in

جبل الموت

تفتحت عيناه بتؤدة، كان كمن فقد وعيه لفترة ليست بالقصيرة، والآن أفاق، تأمل فيما حوله في وهن، فوجد كل ما حوله بياض، لا شيء سوى البياض، لا خط غامق أو بقعة بلون مميز، لا شيء سوى البياض، وكأنه جسم صغير سقط في صحن مملوء بالحليب، لا صوت… سكون تام.

البياض - صورة للفنان Matteo Pugliese
صورة للفنان Matteo Pugliese

هو لا يعي ما يجري، ماذا يكون هو؟ وما هذا الأبيض المطلق؟ مم يتكون؟ وما معنى التكون؟ لا يعلم أو يستوعب أي شيء، كان وعيه كوعي طفل ولد للتو، فلا وعي له. نهض على ركبتيه مستندا بيده على شيء لدن يشبه الزبد، يفترض أن يكون أرضا، انطبعت فيه آثار كفّيه لحظات ثم تلاشت، بدأ النهوض على قدميه وما لبث أن انتصب كيانه حتى فقد توازنه وكاد أن يسقط إلا أنه حاول أن يدرك توازنه مرة أخرى؛ ففعل، كان واضحا عليه أنه لم يقف على قدميه من قبل، ظل واقفا للحظات محاولا استيعاب أي شيء مما يجري له.

لم يكن لديه ذاكرة؛ أو بمعنى آخر كانت ذاكرته فارغة، خالية من أي شيء، حدق في يديه، لا يعرف ما تكون، كان يشعر بلدونة السطح من تحته وبرطوبة المكان.

ولكن كل هذه الظروف كانت تعني أن وعيه قابلاً لأن يتشكل، ولكن كيف يتشكل في كنف هذا البياض؟ فليس هناك ما ينطبع في وعيه ويشكله، ليس هناك أي شيء سوى الرطوبة والأبيض المطلق، هل من المفترض أن يتشكل وعيه بطريقة ما وسط هذا البياض؟ أم من المفترض أن يشكل هو من هذا البياض وعياً ومعنىً؟

انحنى على السطح اللدن من تحته ولمسه فوجده مادة ناعمة رقيقة وقد انطبعت عليها آثار أصابعه، فوضع كفه مرة أخرى ولكن هذه المرة بحدة أكثر ثم قبض على المادة بكفه فوجد كتلة من هذا البياض تتجاوب معه وتستجيب وتنتقل من السطح إلى كفه، رفع كفه وحدق في الكتلة البيضاء الذي يحملها للحظات ثم أطاح بها في الهواء، فتحولت كتلة البياض خلال ومضة لكائنات لها أجنحة تطير في الفضاء من حوله، فزع وارتعد، ولكنه استوعب، انحنى ثانية وقبض على كتلة أكبر ونثرها فصارت كائنات ملونة لها أجنحة تطير إلى أعلى، ففهم أنه يستطيع من هذا البياض صنع ما يشتهي وما يأتي بخلده، فهم أنه خالق.

كان يريد أن يعرف لماذا وجد في هذا المكان، لأي هدف ولأي معنى؟ لكنه على الأقل أدرك الآن شيئا من ضمن الأشياء المبهمة، وهو أن باستطاعته تشكيل ما يشاء وما يخطر بخلده من خلال هذا البياض الذي يبتلعه، انحنى واغترف بكلتا يديه حجما هائلا من السطح الأبيض ثم وضعه جانباً وأخذ يشكله ويتفنن في تشكيله، فصنع عواميد باسقة أسماها اشجاراً، وكون تلال من البياض أسماها جبالاً، وأخرج من فمه سائل شفاف غزير فاض به على هذا العالم اسماه ماءً.

صورة للفنان Martin Bruno
صورة للفنان Martin Bruno

بعد وقت طويل من التشكيل، بالكاد قد انتهى، نظر إلى ما صنعه نظرة أخيرة شاملة فوجد أنه قد صنع شيئاً عظيما وكبيرا، وجد أنه قد صنع عالما! ولكن راوده شعور بأن هذا العمل ينقصه شيئٌ، شيئ يبث فيه المعنى، فبدأ باقتطاع الأشجار التي صنعها وأخذ يصنع منها خشباً، وبدأ يصنع من الخشب عرائس، في البداية لم يكن يعرف ما هو الشكل الذي سيصنعها عليه، إلى أن نظر إلى نفسه وشكله وقرر أن تكون هذه العرائس شبيهة به، فصنعها تملك أقداما وأيادٍ ورؤوس وأجسام متكاملة إلا أنها كانت ساكنة لا تتحرك ولا يكفي أن توضع داخل العالم بهذه الحالة، فظل يفكر كيف يضفي عليها حس ووعي وحركة، كيف يبث فيها الروح. ظل يفكر إلى أن اهتدى لفكرة، أنه طالما هذه الدمى تملك هيئته فلا يجب إلا أن تملك روحه وأنفاسه، فنفخ في العرائس، فبثت فيها الحركة، وبدأت العرائس في التحرك، وبدأ العالم في الابتداء.

لم تختلف بداية العرائس كثيرا عن بداية صانعها، فعندما بثت فيها الروح كانت بلا وعي أو ذاكرة، وأخذت تسير في العالم الذي وجدت فيه فجأة تحاول اكتشافه واكتشاف ماهيته، عندما رآها صانعها في هذه الحالة أحس بسعادة بالغة فقد خلق عالما كبيرا ومعقدا، ولكنه تمهل لحظة في سروره وأحس بأن هناك شيئا بسيطا ينقص هذا العالم، شيئا يجعل من هذا العالم مأساة، مأساة تجعل وجوده حاجة دائمة لوجود عالمه، ظل يفكر إلى أن اهتدى إلى فكرة أن يضع في هذا العالم شيئا يعكر صفوه، ويجعل العرائس تحتاج إليه كلما أحسوا بالشقاء، فأخذ كتلة جديدة من البياض ونثرها فوق عالم العرائس فتحولت لكائنات صغيرة سوداء صلبة وأجسامها خشنة ومن صغر حجمها تكاد لا ترى.

ثم أخذ يواصل التفنن والإبداع في صنع عرائس جديدة، واستهوته فكرة أن تتعدد أشكالها وأن لا تكون جميعها متشابهة بل تكوّن أشكالاً مختلفةً ومتباينة، وبعدما انتهى من صنع جميع العرائس وكانت أعدادها كبيرة، صنع واحدا واجتهد في صناعته حتى يخرج في أبهى صوره ثم جعله ينظر إليه قبل أن يضعه في عالم العرائس، كلمه وقال له: ”أنت افضلهم، صنعتك لتكون ظلي في عالم العرائس.“ فقال له الدمية وهو بحالة من الذهول والخوف: ”من أنت؟“ أجابه: ”أنا أصفاه الذي صنعتكم وبفضلي أصبحتم تحيون في عالمكم“، فقال الدمية: ”ولكن لماذا… لماذا صنعتنا؟ ماذا تريد أن نفعل؟“ قال ”أريدكم ان تعبدوني أنا خالقكم“، ثم أنزل الدمية إلى العالم.

في عالم العرائس، وسط زحام وفوضى البداية، كانت العرائس تحاول فهم ما يدور وفهم ماهيتها وفي أثناء تفكيرها وانشغالها إذ بالدمية المميزة يخترق الجمع، كان البهاء والضي والحسن الذي يشع منه كافياً لجميع العرائس كي يدركوا أن هذه الدمية استثناءً. أصعد أصفاه الدمية فوق مرتفع كي يسهل عليه التحدث لأكبر عدد من الجمع حيث قال: ”اليوم، صنعنا أصفاه… ربي وربكم، الذي نحن جميعا وجدنا بفضله وسوف نعيش بنعمته علينا، وقد اصطفاني لادارة شؤونكم، هو قال لي ذلك وأعطاني الأمر بحكمكم وحكم هذا العالم، سوف نحيا جميعا بفضله ونعمته.“ فقال أحدهم بنغمة معارضة: ”لماذا انت دون سواك؟ ولماذا لم أكن انا؟“ قال: هذه مشيئته وعلينا أن نعبده ونسمع أوامره.

وابتدأت حياة العرائس..

اختار الدمية المصطفاه أفضل العرائس شكلاً واكثرهم ذكاءً كي يكونوا بجانبه في المرتبة العليا، أما الأقل جمالا وذكاء فجعلهم يعملون على خدمته ويتعبون، وبالرغم من أن أصفاه لم يشأ ذلك وإنما أراد المساواة إلا أنهم أخذوا في التمييز شيئا فشيئاً. بعد مرور وقت طويل كان الظلم يشتد أكثر فأكثر والحياة في عالم العرائس تتجه من سيء إلى أسوأ ومن قهر إلى قهر.

في يوم كان فيه أحد أفراد الصفوة يقف على أرض يعمل بها العامة كي يحصل منهم على إنتاجهم، وقف في وجهه احد العرائس صارخاً: ”كفى ياسيدي، أنتم تأخذون كل ما ننتج ولا يكفينا ما يتبقى كي نعيش به، لماذا لا تعملون أنتم أيضا وتتركون ما ننتجه لنا؟“ فغضب الدمية العليا وقال محتداً: ”هل جننت؟ كيف نعمل ونحن أرفع منكم شأناً، فأنا أجمل منك وأذكى منك، أصفاه اأطاني هذه الميزات هل لك أن تعترض عليه؟“

فاحتد الدمية الغاضبة أيضا: ”ولماذا لم يعطيني هذه الميزات أو اي منها؟“ فأجاب الدمية المصطفاه: ل”انكم شرذمة لا تستحقونها، نحن فقط من يستحق، هذه مشيئته ثم هو من أراد أن نكون الصفوة ونتولى شؤونكم، ونحن جميعا وجدنا برغبته ولا نسعى سوى رضاءه“.

ساد في تلك الفترة اختلال في الأحوال والمناطيق وعم الظلام على عالم العرائس، وانتشر الفساد واستشرى الظلم ولجأ الكثير من الدمى لاصفاه بالدعوات والقرابين، ولكن أصفاه ظل باقيا في سكونه لا يستجيب، لا يتدخل للاصلاح أو التصحيح أو تعديل المسار، بل كان مستمتعا بما يجري معتقدا أن ذلك يعطي للحياة شيئا من المعنى، وأنه إذا تدخل فسيفقد احتياج العرائس إليه، وبالتالي لا يتقبربون إليه، وكان يشعر بأن طول ما كانت العرائس في حاجة إليه ذا معنى وأنه ذو شأن كبير.

في نفس الفترة، ولكن في مكان آخر من العالم بعيد عن مكان العرائس، كانت تلك الكائنات الصغيرة السوداء التي خلقها أصفاه تتكاثر وتنمو حتى جاء يوم هجمت فيه على منطقة يعمل بها بعض العرائس، واذ بتلك الكائنات تهجم عليهم وتنخر أجسامها وتشوهها، أخذت تلك الكائنات تغزو منطقة تلو الأخرى وأخذت الدمى تتوسل لاصفاه في الأعالي أن ينجيها، ولكنه كان ينظر إليهم بسرور وهو يراهم يتوسلون ويتذللون وكان معظمها قد تشوه تماما ودمر بفعل تلك الكائنات الصغيرة.

في ذلك الحين كانت هناك مجموعة صغيرة من الدمى تحاول أن تتيقن من وجود اصفاه، يدعون ويتقربون ويفكرون ويبحثون في عالم العرائس عن دليل وجوده، وكان أصفاه يشاهدهم دون أن يساعدهم، وفي أثناء رحلة من رحلات بحثهم اعتلوا قمة جبل عال واذ باحدهم تنزلق قدمه ويسقط فينكسر ويتهشم، فنزل زملاؤه لتفقده فوجدوه متهشما كل قطعة منه ساكنة فادركوا بأن هناك شيئا ما يمكن أن ينهوا به وجودهم فأسموه: الموت، ولكن ذلك يتعارض مع رغبتهم في البقاء بحثا عن أصفاه.

في الوقت ذاته كان الكائنات الغازية تنتشر وتهلك الدمى، والدمى تحاول اللجوء لاصفاه كي يحميهم واصفاه يشاهدهم ولا يتدخل، وفي منطقة أخرى كان الصفوة من الدمى يقهرون العامة ويستنزفون جهودهم ومحصولهم، والمظلومين منهم يحاولون التوسل لاصفاه واللجوء اليه كي ينجدهم، إلا انه يشاهدهم ولا يتدخل ايضا، أكمل الباحثون عن أصفاه رحلاتهم ولم يتوصلوا لشيء، في كل طريق يسلكونه ينتهون إلى لا شيء، وفي كل تفكير يعودون لنقطة البداية وأصفاه يشاهدهم ولا يتدخل، إلى أن يئس أحدهم وقال: ”كفى! كفانا بحثا عن وهم، لا يوجد ما يسمى بأصفاه“، فقال زميله: ”إذا كيف جئنا؟“ أجاب يائساً: ”لا أعلم، ولا أريد أن أعلم، فلنعد إلى عالمنا وكفانا شتاتاً وتيهاً.“

وفي رحلة عودتهم إلى مجتمع العرائس، عبروا بالمنطقة الاولى فوجدوها مليئة بالوباء المتفشي وكافة العرائس منهكة ومريضة ومشوهة، ثم ذهبوا إلى المنطقة الثانية فوجدوا الظلم قد استشرى وعم العالم، وكافة العرائس تعيش في بؤس وشقاء، قال الدمية: ”ألم أقل لكم لا يوجد أصفاه؟ أين أصفاه من كل هذا الذي يحدث؟ أين هو ولم لا يتدخل لينتشلنا من الوباء والظلم الذي عم عالمنا بالكامل؟“، عندما عادوا كانوا قد وجدوا العالم لم يعد يصلح للعيش، فتذكر أحدهم زميلهم الذي وقع من فوق الجبل وقال: ”الموت هو الحل“، ثم صعد فوق صخرة عالية أمام الجميع في الساحة ورمى بنفسه فسقط وانكسر وما عاد يتحرك.

أخذ زملاؤه يفعلون مثله واحدا تلو الآخر، وقال أحدهم للجمع الحاضر في الساحة: ”هذا العالم لم يعد يصلح للعيش فلنمت حتى نستريح من الظلم والوباء“، فقال أحد الدمى من العامة ”ما معنى نمت؟!“ أجابه: ”تعالوا معي لاريكم“.

واصطحب هذا الكم الهائل من الدمى إلى الجبل الذي سقط من فوقه أول دمية عرفت الموت، وصعدوا الجبل وقال لهم وهو يتمهد للقفز على الحافة: ”هذا هو الموت“، ثم رمى بنفسه، فأخذت الدمى ترمي بنفسها وانتشرت الفكرة كالنار في الهشيم حتى ذهب كافة الدمى التي طالها الظلم والوباء والتي لطالما توسلت إلى أصفاه أن يساعدها ولم يفعل، ذهبوا جميعا إلى جبل الموت حتى أن الجبل لم يكن به مكان خال لدمية من شدة الزحام والكثافة، فراحت بعض الدمى ترتطم بالجدران والصخور إسراعا للموت، إسراعا للراحة.

عندما رأى أصفاه كل هذا يحدث فزع وحاول أن يصلح ما فسد في عالم العرائس محاولا إرجاع العرائس عن الموت فقضى على الوباء، ولكن الوقت قد فات، فالكل عرف طريق الراحة الحقيقية، فغضب أصفاه واستشاط الغضب بعقله وجن جنونه، إنه يرى كل العالم الذي صنعه ينهار، كل شيء ينهار، الدمى جميعها تنتهى، العالم الذي أحبه واجتهد في صناعته ما عاد له معنى الآن، إنه ينتهي شيئا فشيئا، مع كل دمية تلقي بنفسها لتموت من فوق الجبل ينتهي جزء من العالم، ما عاد يعرف كيف يتصرف فأخذ يندب ويضرب بيديه رأسه ويولول غاضباً هائجاً.

وبعد مرور وقت قصير كانت كافة الدمى التي صنعها قد تهشمت وأصبحت ركاما سوى دمى الصفوة التي اصطفاها، فنظر لهم أصفاه نظرة انتقام وغضب، لأنهم كانوا السبب في انهيار عالمه الذي أحبه، هم الذين نشروا الظلم والتمييز، هم الذي أفسدوا عليه عالمه المحبب، فداس عليهم بقدمه.. وسحقهم.

مقالات إعلانية