in

البوصلة التي لا شمال فيها

البوصلة التي لا شمال فيها

فتحتُ الباب الدائري الذي يتوسّط الغسّالة القابعة في زاوية المطبخ، لم أدري من أين حصلتُ على الشجاعة للدخول، منذ نعومة أظافري أخافُ الأماكن المظلمة والضيّقة.

دخلتُ وجُلت بنظري في الداخل، لطالما فقدتُ ثياباً في معارك الغسيل التي تخوضها أمي، وجدتُ ثيابي في الداخل، قد اختاروا أن يبقوا في الداخل بعد أن اعتنقوا ديناً جديداً، ديناً يُلزمهم الصمت، يبقون في الداخل يمارسون طقوسهم ويلعنون الشيطان المتمثّل في هيئة مسحوق الغسيل.

كلما تقدّمتُ أكثر كان المكان يزيدُ اتساعاً، في المنتصف تجلسُ أختي الصغيرة التي سلبها المرضُ منّا منذ مُدّة، وجدتُها كما كانت يوم قبّلتُ جبينها حين استلقت في التابوت وسافرت نحو باطن الأرض، وجدتُها تجلسُ كعادتها على الأرض، تلهو بما تيسّر من القطع النقدية التي كانت تسقُط من الملابس وتستقرُّ في القعر.

لم أمتلك الشجاعة لأقترب منها، فاكتفيتُ بابتسامة خجولة ودمعة أفسدت الكحلة حول عيني.

في داخل الغسّالة وجدتُ شهادتي الجامعية التي لم أنلها، وجدتُ حبيبتي التي هجرتني يوم زفافنا، فتركتني أصارعُ الحضور والقسّ وباقات الزنبق التي زيّنت القاعة. في الداخل وجدتُ مفتاح السيارة التي لم أقدر على امتلاكها، وجدتُ طبق الحساء المفضّل الذي اعتادت صديقتي أن تعدّه لي، يوم ضربني الأستاذ على وجهي لأنني أثرتُ الشغب في الصف حين كان يصف المرأة بأنها ناقصة، ضربني على وجهي فسقطت أضراسي على الأرض وضحك التلاميذ عليّ، كلّهم ضحكوا ذكوراً وإناثاً إلّا رفيقتي التي ساعدتني ولملمت أضراسي ووضعتهم في حقيبتها.

منذ ذلك اليوم تغيّرت حياتي، لم أعد أخشى شيئاً، كلّما صدمتني هذه الحياة هربتُ نحوها، علّقت على الجدار الصورة الشعاعية التي رُسم في وسطها ورميَ الحبيب، هناك كتبتُ وصيّتي المتواضعة، إفعلوا ما يحلو لكم، لكن اخفوا جسدي في الغسالة واغلقوا الباب جيداً.

مقالات إعلانية