيها نوع من الحزن والأسى، ولم يكن هناك أعمال سابقة لعماد حمدي الذي يحمل طبيعة الحزن بجانب إجادته للغة الفرنسية قبل أن يتقن التمثيل.

وما حدث لعماد حمدي حدث لمحمود عبد العزيز الذي تم اختياره لبطولة عدد من الأفلام لا لشيء سوى لملامحه الأوروبية المطلوبة في «جان» الثمانينيات ولم يفلح محمود أن يقدم أوراق نجوميته إلا في «العار»، وبعدها تم الإعلان عن وجود نجم كبير بحق.

معرفة كيف أثرت ملامح ومواصفات البطل على السينما المصرية تتجلى في مثالين، الأول أن النجم الكبير صلاح منصور زامل شكري سرحان في معهد السينما، ولكن لأن ملامح الأول لم تكن مطلوبة، تأخر مشواره الفني كثيرًا عكس شكري الذي بدأ مبكرًا، وفي رأيي، إن قارنا بين الأثنين، فالموهبة ستنحاز لصلاح منصور. أما المثال الثاني يتمثل في الوقت الذي تم اختيار محمود عبد العزيز كبطل رغم عدم وجود موهبة كبيرة تم رفض أحمد زكي لبطولة فيلم الكرنك «بسبب لونه الأسود» كما أوضح هو.

وبجانب معادلة الملامح، هناك أسباب أخرى دفعت نجوماً للتواجد وأخفت آخرين، منها فكرة الأجور للنجوم، فكثيرٌ من الناس يتناسون أن السينما في النهاية صناعة، وبالتالي فإن الأجور وعدم وجود مشاكل والالتزام بالمواعيد تؤثر كثيرًا في مسيرة الفنانين، وهنا يأتي دور حسن حسني الفنان القدير بحق، لكن هذا التواجد لم يكن لنجومية حسن، ولكن لأسباب أخرى أبرزها إنه يجيد الحفظ جيدًا ولا يشترط أجوراً مرتفعة وقادرٌ على العمل في أكثر من فيلم بدون أي مشاكل، مثل ما حدث حين أدى دوره العظيم في فيلم «المواطن مصري»، ووقتها أخبره عمر الشريف كما يوضح بلال فضل أنه يتعجب من قدرة حسن حسني على الحفظ رغم انشغاله بكل تلك الأعمال.

حسن حسني لم يتعلم الدرس من فراغ، ففي مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»، كان من المفترض أن يؤدي دور «المعلم سردينة»، ولكنه اشترط أجراً مرتفعاً فذهب الدور لعبد الرحمن أبو زهرة وخفت نجم حسن قليلًا، لكنه عاد بمعادلة واحدة: لن يشترط أجراً ولن يرفض عملاً وهو ما أدى في النهاية لتلك المسيرة الطويلة، وهو ما فعلته رجاء الجداوي ايضًا، مع اختلاف الموهبة التي تصب في صالح حسن حسني بالطبع.

أما آخر المعادلات فهي سلوك النجم نفسه، وعدم اختفاؤه أو تأثره بمشاكله الشخصية، فهذا يجعل المنتجين يقبلون عليه.

تلك المعادلات هي ما حكمت السينما بجانب الموهبة، والنماذج متعددة لمن رحلوا ومن بقوا ومن تم وصفهم بممثل قدير عن حق ومن خدمتهم الظروف ليس أكثر.

مقالات إعلانية