in

لماذا ينمو الشعر على وجهنا على الرغم من أنه لا يملك أي فائدة بيولوجية؟

صورة: RTÉ

هناك نوعان فقط لشعر الوجه، وهما اللحية والشاربان، لكن هل فكرتم مسبقاً بفائدة شعر الوجه؟ قد يبدو السؤال غريباً، إذ لا نفكر عائدة بفائدة شعر الوجه، ناهيك عن فائدة الشعر بشكل عام (باستثناء شعر الرأس مثلاً)، بالطبع هناك أشخاص يحبذون شعر الوجه ويرونه شيئاً جمالياً ذا جاذبية خاصة (في الحقيقة، هناك مصطلح مخصص لعشاق شعر الوجه وهو pogonophile، بل أن هناك بطولات تُقام خصيصاً للتباهي بشعر الوجه، ولأن اللحية أصبحت موضة حالياً، تخيلوا أن رجلاً من بروكلين في الولايات المتحدة دفع 8500 دولار أمريكي ليجري عملية زراعة للحية!).

طرأ على اللحية والشاربين الكثير من التغيرات على مر السنوات، واليوم، لم يعد امتلاك لحية مجرد موضة عابرة، بل بيّن العقد الأخير أن اللحية والشاربان الكثيفان عادا من جديد. حتى عندما انتشر وباء كورونا الجديد، برزت أسئلة حول كيفية ارتداء الكمامة الواقية لدى الأشخاص الذين يملكون لحية كثيفة، فنشرت مؤسسة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها دليلاً يبيّن ما هي تسريحات اللحية والشاربين التي لا تتعارض مع ارتداء كمامة N95، وبيّنت المؤسسة 36 تسريحة لن تعيق صاحبها عن ارتداء القناع، منها 12 تسريحة للحية و14 تسريحة للشاربين، و9 تسريحات تجمع الاثنين معاً، وبالتأكيد هناك خيار لمحبي الوجه الحليق.

صورة: Carly Monardo

بعيداً عن المزاح، تبيّن لنا هذه الرسومات أن شعر الوجه لا يملك أي وظيفة حقيقية، وأنه مجرد شيء جمالي حسب كلّ ذوق، وهنا نطرح عليكم السؤال: لماذا ينمو الشعر على وجهنا؟ في الواقع، لا يدرك العلماء السبب، لكنهم خمنوا أن هذا أمرٌ تطوري، وذلك تفسير منطقي نوعاً ما.

تبيّن لنا أن شعر الوجه ليس من السمات البشرية الجسدية ذات الوظيفة، على الأقل ليس كما اعتقد العلماء سابقاً، ومن الوضح أنه يملك وظيفة تزينية فقط. ولنكن دقيقين أكثر، من بين جميع السمات الجسدية التي تظهر على جسم الإنسان (من بينها كافة أشكال الشعر كشعر الرأس أو الجسد)، يبدو أن شعر الوجه هو الوحيد الذي يملك وظيفية جمالية فقط لا أكثر. حتى تفهموا الفكرة، سنجري لكم مقارنة مع أنواع الشعر الأخرى التي تنمو على جسد الإنسان:

  • يساعد شعر الجسد على تنظيم حرارة الجسم.
  • يحمي شعر الرأس فروة الرأس من حرارة الشمس الحارقة، وفي الأيام الباردة، يحتجز الحرارة كي يبقى الرأس دافئاً.
  • إن رموشنا بمثابة نوافذ زجاجية بالنسبة لأعيننا، فهي تمنع الحشرات والغبار والجزئيات الصغيرة من دخول العين عندما تكون العينان مفتوحتان.
  • يمنع الحاجبان نزول العرق ودخوله إلى العينين.
  • يجمع شعر الإبط الفيرومونات ويبددها (الفيرومونات هي مواد كيميائية مؤلفة من جزيئات عضوية، لها رائحة خاصة، وتنتقل في الهواء، ما يسمح للحيوانات مثلاً بالتعرف على بعضها أثناء مواسم التزاوج). كما يقلل شعر الإبط الاحتكاك بين الذراع والبشرة على الجانب عندما نتحرك أو نلوح بذراعنا.
  • يسهم شعر العانة أيضاً في منع الاحتكاك أثناء الحركة، ويوفر طبقة واقية من البكتيريا والعوامل الممرضة الأخرى.

أما شعر الوجه؟ فلا يبدو أن له أي ميزة مفيدة. في السابق، عندما كان العلماء يدرسون أهمية شعر الوجه، اعتقد علماء البيولوجيا التطورية أن لشعر الوجه وظيفة كباقي شعر الجسد، أي تنظيم حرارة الجسم، بينما رأى بعضهم أن لشعر الوجه وظيفة واقية مثل شعر العانة مثلاً. قد يبدو هذا الكلام منطقياً للوهلة الأولى، فاللحية والشاربين يحيطان بالفم، وهو العضو الذي نستخدمه لتناول الطعام، وأيضاً إدخال كميات كبيرة من الجزيئات التي قد تحمل أمراضاً معينة (قد تُفاجئ بهذه المعلومة، لكن الفم من أقذر الأعضاء في جسمنا وأقلها نظافة، حيث يُقدر وجود 100 مليون ميكروب بكتيري في كلّ ميليلتر من اللعاب، لدرجة أن مقاعد المراحيض تحوي بكتيريا أكثر من تلك الموجودة في فمك).

لكن ما لم يأخذه هؤلاء العلماء بالحسبان أن نصف السكان لا يملكون شعراً على الوجه، وهؤلاء بالأخص هم الإناث! (بالإضافة لحليقي الذقن والوجه أيضاً)، ولو كان هذا الادعاء صحيحاً، أي أن شعر الوجه يقي من الأمراض، لكان الانتقاء الطبيعي قد صبّ في مصلحة الذكور أصحاب اللحى الكثيفة، وإن كانت هذه الميزة ضرورية جداً لبقائنا، أو أن هذا الشعر يملك وظيفة ما، لشاهدنا تلك اللحى والشوارب عند النساء أيضاً (صحيح أن الشعر ينمو أيضاً على أوجه الإناث، لكنه ليس كثيفاً على الإطلاق، ولا يُقارن بشعر الذكر).

إذاً ما فائدة شعر الوجه؟

عندما نقول أن الشعر سمة جمالية، يصبح السؤال عن فائدته أكثر تعقيداً. يقول البروفيسور (جوفري ميلر) من جامعة نيومكسيكو، وهو أحد علماء النفس التطوريين البارزين: ”هناك تفسيران لوجود شعر الوجه لدى الذكور، هما الانجذاب الجنسي (أي جذب الإناث) والمنافسة مع الأقران الذكور على جذب تلك الإناث“.

يبعث شعر الوجه هذا رسالة إلى الشريكات التي يريد الذكر استمالتهن، وتأتي هذه الإشارة لتحمل مضامين مختلفة، كالخصوبة أو النضج الجنسي. في المقابل، تحمل تلك الرسالة مضموناً مختلفاً لأقرانه الذكور المنافسين (كالقوة أو النضج والحكمة أو أخذ مظهر تقي، تختلف تلك الإشارات حسب اختلاف الثقافات). وإن جمعنا هاتين الرسالتين معاً، فالذكر يسوّق لنفسه بين الإناث والذكور معاً باعتباره رجلاً ذا شاربين عريضين ولحية كثيفة.

يبدو أن الرسالة التي يبثها شعر الوجه للذكور، أي خصوم الذكر صاحب اللحية، أقوى وأكثر تأثيراً من تلك التي يرسلها شعر الوجه للإناث، وهن الشريك الذي يرغب الذكر به. فبينما تحبّ بعض الإناث شعر الوجه الكثيف لدى الرجل، ترى إناث أخريات أن شعر الوجه غير ضروري، بل قد تعتبره البعض بشعاً أو كريهاً وغير جذاب. فمثلاً، لو كنت تعيش في مجتمع يملك أغلب الذكور فيه لحية كثيفة، ستبدو أكثر جذباً للإناث إن كنت حليق الذقن، والعكس صحيح أيضاً، ما قد يفسّر نوعاً ما انتشار موضة اللحية والشاربين الكثيفين في العقد الأخير مقارنة بالسابق، حيث كانت الموضة تقتضي أن يكون الرجل حليق الذقن مرتدياً سترته الرسمية وحذاءه اللماع، بينما لم تعد هذه الصورة هي الصورة النمطية السائدة عن الرجال الأنيقين حالياً.

من ناحية الوراثة التطورية، يُدعى هذا الأمر «الانتخاب السلبي المعتمد على التكرار»، بمعنى آخر، عندما تكون إحدى الصفات نادرة ضمن مجموعة من السكان، تميل لامتلاك امتياز على باقي الصفات الموجودة. لدى أسماك الجوبي، وهي من أشهر وأفضل أسماك الزينة، يستطيع الذكور الذين يملكون مزيجاً من البقع الملونة التزاوج مع الإناث بمعدل أكبر من باقي الذكور، كما يتجنبون الوقوع ضحية المفترسات الأخرى بنسبة أكبر. تلك ميزة تنافسية ضخمة، وهذا ما يعني أن تلك الأسماك تمتلك ميزة تسمح لها بالحفاظ على حياتها، لكن في الوقت ذاته، يتمثل الجانب السلبي بالزيادة المفرطة للأسماك الأخرى التي تملك نفس الميزة بما أن تلك الأسماك تحظى بفرص تزاوجٍ أعلى، ما يعني أنها ستفقد –لاحقاً ربما– تفردها الخاص –البقع الملونة– وتصبح هي الأسماك العادية السائدة.

سمك الجوبي.

لكن بما أن الطبيعة تعالج نفسها، فازدياد عدد أسماك الجوبي ذات البقع الملونة ليس بالمشكلة الكبيرة، فذلك سيؤدي إلى تناقص اهتمام الإناث بها وجذب اهتمام المفترسات الأخرى، أي أن تلك الأسماك الملونة ستصبح لاحقاً النمط السائد.

لا يفسر هذا التأرجح بين السمات الشائعة والأخرى غير الشائعة تنوع اهتمامات وتفضيل البشر لشعر الوجه من جيل إلى آخر فحسب، بل يشرح لنا كيف أصبحت النظرية السائدة عن تطور شعر الوجهة تدور حول التنافس الجنسي. في حالتنا هذه، لا يكفي أن تكون مختلفاً من ناحية الشكل حتى تجذب الإناث، بل عليك أن تكون أكثر فعالية مقارنة بالناس من حولك، ولكن بشكل يسمح لك بالتميز والتفرد عن الأقران. هذا ما يساعدنا على فهم موضة شعر الوجه وكيف تغيرت وتقلبت مع مرور الزمن. أي أن البشر لن يهتموا بامتلاكك لحية كثيفة إن لم تكن ضمن تلك الطائفة أو المجموعة المميزة من البشر التي تمتلك لحية كثيفة وتمتاز بها عن النمط السائد، لكن عندما يملك أغلب الذكور لحية كثيفة، سيكون حليقوا الذقن هم المميزون حينها.

على مر التاريخ، يبدو أن البشر ربطوا بين مظهر شعر الوجه وبين السياسة والحروب، فالرومان مثلاً اعتنقوا ثقافة حلق شعر الوجه لـ 400 سنة جراء عدائهم التاريخي مع الإغريق خلال الفترة الهلينيستية، حيث كان الإغريق يرون في اللحية رمزاً للمكانة الرفيعة والحكمة.

تمثال نصفي لـ (هادريان)، أول من جلب موضة اللحية إلى روما. صورة: Wikipedia

مثالٌ آخر هم الإنجليز الذين عاشوا لـ 270 سنة تحت تهديد غزوات الفايكنج، بل عاش بعض سكان الجزيرة البريطانية تحت حكم الفايكنج أيضًا، وفي تلك الفترة التي امتدت منذ عام 793 وحتى عام 1066 ميلادي، كان الإنجليز حليقي الوجه كنوعٍ من رد الفعل الثقافي على الغزاة الفايكنج الملتحين. وخلال فترة الإصلاح البروتستانتي، أطلق البروتستانتيون لحاهم كنوعٍ من الاعتراض على الكاثوليك، وخاصة الكهنة والقساوسة الذين كانوا حليقين أيضاً.

ما يثير الاهتمام أيضاً هو تأثير شعر اللحية والشاربين عموماً على القادة السياسيين والأشخاص رفيعي المستوى، وموضات شعر الوجه التي أصبحت رائجة في عصرهم. كما قلنا سابقاً، كان الرومان يحبذون مظهر الوجه الحليق، لكن الإمبراطور (هادريان) أعاد موضة اللحية إلى روما في القرن الثاني للميلاد، وتبع ذلك إطلاق لحية كامل الذكور من الطبقة الحاكمة، من بينهم عددٌ من خلفاء (هادريان) أيضاً.

في العصور الوسطى، كان الملك الإنجليزي (هنري الخامس) أول من يحلق ذقنه وشاربيه، ولأنه كان ملكاً عظيماً، قلّده المجتمع الإنجليزي و7 ملوك جاؤوا بعده، ولم يعد مظهر اللحية إلى انجلترا حتى مجيء (هري الثامن)، ذلك الملك الأناني الخليع والمتألق، فكانت اللحية إحدى السمات التي ميزته عن سابقيه، إلى جانب أمور أخرى بالطبع.

لم يكن ظهور اللحية واخفاؤها مرهوناً بالقادة والشخصيات الرفيعة من المجتمع التي أثرت على باقي الناس، فلو عدنا إلى ذلك المخطط الذي وضعته مراكز السيطرة على الأمراض عام 2017، لوجدنا أنها أطلقت على كلّ تسريحة اسماً معيناً، وهناك 9 تسريحات –أي ما يعادل 25% من التسريحات الموجودة في المحطط– سُميت تيمناً بشخصيات شهيرة، معظمها شخصيات لمعت في مجال الفن (سواء سلفادور دالي أوفرانك زابا أو فان دايك)، هناك عدد من التسريحات حملت أسماء عادية، لكن من الواضح أن بعض التسريحات مرتبطة بشخصية ما جعلتها شهيرة، وهكذا سُميت تيمناً بتلك الشخصية بدلاً من أن تحمل اسماً يدل عليها حرفياً (كتسريحة زورو مثلاً).

من الواضح أن تأثير الشخصيات رفيعة المستوى على الذوق العام واضح للغاية، لكن شعبية تسريحة شعر الوجه تتأثر بالمحيط والبيئة على نطاق أوسع. فمثلاً، كانت أزمة كورونا عاملاً ساعد في جذب الانتباه لقضية شعر الوجه واللحية الكثيفة، حتى ظهرت عدة مقالات (من بينها واحدة لصحيفة دايلي ميل البريطانية) حول ما إذا كانت اللحية الكثيفة تزيد من مخاطر التقاط العدوى أم لا.

لو عدنا بالتاريخ إلى عام 1916، لوجدنا أن اللحية وقعت أيضاً ضحية كره المجتمع بسبب انتشار الأمراض، ففي ذلك العام، ألقى أحد الأطباء باللوم على شعر الوجه لأنه يساهم في انتشار كافة الأمراض المعروفة للبشر (حسب زعمه طبعاً)، مؤكداً أنه لا يمكن حصر عدد البكتيريا والجراثيم التي تنشط وتعيش ضمن اللحى الكثيفة.

اللحى والإرهاب

أصبح مظهر لحية أسامة بن لادن مترافقاً مع الإرهاب، لدرجة أن الكثير من ذوي الملامح العربية واللحى الكثيفة تعرضوا لمضايقات في الولايات المتحدة. صورة: Getty Images

سواء كنت تعيش في العالم العربي أم الغربي، فغالباً ما كان يُنظر للحية الكثيفة بطريقة سيئة تحديداً بعد هجمات 11 سبتمبر، حتى بات مظهر العربي في الأفلام الغربية (خلال تلك الفترة) مرتبطاً بلحية كثيفة وشعر أسود، وأصبح هذا المظهر يتسبب بمواقف محرجة أو مسيئة للكثير من الناس، بل قادرٌ على إثارة الشكوك فوراً.

في المقابل، ارتبطت اللحية سابقاً لدى الغرب بحركات الهيبيز، حيث كان من الطبيعي أن يُطلق الذكور لحاهم الطويلة وغير المسرحة (لم يكن هذا المنظر محبوباً أيضاً في الولايات المتحدة، لكنه لم يجلب لأصحابه مشاكلاً قانونية مثل تلك ”اللحى الإرهابية“). وهذان دليلان على كيفية تصوّر البشر الخاطئ للمظاهر، والآلية اللاشعورية التي يحكم بها البشر على أقرانهم جراء المظهر فقط.

كان مظهر فرق الروك في سبعينيات القرن الماضي مثالاً على التمرد على قيم المجتمع والصورة النمطية للرجال، فإن شاهدت صور العازفين في تلك الفرق، للاحظت أن الكثيرين منهم يطلقون لحاهم وشعرهم. صورة: Chris Walter / Getty Images

لاحقا، عندما تبنى العالم الغربي من جديد ثقافة اللحى الطويلة، اختفى ربط تلك الميزة بالبشر السيئين والأشرار (الإرهابيين)، أو بالكسل وتدخين الحشيش مثلاً (كالهيبيز)، وتحديداً بعد عام 2015، بدأ انتشار اللحية لدى الذكور بشكل أوسع، لدرجة أن صحيفة الإكونوميست نشرت مقالة حول ما يُعرف بـ ”البوغونوفيليا“ أو الانجذاب للحى وعشقها. وفي عام 2019، وسّعت بطولة اللحى والشوارب الوطنية محتواها من اللحى المقبولة، فكان العدد سابقاً 18 فئة، ليرتفع العدد في ذاك العام ويبلغ 47 فئة، ما يعني زيادة اهتمام البشر عموماً باللحى.

في الحقيقة، قد تضرب كارثة صحية أو سياسية أخرى موجة اللحى الرائجة اليوم، وقد تدفع الكثير من الناس إلى حلق لحاهم لأسباب مختلفة. في النهاية، إن كنت تبحث عن جواب لسؤالنا حول فائدة اللحى، فالجواب هو أنها عديمة الفائدة، لكن انتشار اللحى واختفاءها في فترات مختلفة من التاريخ، ولأسباب مختلفة أيضاً، موضوع يستحق التأمل والدراسة.

مقالات إعلانية