يعمل العلماء الذين يختصون في دراسة الماضي غالبا على جمع بعض الدلائل النادرة واليائسة وربطها مع بعضها البعض في محاولة لفهم ماضي كوكبنا وتاريخنا، من بين هذه الدلائل هنالك حفريات وأدوات أثرية وبعض الأدلة الأخرى التي تكون في معظم الأحيان شحيحة.
لذا لك أن تتخيل عزيزي القارئ كم سيكون مفيدا وجود حيوان ما يجمع هذه الأدلة مع بعضها البعض من محيطه ويحفظها بعيدا في مكان مناسب وظريف.
نقدم لك في مقالنا هذا على موقعنا «دخلك بتعرف» هذا الحيوان الفريد الذي يدعى وبري الصخور الإفريقي: إنه حيوان صغير يحبه العلماء كثيرا لأنه يعمل على حفظ دلائل من الماضي في أكوام البراز التي يخلفها وراءه.
تعيش هذه الوبريات المزغبة الصغيرة داخل وحول الشقوق والصدوع الصخرية، وعلى الرغم من أنها قد تبدو من القوارض فإن الأبحاث اكتشفت أن أقرب الحيوانات إليها هي الفيلة.

تعيش وبريات الصخور في مستعمرات كبيرة الأعداد، وفي هذه المجتمعات تطورت لديها هذه العادة الفريدة المتمثلة في استخدام ما يدعى ”الحفر المرحاضية الجماعية“، وهي ما تبدو عليه بالضبط، ذلك أنها عبارة عن مكان مخصص حيث يذهب جميع أفراد مستعمرة الوبريات لقضاء حاجته.
تتمركز هذه المراحيض الصخرية غالبا في مناطق مخفية، مما يجعلها تدوم لفترات طويلة من الزمن. في بعض الحالات، يتم استخدام نفس الحفرة المرحاضية من طرف مستعمرة الوبريات لمئات الأجيال، مما ينتج عنه ما يشبه مرتفعا من الفضلات الذي يستخدم لقرون.
تكون نهاية هذه الحفر المرحاضية هي ما يسمى بـ”الميدن“، أو أكوام الفضلات.

إن الميدن هو عبارة عن تراكم لكريات الفضلات الصلبة ومادة تدعى (هيراسيوم) متعدد الطبقات، أو هو ببساطة البقايا المجففة لفضلات وبريات الصخور الإفريقية.
تحاول وبريات إفريقيا المحافظة على نظافة مستعمراتها قدر الإمكان، لذا هي لا تقضي حاجتها إلا في هذه المناطق المخصصة لهذا الغرض بالتحديد، وهي في خضم ذلك تجمع نباتات وبقايا حيوانية من بيئتها المحيطة عن غير قصد، وتحفظها في كبسولة الزمن خاصتها هذه، وهو بالضبط ما يجعل أكوام الفضلات هذه بمثابة مناجم ذهب بالنسبة للباحثين.
عادة عندما نرغب في دراسة الطريقة التي تغير بها نظام بيئي ما عبر الزمن، نحن ندرس الدلائل البيولوجية والكيميائية المحفوظة في الأحافير، ونوى الجليد، أو التشكلات الصخرية داخل الكهوف. لكن في بعض الأماكن الصخرية والجافة في إفريقيا، يكون هذا النوع من الأدلة البحثية نادرا للغاية.
وما هو شائع ومتوفر بكثرة من جهة أخرى في إفريقيا، هي وبريات الصخور وفضلاتها المميزة، وهو ما يجعلها بمثابة حافظات زمن صغيرة وكنزا قيما بين يدي الباحثين.
كما أن أكوام فضلات وبريات الصخور لا تقوم فقط بحفظ البيانات البيئية من الزمن الذي تشكلت فيه، حيث أنها تحتفظ بطبقات كرونولوجية من التاريخ، ففي كل مرة يقوم فيها فرد مستعمرة الوبريات بالتبول على الميدن، ينساب ذلك البول على كامل طبقات الفضلات الصلبة، وهو عندما يجف يتيبس ويتحول إلى قشرة من مادة الهيراسيوم الصلب.
في بعض المناطق، تكون أكوام فضلات الوبريات بسمك متر واحد وبطول عدة أمتار، وهي تحت الظروف المناسبة تصبح متحجرة وتدوم لفترة أطول من الزمن.
يمكن لأكوام الفضلات هذه احتواء أكثر من ألف سنة من التاريخ البيئي، حيث أن أقدم ميدن معروف يعود تاريخه لأكثر من 50 ألف عام.

عادة ما تحتوي أكوام فضلات الوبريات (الميدن) الكثير من المواد النباتية، ذلك أن النباتات هي مصدر غذاء هذه الحيوانات الصغيرة، وبإمكان هذه النباتات أن تخبرنا بالكثير عن التاريخ، خاصة فيما يتعلق بالمناخ والظروف التي كانت سائدة زمن كانت فيه هذه النباتات حية.
مثلما حدث في دراسة تم إجراؤها سنة 2010، والتي تناولت بالفحص اثنين من أكوام فضلات الوبريات الصخرية، فلاحظت زيادة في البناتات المورقة في حمية هذه الحيوانات الصغيرة في واحد منها مقارنة بكثرة الأعشاب في الآخر، وكان كلاهما يعود تاريخه إلى 10 آلاف سنة في الماضي.
يقترح ما تم اكتشافه في هذه الدراسة بأنه في تلك الأزمنة كان المناخ يعاني من جفاف حاد ما جعل العثور على عشب رطب لتناوله صعبا على الوبريات.
حبوب الطلع:
تشتهر حبوب الطلع بكونها ذات ديمومة طويلة، ومن المثير أنه بالإمكان حفظها أيضًا في طبقات أكوام فضلات الوبريات، سواء عندما تنقلها التيارات الهوائية أو عندما تعلق في وبر هذه الحيوانات الصغيرة.
جمع باحثون في دراسة أجروها سنة 2011 بيانات من أكوام فضلات وبريات إفريقية من جنوب إفريقيا، التي يعود تاريخها إلى حوالي 20 ألف سنة في الماضي. في هذه المرة، كان الباحثون يدرسون حبوب الطلع القديمة، والتي كشفت تغيرات حدثت عبر الزمن على نباتات الفينبوس التي تستوطن الأراضي البور، فأظهرت سجلات الطلع أن التغيرات التي حدثت على مستوى المناخ في الماضي أثرت على نباتات الفينبوس في الأراضي المنخفضة أكثر من الأنواع الأخرى منها التي تستوطن الجبال والمرتفعات، وهي بيانات قيمة جدا لأنها قد تساعد العلماء على حماية هذه النباتات التي تعتبر من المهددة بالإنقراض في المستقبل.

لم يكشف البحث في أكوام فضلات الوبريات عن وجود بقايا نباتية فقط، بل كشف أيضًا عن وجود حمض نووي قديم من حيوانات تشاركت هي والوبريات نفس البيئة والمحيط، بالإضافة إلى بقايا مجهرية عن الفحم الذي يدل على نشوب حرائق في بيئتها في الماضي عبر التاريخ.
يمكن جمع كل هذه البيانات السابقة مع معلومات أخرى في حيازة العلماء من أجل إعادة تكوين تاريخ إفريقيا، وحتى تاريخ جنسنا البشري.
قارنت دراسة أجريت سنة 2018 معلومات حول المناخ من أكوام فضلات وبريات إفريقية بسجلات أثرية للنشاطات البشرية في جنوب إفريقيا على مدى السنوات 20.000 الأخيرة، وقد أظهرت البيانات التي تم استخلاصها أنه مع زيادة جفاف المناخ في المنطقة مباشرة بعد العصر الجليدي، وبعد أن أصبحت الفرائس كبيرة الحجم نادرة، غيّر البشر المحليون استراتيجيات البقاء خاصتهم.
في الكثير من النواحي، أصبحوا أقل اختياراً عندما يتعلق الأمر بالموارد، وصاروا يستهدفون حيوانات أقل حجما بكثير مما اعتادوا عليه، مثل السلاحف، كما صاروا يصنعون أدواتهم من مواد ذات نوعية أقل، من صخور ذات أنواع أكثر شيوعا وانتشاراً.
تعكس هذه التغيرات التكيف المذهل الذي اتسم به نوعنا البشري استجابة للتغيرات المناخية وتغير الظروف المحيطة، ولولا فضلات الوبريات الإفريقية التي عاشت إلى جانب أسلافنا لما وصلتنا هذه المعلومات اليوم.
تعتبر إفريقيا قارة ذات أهمية كبيرة خاصة فيما يتعلق بتاريخنا وتاريخ أسلافنا من البشر وكذا تاريخ الكثير من الأنواع الأخرى، وبينما توجد هنالك الكثير من الثدييات الأخرى في قارات العالم التي تقوم بجمع فضلاتها على طريقة أكوام الوبريات، فإن هذه الأخيرة فقط هي ما يمنحنا نظرة فريدة من نوعها لتاريخ القارة السمراء.