in

قصة اللاجئين الأوروبيين الذين هربوا من أوروبا إلى سوريا في ذروة الحرب العالمية الثانية، وصور نادرة عن مخيماتهم

فرّ عشرات الآلاف من اللاجئين من أهوال آلة الحرب التي كانت تأتي على الأخضر واليابس في بلدانهم. مضوا في رحلة عبر شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي رحلة محفوفة بالمخاطر، غير أن الملاجئ الموعودة التي تنتظرهم على الجانب الآخر من البحر كانت تستحق المغامرة.

لا عزيزي القارئ، لا يتعلق الأمر هنا بالمهالك التي اضطر اللاجئون السوريون معايشتها؛ يائسين من أمرهم في سبيل النجاة من الحرب التي مزقت بلدهم الأم والعثور على حياة أفضل وأكثر أمنا في أوروبا، بل يتعلق الأمر الأمر هنا بقضية مثيرة للفضول، وغالباً منسية في كتب التاريخ، التي تدور حول عشرات الآلاف من المواطنين الذين كانوا يقطنون شرق أوروبا والبلقان، والذين تم إيواؤهم في سلسلة من المخيمات عبر الشرق الأوسط، بما فيها سوريا وفلسطين، وذلك إبان الجرب العالمية الثانية.

يقف الجنرال الأمريكي (ألين غولين) و(فريد كيه هوهلر) مدير شعبة النازحين في الأمم المتحدة، أمام خريطة للتنبؤ بحركة اللاجئين الأوروبيين في الحرب العالمية الثانية.
يقف الجنرال الأمريكي (ألين غولين) و(فريد كيه هوهلر) مدير شعبة النازحين في الأمم المتحدة، أمام خريطة للتنبؤ بحركة اللاجئين الأوروبيين في الحرب العالمية الثانية.

بينما تحركت آلتا الحرب النازية والسوفييتية عبر أقسام من أوروبا الشرقية والبلقان، اضطرت مجموعات سكانية كبيرة للرحيل قسراً من أوطانها بحثا عن أماكن أكثرا أماناً. في المناطق التي سيطر عليها الفاشيون الإيطاليون، وجدت المجتمعات اليهودية وبعض الأقليات الأخرى غير المرغوب فيها مصيرا قاسياً، كما واجه مواطنون آخرون من غير الأقليات السابق ذكرها نفس المصير تقريبا، عندما كانت قوات الفاشيين تعلم بأمر تقديمهم يد المساعدة للمضطهدين، مما وضعهم هدفا لهجمات عنيفة أجبرتهم هم الآخرون على الفرار والنزوح.

في خضم كل تلك التقلبات وحالة عدم الاستقرار، كان أوضح طريق للفرار من كل تلك الأوضاع بالنسبة لبعض اللاجئين الأوروبيين هو نحو الجنوب والشرق. كان العديد من الكرواتيين المقيمين في على طول الساحل الدلماسي قد فروا إلى جزيرة (فيس) في البحر الأدرياتيكي، كما شدّ المواطنون اليونانيون الذين كانوا يعيشون في سلسلة جزر (دوديكانيز) الرحالَ في بحر (إيجه) نحو جزيرة قبرص الواقعة آنذاك تحت الحماية البريطانية.

تم إطلاق حملة قادتها بريطانيا تحت مسمى «إدارة الإغاثة واللاجئين في الشرق الأوسط»، أو اختصارا MERRA، في سنة 1942 ساعد على تنفيذها مسؤولون في القاهرة، والتي ساعدت على توفير مأوى وملجأ آمن لحوالي 40 ألف مواطن بولندي ويوناني ويوغسلافي، وبحلول سنة 1944؛ كانت هذه الحملة تندرج تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة التي راحت ترعاها رسميا. تم توزيع اللاجئين بين مخيمات متركزة في مصر، وجنوب فلسطين وسوريا، أجل سوريا، فقد كانت مدينة حلب آنذاك مركزا حضاريا عريقا مزدهراً، وقد كانت مسبقاً قطبا يجذب المهاجرين من كل بقاع العالم، إلى جانب المنفيين والجواسيس في أربعينات القرن الماضي.

صورة التُقطت سنة 1945 من مخيم الشط في مصر تظهر بعض النسوة يغسلن ثيابهن في الخارج. صورة: United Nations Archives
صورة التُقطت سنة 1945 من مخيم الشط في مصر تظهر بعض النسوة يغسلن ثيابهن في الخارج. صورة: United Nations Archives

قامت «إدارة الإغاثة واللاجئين في الشرق الأوسط» بتأهيل معسكرات في سوريا ومصر وفلسطين، حيث لجأ عشرات الآلاف من الناس من جميع أنحاء القارة الأوروبية، وقد كانت هذه الإدارة جزءًا من شبكة متنامية لمخيمات اللاجئين في جميع أنحاء العالم، تلك التي تمت إدارتها بجهد تعاوني من جانب حكومات وطنية ومسؤولين عسكريين، بالإضافة إلى منظمات المعونة المحلية والدولية.

يقدم الأرشيف المحفوظ معلومات محدودة عن التركيبة السكانية لمخيمات اللاجئين في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية، غير أن المعلومات المتاحة توضح بأن مسؤولي المخيمات كانوا يتوقعون إمكانية إيواء المزيد من اللاجئين مع مرور الوقت، وتأتي المعلومات الجغرافية المتعلقة بمواقع المعسكرات من سجلات للخدمة الاجتماعية الدولية في الفرع الأمريكي، من تاريخ أرشيف المعونة الاجتماعية في جامعة (مينيسوتا).
يقدم الأرشيف المحفوظ معلومات محدودة عن التركيبة السكانية لمخيمات اللاجئين في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية، غير أن المعلومات المتاحة توضح بأن مسؤولي المخيمات كانوا يتوقعون إمكانية إيواء المزيد من اللاجئين مع مرور الوقت، وتأتي المعلومات الجغرافية المتعلقة بمواقع المعسكرات من سجلات للخدمة الاجتماعية الدولية في الفرع الأمريكي، من تاريخ أرشيف المعونة الاجتماعية في جامعة (مينيسوتا).

في عام 1944؛ أصدر المسؤولون الذين عملوا لدى «إدارة الإغاثة واللاجئين» ولدى «الدائرة الدولية للهجرة» –المسماة لاحقا بـ«الخدمة الاجتماعية الدولية»– تقاريرَ عن مخيمات اللاجئين، في صدد محاولة لتحسين الظروف المعيشة هناك. تقدم هذه التقارير نافذة إلى الحياة اليومية للاجئين الأوروبيين في تلك المخيمات والتي تتضمن الشروط الدقيقة التي يواجهها اللاجئون في وقتنا الحالي، فقد كان أغلبهم من بلغاريا وكرواتيا واليونان وتركيا ويوغوسلافيا الذين اضطروا إلى التكيف مع الحياة داخل مخيمات اللاجئين في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية.

صورة من سنة 1945 لمخيم للاجئين اليونان في النصيرات جنوب فلسطين: تشبه صفوف الخيام في مخيم الاجئين في الحرب العالمية الثانية في النصيرات في فلسطين بشكل لافت للنظر لمخيم للاجئين في وقتنا الحالي شرق عمان في الأردن، التي شيدت للاجئين السوريين في عام 2014. صورة: United Nations Archives
صورة من سنة 1945 لمخيم للاجئين اليونان في النصيرات جنوب فلسطين: تشبه صفوف الخيام في مخيم الاجئين في الحرب العالمية الثانية في النصيرات في فلسطين بشكل لافت للنظر لمخيم للاجئين في وقتنا الحالي شرق عمان في الأردن، التي شيدت للاجئين السوريين في عام 2014. صورة: United Nations Archives

تم كذلك نشر دراسة حول هذه المخيمات من طرف إذاعة Public Radio International، التي ورد فيها بأن تلك المساعي ساهمت في جذب اهتمام عدد لا يحصى من الجمعيات الخيرية من حول العالم، وهو ما ساعد على توفير المأوى والغذاء للاّجئين وكذا لتعليم المئات من أبنائهم.

وجب على اللاجئين من أوروبا أن يسجلوا أنفسهم لدى الوصول إلى المخيمات في مصر وفلسطين وسوريا، وأن يحصلوا على بطاقات هوية صادرة من المخيم وجب حملها دائماً، والتي تحتوي على أسمائهم الكاملة والجنس والحالة الاجتماعية ورقم جواز السفر، بالإضافة إلى مستوى تعليمهم وخبراتهم ومهاراتهم السابقة، واحتفظ المسؤولون بسجلات تحتوي على رقم التعريف، والاسم الكامل، والجنس، والحالة المدنية، والمهنة، ورقم جواز السفر، والتعليقات الخاصة، وتاريخ الوصول بالإضافة إلى تاريخ المغادرة.

كيف كانت حياة اللاجئين آنذاك؟

بمجرد أن يتم تسجيلهم، يشق اللاجئون الوافدون الجدد طريقهم عبر سلسلة من الفحوصات الطبية المعمقة. كان يتم توجيههم نحو مرافق مستشفيات مؤقتة —كانت في أغلب الأوقات عبارة عن خيم، وفي بعض الأوقات مباني خالية غير مستعملة تم استغلالها لأغراض تقديم الرعاية الطبية— حيث كانوا يخلعون ملابسهم ونعالهم وكان يتم تنظيفهم وتعقيمهم حتى يتأكد المسؤولون من خلوهم من أية أمراض معدية.

كان بعض اللاجئين على شاكلة اليونانيين الذين وصلوا إلى مخيمات حلب من جزر (دوديكانيز) في سنة 1944 يخضعون للفحوصات الطبية بمعدل شبه يومي، حيث أصبح ذلك جزءاً من روتينهم.

بعد أن يتأكد المسؤولون عن الصحة بأن اللاجئين كانوا أصحاء بما فيه الكفاية للانضمام إلى بقية من في المخيم، كان يتم تقسيمهم ثم توزيعهم عبر عدة مناطق سكنية خاصة بالعائلات، وأخرى بالأطفال غير المصحوبين بذويهم، وأخرى بالعزاب من الرجال والنساء، وبمجرد أن يتم تعيينهم في قسم معين من المخيم، كان اللاجئون يستمتعون ببعض الفرص القليلة المتاحة لهم في التجول عبر أرجاء المخيم. في بعض الأحيان كانوا قادرين حتى على الخروج من المخيم تحت إشراف المسؤولين عليهم.

كان بإمكان اللاجئين في مخيم حلب على وجه الخصوص الذهاب في رحلة عبر عدة كيلومترات نحو المدينة، من أجل زيارة المحلات التجارية هناك واقتناء بعض الحاجيات والأغراض الأساسية، ومشاهدة فيلم سينمائي في دار السينما المحلية مثلا، أو بببساطة للخروج بعض عن الشيء عن الرتابة التي تسود الحياة في الملاجئ.

على الرغم من أن المخيمات التي تم تنصيبها في (عيون موسى) في مصر كانت في عمق 140 كلم في الصحراء، ولم تكن قريبة من أي مدينة، فإنه كان مسموحا للاجئين فيها أن يذهبوا للسباحة في شواطئ البحر الأحمر القريب.

لم تكن الظروف مريحة جدا ونظيفة، لكنها لم تكن في نفس الوقت قاسية جدا وبائسة، فقد كانت هناك مناطق مخصصة للعب، وممارسة الرياضة، وممارسة بعض النشاطات الترفيهية والهوايات. كان اللاجئون المقيمون في هذه المخيمات ممن رغبوا في كسب معيشتهم قادرين على ممارسة حرفهم التي كانوا يتقنونها، كما كان بإمكان البقية الآخرين تعلم بعض الحرف المفيدة في إطار بعض التكوينات المهنية التي كان يتم تقديمها لهم، وفي بعض الحالات القليلة الأخرى، وجد اللاجئون أنفسهم مجبرين على تقلّد بعض الوظائف التي لم تكن مريحة بعض الشيء.

يعمل اللاجئون الكرواتيون واليوغوسلافيون كإسكافيين في مخيم اللاجئين في الشط في مصر خلال الحرب العالمية الثانية. صورة: United Nations Archives
يعمل اللاجئون الكرواتيون واليوغوسلافيون كإسكافيين في مخيم اللاجئين في الشط في مصر خلال الحرب العالمية الثانية. صورة: United Nations Archives

كان الغذاء يوزَّع وفق حصص كانت أقل حجما من حصص الجنود، غير أنها كانت متساوية ومتكافئة، وفي بعض الحالات كان اللاجئون قادرين على شراء المؤونة الخاصة بهم من المحلات التجارية المحلية، كما كان المسؤولون عن المخيمات غالبا ما ينظمون مسرحيات وبعض الأحداث الترفيهية الأخرى.

كانت سياسات الدول الأمّ التي جاؤوا منها غالبا ما تجد طريقها بين صفوفهم، ففي مخيم الشط في الصحراء المصرية، ووفقا لإحدى الروايات، كان الإطارات —الكوادر— اليوغسلافيون المائلون للتيار الشيوعي يهيمنون على المخيم، وكانوا يتنمرون على كل من بدا لهم معارضاً لسياستهم، كما كانوا لا يتوانون عن محاولة إمطار عقول الأطفال الصغار بحملاتهم الدعائية والترويج لسياساتهم.

فيما يخص الأطفال في مخيمات اللاجئين هذه، فقد تمكنوا بصفة عامة من تلقي تعليم مبدئي. على العموم، كان عدد المدرسين قليلا والتلاميذ كثر، وكانت المخيمات تعاني من نقص في الإمدادات والأدوات الدراسية كما عانت من الازدحام. غير أن هذا لا ينطبق على جميع المخيمات، ففي النصيرات على سبيل المثال، تمكن أحد اللاجئين الذي كان فنانا من إكمال عدة لوحات فنية رسمها وقام بتعليقها على كامل جدران روضة الأطفال المحلية داخل المخيم، ما جعل الأقسام تبدو ”نابضة بالحياة وحيوية“ مثلما وصفها أحدهم. وكان اللاجئون من محبي فعل الخير في هذا المخيم يتبرعون بالدمى، والألعاب، وكل ما رأوه مفيدا لنفس الروضة، مما حمل المسؤولين على المخيم أن يعبروا عن الأمر قائلين: ”كانت [الروضة] شبيهة إلى حد بعيد بالكثير من الرياض الموجودة في الولايات المتحدة“.

صورة تبرز أطفالا كرواتيين يخطّون على الرمل كلمة ”مدرستنا“ بلغتهم الأم في مخيم الطلمبات في مصر، سنة 1945. صورة: United Nations Archives
صورة تبرز أطفالا كرواتيين يخطّون على الرمل كلمة ”مدرستنا“ بلغتهم الأم في مخيم الطلمبات في مصر، سنة 1945. صورة: United Nations Archives

في تلك الأثناء، وتحت مخطط مشابه لمخطط «إدارة الإغاثة واللاجئين في الشرق الأوسط»، شاركت إيران في توفير ملاجئ لعشرات الآلاف من المواطنين البولنديين الذين كانوا يفرّون من بطش النازيين ومحتشدات الأعمال الشاقة السوفييتية. تشير التقديرات إلى أن حوالي 114 ألفاً إلى 300 ألف لاجئ بولندي وصل إلى إيران بين سنتي 1939 و1941، عندما كانت أمواج كاملة من المهاجرين اليائسين والمرضى غالباً تتدفق على شواطئ بحر قزوين في إيران.

يبرز هذا الفيلم الوارد أعلاه مخيماً للاجئين البولنديين تمت تهيئته من طرف الصليب الأحمر الأمريكي في شمال إيران، حيث كان بإمكان البولنديين الفارين من آلة الفتك النازية المحافظة على لغتهم وتقاليدهم حيةً بينما ”يزرعون تربة بلاد فارس القديمة“، ويتلقون تدريبات في صفوف جيش بولندي جديد مناهض للفاشية.

بالنسبة للكثير من البولنديين، فقد مثلت نقطة الوصول إلى إيران متنفساً عظيماً، وراحة كبيرة من الصدمات التي سببتها لهم أهوال النازيين والسوفييتيين، وقد استُقبلوا بأذرع مفتوحة من طرف مضيفيهم المحليين.

يتذكر لاجئ بولندي، الذي كان مدرّساً، قائلا: ”كان الشعب الإيراني الودود يتجمع حول الحافلات التي كانت تقلنا ويهتف بعبارات ترحيبية ويقدم لنا الهدايا من تمور، ولوز، وبازلاء محمصة، وزبيب، ورمّان، وذلك عبر النوافذ المفتوحة“.

مجموعة دمى من صنع الأطفال الأوروبيين اللاجئين في الشرق الأوسط. صورة: United Nations Archives
مجموعة دمى من صنع الأطفال الأوروبيين اللاجئين في الشرق الأوسط. صورة: United Nations Archives

مثلما قد تتوقعه، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قام معظم اللاجئين الأوروبيين في إيران ومناطق أخرى من الشرق الأوسط إما بالعودة إلى أوطانهم أو انتقلوا إلى أماكن أخرى في العالم، ولم تعد تجربتهم الإيجابية خلال مدة إقامتهم تلك في الشرق الأوسط تشكل موضوعاً لأحاديثهم وقصصهم التي يسردونها الآن، خاصة في خضم تدفق المهاجرين المسلمين إلى أوروبا، ولسخرية القدر، ينادي الآن التيار اليميني في الحكومة البولندية بشدة بمنع استقبال وإيواء أي لاجئين سوريين.

وفقاً لمقال من إعداد وكالة الأنباء (أسوشييتد بريس) في سنة 2000، لم يبق سوى 12 من اللاجئين البولنديين ليعيشوا في إيران. لقد بقوا هناك يعيشون حياتهم بحرية، وتزوجوا من مواطنين محليين، وكانت تجمعهم علاقة وثيقة ببعضهم البعض، فورد في المقال: ”في بعض الأوقات، كانوا يجتمعون للاحتفال بعيد الميلاد مع بعضهم البعض في السفارة“، كما أضاف المقال: ”غير أن كل ما أرادوه هو نسيان المعاناة التي جمعتهم في وقت سابق“.

مقالات إعلانية