in

لماذا يدافع الضعفاء عن جلاديهم أحيانًا

حين أراد بعض العلماء تجربة لماذا قد يخشى الفرد شيئًا دون أن يُجربه من قبل، وكيف يتم ترسيخ الخوف داخل الأنفس، جلبوا خمسة قرود ووضعوهم في قفص في أعلاه موزة، وحين صعد أول قرد ليأخذ تلك الموزة أغرقوه بالماء، وتكررت المحاولة حتى كف الخمسة قرود عن محاولة أكل الموز.

لكن التجربة لم تقف عند هذا الحد، فبعض أن ترسخ الخوف لدى القرود الخمسة تم استبدال قرد قديم بآخر جديد، وكان أول ما فعله الجديد محاولة الحصول على الموزة، وهذه المرة لم يغرقه أحد بالماء لأن القرود الأربعة القدامى هم من منعوه من محاولة الوصول إليها، وهكذا دواليك حيث تم استبدال كل القرود القديمة بأخرى جديدة، فلم يحاول أي قرد الحصول على الموز رغم إنه ليس هناك أي ماء يغرقون فيه.

لا أعرف لماذا تذكرت هذه التجربة التي قرأتها في كتاب «الغباء السياسي» حين تابعت ما حدث بين مقدم شرطة مصري ومستشارة بالنيابة الإدارية نشبت بينهما مشاجرة، ثم قامت الأخيرة بسب هذا الضابط علانية.

الحادثة لم تظهر بتلك الصورة إلا بعد ساعات من تصدرها لمواقع التواصل الاجتماعي، فما ظهر في البداية سيدة تسب رجل شرطة بسب رغبة الأخير بتطبيق القانون وجعل السيدة ترتدي كمامة كما هي القواعد في ظل جائحة كورونا، لكنها رفضت وتمسك ضابط الشرطة بتصوير كل ما يحدث وحاول الرد بأدب – غير معتاد من ضباط البوليس – لا أكثر.

مقطع الفيديو الذي انتشر دون تفاصيل كثيرة لقى رواجًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين أجمعوا على ضرورة محاسبة تلك السيدة التي تعدت كل الحدود وخالفت القوانين وتصرفت بطرق غير لائقة مع رجل من وظيفته أن يحمي الأمان، فيما شطح آخرون بأن تلك السيدة لن ترى الشمس مرة أخرى فاللعب مع ضابط شرطة في مصر أمر ليس هين، ولذلك جاءت صدمت هؤلاء قوية بعد أن تبين هوية السيدة بأنها رئيس نيابة إدارية، وخرجت بكفالة 2000 جنيه رفضت دفعها فتولت هيئة النيابة الإدارية الدفع.

لماذا تذكرت القرود؟ ببساطة لأني لم أشعر أن هجوم الكثيرين على السيدة نابع من كونها ”غلطت“ وخالفت القانون، ربما كنت أصدق ذلك لو الحادثة مع أي فرد غير ضابط الشرطة، ولا أحد ينكر أن هناك كراهية عامة بين الشعوب وضباط الشرطة في كل دول العالم، هذا لا يتعلق بمدى ديمقراطية البلد أو ديكتاتوريتها ولكن ببساطة لأنه لا أحد يحب وظيفة رجل مهمته القبض عليك.

وفي أوطاننا العربية فالأمور اسوأ، بل أن تاريخ ثورة يناير في مصر كان يوم 25 يناير أي عيد الشرطة التي ثار الثوار ضدهم في الأساس، والكراهية بينهم ممتدة، لذلك حين يكون هذا التعاطف ”غير المنطقي“ مع ضابط شرطة يُصبح السؤال لماذا؟

كم مرة وردت أمامك مقولة ”لو امطرت السماء حرية لرفع العبيد شمسية“، وكم مرة شتمت هؤلاء العبيد دون أن تسأل لنفسك لماذا يخشون تلك الحرية، هذا هو السؤال والمشكلة والإجابة، هؤلاء الضعفاء لماذا يدافعون عن جلاديهم بكل تلك الشراسة، كان يمكن اعتبار الاعتداء على ضابط شرطة ”حادثة فردية“ كما تحب وزارة الداخلية تسمية الأمر حين يعتدي ضابط شرطة على مواطن، وكان يمكن للناس أن تكون مطالبتهم معقولة.

ما يدفع ”العبيد“ لرفض الحرية أنهم لا يصدقون أن غيرهم أحرار، وما يدفع الضعفاء لأن يدافعوا عن جلاديهم هو أنهم لا يريدون رؤية أي قوي قادر على حماية نفسه بل وارتكب خطأ في حق الجلاد لأن ذلك يشعر الضعفاء بضعفهم أكثر.

ببساطة أن الذين هاجموا تلك السيدة التي اعتدت على ضابط شرطة كانوا يهاجمون ايضًا قوتها وجرأتها التي كشفت مدى ضعف الخائفين، وهي حالة نفسية تنتاب الضعفاء الذين بمجرد ترسيخ شعور الخوف لديهم يظنون أن العالم كله مثلهم، وبالتالي يجعلهم هذا أكثر قدرة على تقبل حقيقتهم، لكن تلك الحقيقة تبدأ في التزعزع حين يكتشفون أن هناك أناسا غيرهم أقوياء قادرون على الوقوف أمام ما يخشاه الضعفاء، بل ويعتدون على من لا يستطيع الضعفاء الاقترب منه، وقتها يشعرون كم هم جبناء.

هنا تحدث المأساة ويندفع الضعفاء للدفاع عن أنفسهم ونفي تهمة ”الجبن“ من خلال هجومهم على كل من يقترب من ”جلاديهم“، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل يبحث الضعفاء عن مبرر يريحهم كما حدث مع تلك السيدة، فكثيرون لم يصدقوا أن هناك امرأة تقول لضابط شرطة لا، بل وتتجرأ عليه بالاعتداء، لذلك كان أول الاسئلة: ”هي الست دي شغالة إيه؟“ في يقين كامل لدى المصريين أن من يجرؤ على ذلك ليس إلا صاحب منصب أو نفوذ، وباعتبار الضعفاء ليسوا أصحاب نفوذ فهذا يبرر لهم نفسيًا عدم قدرتهم على قول كلمة ”لا“.

وحتى لا يظن أحد أن هذا مجرد كلام في الفراغ فإن الرجوع إلى ديناميكية أي ثورة في العالم يمكنه تبين ذلك بوضوح، فالثورة لا تبدأ سوى بمجموعة قليلة جدًا هي من تأخذ زمام المبادرة، وفي مقابل ذلك يخشى الكثيرون تلك المواجهة بل ويهاجمون من يثور كما حدث في مصر 2011، حين اعتبر كثيرون أن تظاهر الشباب ضد الرئيس السابق حسني مبارك دربًا من الجنون، لكن الحقيقة أنهم كانوا يبررون لأنفسهم عدم قدرتهم على الوقوف ضد الديكتاتور.

لكن شيئًا فشيئًا يتأكد هؤلاء الضعفاء أن إمكانية الوقوف أمام أي ديكتاتور أو جلاد أمر غير مستحيل، وبالتالي يندفعون شيئًا فشيئًا حتى تلتحم ملايين الجماهير ويسقط الطاغية.

وقد جربت ذلك بنفسي حين انطلقت في أول مظاهرة لي في حياتي في 26 يناير 2011، وقتها لم أستطع تخيل أن هناك شخص يستطيع الوقوف أمام مبارك، لكني حين رأيت الناس ينضمون وانضممت إليها، وعرفت أن خوفي ليس أكثر من خوف القرد رغم إنه لا يوجد أي ماء.

مقالات إعلانية