عندما تعتقد أنك تدرك كل شيء عن عالمنا، فأنت مخطئ، ليس لأننا لم نكتشف كوكبنا بالشكل الكامل بعد، بل لأننا لا نعلم ما حدث على سطح كرتنا الأرضية منذ عشرات آلاف السنين. فعلى سبيل المثال، اكتشف فريق من علماء الآثار البريطانيين والكولومبيين اكتشافاً مذهلاً يغيّر مفاهيمنا السابقة.
عُثر على عشرات آلاف الرسومات المحفورة على جدران الكهف، والتي يُعتقد أن عمرها نحو 12 ألف و500 سنة، وذلك في سيرانيا لا ليندوسا الواقعة في غابات الأمازون المطيرة النائية، حيث رُصدت الرسومات على منحدر جبلي، وتمتد تلك الرسومات المحفورة على الجدران على طول مسافة قدرها 12 ألف و800 كيلومتر!
تشمل تلك الرسومات حيوانات عديدة، كالغزلان والتابير (التابير حيوان من ذوات الظلف الواحد ويملك خرطوماً طويلاً، وهو اليوم مهدد بالانقراض) والقاطور والخفافيش والقردة والسلاحف والثعابين والنيّص، وكذلك حيوانات عملاقة من العصر الجليدي. من بين تلك الرسومات، نستطيع أن نلاحظ حيوانات منقرضة، كالماستودون (صنّاجة بالعربية) وجمليات (إبليّات) منقرضة التي تنتمي لرتيبة ساديات الأقدام، وذوات الحوافر التي تمتلك خراطيم، وكسلان الأرض المنقرض (الذي يماثل حجمه حجم الفيل ويختلف عن الكسلان الذي نعرفه اليوم). تلك الحيوانات عاشت في الأمازون، موطنها الأصلي، لكنها انقرضت اليوم.
يقول البروفيسور (مارك روبنسون)، من جامعة إكستر، وهو أحد المشاركين في فريق البحث: ”تلك صور مذهلة حقاً، رسمتها شعوب سابقة عاشت في القسم الغربي من حوض الأمازون. إنه لأمر لا يصدق، كيف عاش هؤلاء البشر إلى جانب تالك العاشبات الضخمة والعملاقة التي يصل حجم بعضها إلى حجم سيارة صغيرة، وربما اصطادوها أيضاً“.
تمتد هذه الرسومات المنقوشة على الصخور لتغطي مسافة تزيد عن 12 ألف كيلومتر
أُطلق على هذا المكان اسم «كنيسة السيستين الخاصة بالقدماء»، ومع أنه اكتشف قبل سنة تقريباً، لكن موقعة ظل سرياً، ثم جاءت القناة الرابعة البريطانية لتصور برنامجاً بعنوان ”لغز الأدغال: ممالك الأمازون الضائعة“ والذي بدأ عرضه في شهر ديسمبر عام 2020. قالت مقدمة البرنامج، وهي المستكشفة البريطانية وعالمة المستحاثات (آلاء الشماحي): ”إن هذا الموقع جديد لدرجة أنهم لم يطلقوا عليه اسماً بعد“.
اكتُشف الموقع على يد فريق من الباحثين البريطانيين والكولومبيين. علّق (خوسيه إريارتي)، وهو بروفيسور علم الآثار في جامعة إكستر والخبير في التاريخ الأمازوني والعصر ما قبل الكولومبي (العصر ما قبل الكولومبي يشمل تاريخ القارتين الأمريكيتيين قبل الاستيطان الأوروبي): “عندما تكون هناك، ستشعر بفيضٍ من المشاعر… فنحن نتحدث عن عشرات آلاف الرسومات، وسيستغرق تسجيلها وتدوينها جميعها أجيالاً من البشر، سترى رسومات على الجدران كيفما التفت”.
حيوانات موجودة وأخرى منقرضة
تبيّن أن جميع الرسومات تقريباً كانت محفوظة بشكل ممتاز، ولا تزال تفاصيلها واضحة المعالم. يقول (إريارتي): ”إن هذه الصور تبدو طبيعية جداً، ومن الواضح أن الناس حينها أولوا اهتماماً بالتفاصيل. فإذا كنت تنظر إلى حيوانٍ ما، فليكن حصاناً مثلاً، ولم تره مشابهاً للأحصنة في زمننا، فالسبب هو أن الحصان في العصر الجليدي كان أعرض، ووجهه أضخم. كل تلك التفاصيل موضحة هنا، بإمكانكم حتى رؤية شعر الحصان“.
قال (إريارتي) أيضاً أن هذه الفنون القديمة بمثابة دليل حيّ على الطريقة التي استغلّ بها الإنسان الأرض، وتعد توثيقاً لحياة أولئك البشر والحيوانات التي اصطادوها، وكذلك الزراعة وصيد الأسماك. يقول البروفيسور: ”على الأرجح أن الفنّ شكل جزءاً كبيراً من ثقافة تلك الشعوب، وكان السبيل للتواصل الاجتماعي بين البشر. تظهر تلك الصور كيف عاش البشر بجانب الحيوانات العملاقة والمنقرضة، وكيف اصطادوا بعضها أيضاً“.
وثائقي على القناة الرابعة
تُعتبر هذه الفنون الصخرية أضخم مجموعة في العالم، ويبدو أن تلك الرسومات تعود لأوائل الشعوب التي استوطنت أو وصلت إلى الأمازون.
في وثائقي القناة الرابعة، اضطر فريق الباحثين والمصورين إلى قيادة سياراتهم من سان خوسيه ديل غوافييري، ثم اضطروا إلى المشي سيراً على الأقدام لـ 4 ساعات. تقول (الشماحي) أن الطريق كان خطيراً جداً: ”تماسيح الكيامن (التماسيح الأمريكية الاستوائية) تملأ المكان، وكذلك الأفاعي، فكان علينا الانتباه واليقظة“، حيث توجد في الأمازون أخطر أفاعي العالم.
في السابق، عانت كولومبيا من حرب أهلية مدمرة بين غاريلا فارك (أو قوات كولومبيا المسلحة الثورية) والحكومة الكولومبية، وبعد مرور 50 سنة، لا تزال البلاد مضطربة. المثير للاهتمام أن تلك المنطقة المُكتشفة، حيث رسومات البشر السابقين، لم يكن من المسموح دخولها، وحتى اليوم، على من يريد دخولها بسلام إجراء مفاوضات مع فارك.
تقول (الشماحي): ”عندما دخلنا أراضي فارك، لاحظنا ما كان البعض يحذرنا منه. إن اكتشافاتنا لم تنته بعد، ومن الواضح أن الاكتشافات الكبيرة ستحدث في الاماكن التي تتصف بالعنف أو تدور فيها النزاعات“.
لا تجسد جميع الصور حيوانات منقرضة، بل بعضها كان أشكالاً هندسية أو حتى صوراً لبشر. ما أثار انتباه (الشماحي) هو الارتفاع المذهل الذي رُسمت عليه تلك الصور، حيث تقول: ”طولي 178 سم، لكن إن أردت النظر إلى الأعلى كي أرى بعض الرسومات، فقد أكسر رقبتي. لا أعرف كيف استطاع أولئك البشر الوصول إلى تلك الجدران المرتفعة“. وبالفعل، هناك رسومات مرتفعة جداً لم يتمكن المصورون من التقاط صورٍ لها إلا عن طريق الدرون.
يقول (إريارتي) أن بعض الصور قد تفسر ذلك، حيث لاحظ رسومات لأبراج خشبية، وصوراً لأشخاص يبدو أنهم يقفزون بين تلك الأبراج. يقول (إريارتي): ”تملك بعض الصور لوناً طينياً محمراً، وعثرنا على قطع من صبغة المغرة التي تستخرج من أكسيد الحديد، ويبدو أن البشر قشروها كي يرسموا تلك الرسومات“.
هل تشير تلك الرسومات إلى ديانة معينة اتبعها هؤلاء البشر؟
يقول (إريارتي) بخصوص هذا الموضوع: ”من المثير للاهتمام وجود الكثير من رسومات الحيوانات الضخمة محاطة برسومات لرجال أصغر حجماً، وإن دققتم النظر، ستلاحظون أنهم يرفعون أيديهم، وكأنهم يعبدون تلك الحيوانات“.
لاحظ البروفيسور أيضاً وجود صور أشجار ونباتات تسبب الهلوسة في تلك الرسومات، وقال: ”كان شعب الأمازون يعتبر أن جميع الكائنات غير البشرية تملك أرواحاً، وكانوا يتواصلون مع أقرانهم البشر، سواء في السلم أو الحرب، عن طريق طقوس وممارسات شامانية صوروها في هذه الرسومات التي نراها“.
أضافت (الشماحي): ”من الأشياء المثيرة للاهتمام التي رأيتها هو حيوان ضخم من العصر الجليدي، وذلك لأن وجود تلك الحيوانات في الرسومات يساعدنا في تأريخ هذه الحضارة. لا أعتقد أن الناس يدركون كيف تحوّل الأمازون، وأن الأمازون اليوم مختلف عما كان عليه سابقاً، بمعنى آخر، لم يكن الأمازون مجرد غابات مطيرة. إذا نظرتم إلى رسومات الأحصنة أو الماستودون، فمن المؤكد أن تلك الحيوانات لم تكن لتعيش في بيئة مليئة بالغابات، فهذا ليس موطنها. وبما أن تلك الحيوانات كانت ضخمة، فمن الواضح أن هذه المنطقة لم تكن مشابهة لما هي عليه اليوم، بل ربما أقرب إلى السافانا“.
يعتقد (إريارتي) أن هناك الكثير من الرسوم الأخرى التي قد يكتشفها لاحقاً، حيث يؤكد أن الفريق سيعود مجدداً حالما تسمح الظروف، خصوصاً الظروف الصحية التي فرضها وباء كوفيد–19.