in

حياتي كمثلي في بلد عربيّ

المثلية في العالم العربي هي الجحيم بعينه.. إذا شعرت لوهله أن الحياة وردية؛ سيأتي الواقع وينهال عليك بقمعها.

صورة: iStock.com/MarijaRadovic

تنويه: هذه المقالة تعبر عن رأي الكاتب وتسرد حياته الشخصية.

في العادة عندما أسرد مقالًا؛ أشرع في تحديد كل شيء سأقوله، وأي جملة أكتبها أعلم مسبقًا أنني سأكتبها، لكن هذا المقال سيأخذ طابعًا مختلفًا. اليوم لن أتحدث بصيغة الكاتب الدقيق الذي اعتدت أن أكونه في حياتي (وبالتأكيد أنتم لا تعلمون مَن أنا مِن الأساس، وهذا جيد)، بل سأتحدث بصيغة الطفل الصغير الذي يطرح ما في ذهنه على البالغين دون تفكير.

أنا مثلي، أو كما يُلقبونني في العالم العربي: ”لوطي“. الناس يعتقدون أن المثلية شيء يُصنع، أو يمكن للظروف والبيئة أن تخلقه. أرى أن المثلية يولد المرء بها، ويكتشفها في سن مبكرة جدًا كذلك، حتى دون أن يبلغ جنسيًّا.

البيئة تؤثر على الطبيعة الأم فقط، وهذا التأثير تأثير ”تعديلي“ ليس إلا، ولا يمكن له أن يخلق طبيعة كاملة وحده. أي يمكن للمجتمع أن يؤثر على طبيعة المثلية للمرء، فإذا كان مجتمعًا شرقيًّا؛ سيجعل المثلي يُشكك في ميوله ويتخبط بين طبيعته الأم وبين الدين، وإذا كان مجتمعًا متفتحًا؛ سيجد الدعم الذي يجعله يتقبل نفسه أكثر وأكثر.

البيئة تؤثر على الطبيعة، ولا تخلقها. أي أن المثلي مثلي.. انتهى الأمر. تأثير البيئة نتيجته إما التدعيم أو التشكيك، لكن في النهاية المثلي يظل مثليًّا ولو جعله المجتمع يشك في نفسه دائمًا. هذا مفهوم كان يجب أن أوضحه في بداية المقال كي أبتعد عن أي تعليق غير موضوعي سيأتي بصدد هذه النقطة من طرفكم.

البداية

أنا الآن شاب بالغ في عقدي الثاني من العمر، لكن قصتي بدأت منذ سنين طويلة. في مرحلة الروضة – KG، كان لي صديق يُدعى (إ)، كان أشقر الشعر، أزرق العينين، وباسمًا على الدوام. اعتدت أن ألعب معه في التراب، وأن نرسم سويًّا، لكن الذي جعلني أشعر بشيء غريب تجاهه هو موقف مُعين وفجائي. عندما كنت صغيرًا كانت لدي عادة التبوّل اللاإرادي، ونتجت عند مواجهتي لمُعلمة منعتني عنوة من الذهاب للمرحاض، ولم يكن مني إلا أن بللت نفسي، واستمر الأمر معي فترة طويلة بعد ذلك.

وفي هذا اليوم، بللت نفسي بينما كنا نلعب، لاحظ (إ) ذلك. بالطبع كنت خجلًا من نفسي وهرعت إلى المُعلمة كي تنجدني من تلك الكارثة. وبينما كنت في المرحاض أغتسل وهي تساعدني في ذلك، أتى (إ) من الخارج وشاهد الأمر، ثم تركتني المُعلمة بغتة وذهبت للخارج لقضاء أمر ما، وهنا وجدت (إ) اقترب ناحيتي وشرع في إكمال ما بدأته المُعلمة، حاول تنظيفي مثلها، كانت تلك أول مرة أشعر فيها بالأمان والعطف، وقتها شعرت بشيء غريب لم أستطع تفسيره إلا عندما كبرت، وصنفته على أنه (انجذاب العاطفة الأولى).

التصاعد

مرت سنون طويلة حتى انقطعت علاقتنا، حسنًا.. أنا لست حزينًا، كان بمثابة ذكرى طيبة وأقدرها حتى الآن، ثم فجأة وجدت نفسي في المرحلة الإعدادية، وهناك تنمر عليّ شخص واحد بعينه، واستمر بالتنمر عليّ لمدة ثلاث سنوات كاملة. لكن في السنة الثالثة تصادقت مع شخص، وهذا الشخص صادق المُتنمر، فأصبحنا في بوتقة واحدة. ووقتها حدثنا عن المحراب المقدس للآثام: الجنس!

وقتها بدأت التغيرات الفسيولوجية في التمكن مني، وكنت كالقِدر، أغلي بدون هوادة، وجدت نفسي منجذبًا للمُتنمر! أجل، المُتنمر يا رفاق، الشخص الذي أهانني وجعلني أخسر كرامتي أمام الجميع. وقتها كنت ضعيفًا، وكان هو الذي غذى شعور الضعف بداخلي، فبالتالي شعرت بالخنوع تجاهه. بدأنا بعدها في ممارسة الجنس الفموي بشراهة. لكن كنت أنا الطرف المُستعبَد في العلاقة. لم يُقبلني حتى، ولم يُشعرني بأنه يحبني ولو كان ذلك مجازًا. ولم يُبادلني الجنس الفموي حتى، كنت بالنسبة له ”دمية جنسية“، لا أكثر، ولا أقل.

لم تكن لي علاقات وقتها، وكانت تلك العلاقة الجسدية الأولى لي، كنت مراهقًا يا رفاق، وكنت غبيًّا. استمر الوضع حتى وصلنا إلى نهاية المرحلة التوجيهية (الثانوية)، وكنت معه على السرير كالعادة، لكن هذه المرة فاجئني بأنه صورني فيديو، وساومني بعد ذلك بالطبع. في النهاية انتهى الأمر بانقطاع التواصل التام، لكن ضريبة ذلك كانت بَوحي لأهلي بكل ما حدث.

كي أبعد عني جحيم أهلي وتنمرهم أقنعتهم أنني أذهب لمُعالج نفسي من أجل التخلص من المثلية، واقتنعوا بالفعل، والآن يعتقدون أنني مُغاير الجنس تمامًا، ويريدون تزويجي من أنثى كذلك بعد أعوام قليلة. لا أعلم ماذا سأقول وقتها، ولن أشغل بالي بالتفكير حتى.

نرجع لما كنا نتحدث عنه. حينها كان كل شيء حالكًا، لم أعلم إلى أي جامعة سأذهب، وكانت العلاقة الوحيدة في حياتي مجرد خدعة كبيرة. حتى أنني أوهمت نفسي أنه يحبني بالرغم من كل شيء، أنا أحمق فعلًا، وذلك جعلني أقوم بعلاقة جنس فموي مع جاري كذلك، وبدون الخوض في تفاصيل، انتهت بطريقة مأساوية أيضًا. اتضح أنني أحب الجنس جدًا، وأريد أن أتمتع بشبابي وجسدي دون أن يظلمني المجتمع أو يوصمني بالعُهر والدناسة.

غبائي كان متمثلًا في اندفاعي الأحمق نحو إشباع الحاجة الجنسية، لكن بعد مروري بتلك المواقف، صرت أحكم الآن وأجبن كذلك. أخاف من الدخول في أي علاقة، أخاف أن أبوح بميولي من الأساس لأي شخص، وحتى وإن كان من داخل مجتمع المثليين أنفسهم وأنا أعلم ذلك. أشعر أن كل مثلي عبارة عن قنبلة موقوتة في المجتمعات العربية، فور أن تدخل في علاقة معه؛ ستجد نفسك في خطر على الصعيد الجسدي والنفسي.

هذا خاطئ، وخاطئ بشدة. هكذا لن أدخل في أي علاقة، وهكذا لن أعيش حياتي كما أريد أن أعيشها. سأظل حبيس أوهامي وأفكاري ورغبتي المتأججة للأبد. في كل مرة أستمني فيها، أبكي لأن حياتي ستكون بهذا الخواء حتى أموت. أتيت إلى الحياة كي أُلعن وأوصم بالعار وألاحق من قبل السلطات وأُسجن في زنزانات قاتمة لا أحد يعلم الأهوال التي تحدث فيها بعيدًا عن أعين الجميع.

إذا كان الإله فعلًا يحبني، لماذا خلقني هكذا؟ هل خلقني مثليًّا كي يعاقبني بالجحيم الأبدي؟ هل هو سادي لدرجة أن يخلق شخصًا به صفات هو نفسه ينبذها، كي يُلقي عليه الأحكام بموجب طبيعة هو ليس له أدنى دخل فيها؟ إله متسلط وفي وجهة نظري إذا كان موجودًا فعلًا فإنه يخلق البشر باستمرار كي يسخر منهم ويُرضي غروره السلطوي.

يحضرني هنا مشهد لـ(ألباتشينو) من فيلم The Devil’s Advocate عندما قال للبطل أن الإله سادي، ويضحك بمؤخرته السمينة في السماء بينما البشر يتخبطون في رقعة شطرنج كبيرة. قال (ألباتشينو) في المشهد: ”الإله يقول لك انظر.. لكن لا تلمس، إلمس.. لكن لا تذق، ذق.. لكن لا تبلع!“. أنا أكرهه من صميم قلبي، ذلك الكيان اللاهوتي الفارغ الذي يعبده البشر عبادة الأصنام. إنه مجرد وهم، وتعدد صوره لا يعني أنه حقيقي، هذا يعني فقط أن البشر يُمكن التحكم بهم لدرجة تجسيد الوهم في أكثر من صورة.

بموجب تلك التعاليم التعسفية والمضادة للحرية الإنسانية.. أنا، الشخص المثقف، متقد الذهن، يتم التعدي على حريتي لمجرد أن هذا الإله يقول أنها ”خطيئة“. أوتعلم ما هي الخطيئة أيها الإله؟ الخطيئة هي التعجرف وتذكير الآخرين بأفضالك عليهم، بل وجعلهم يقيمون الشعائر ويبنون المعابد لك كي تشعر بالفخر والعزة. إذا وضعنا جميع الخطايا السبع في مكان واحد، سيكون الناتج هو أنت.

غصّة في حلقي

آسف على الإطالة، لكن كان يحب أن أنفّس عن ما بداخلي. بين مرحلة الروضة، ومرحلة خيانة هذا الحقير وتصويره لي، كان هناك شخص عشقته عشقًا. كان نحيلًا، باسمًا، ورقيقًا إلى أقصى حد. هدوء العالم كله فيه، ورزانته هي التي شكلت الإنسان الذي أنا عليه اليوم.

كان معي في المرحلة الثانوية، من العام الأول وحتى الثالث. في عيد ميلادي، أهداني رواية، شكرته جدًا وكانت بداخلي فرحة معشوق قال له العاشق: ”الآن لديك شيء مني“.

لم أقرأ الرواية، لم أرد أن أضيع تلك الهِبة الثمينة في حياتي. مر أسبوع منذ ذلك اليوم ولم يظهر بالمدرسة. سألت عنه، لكن قال والده أنه متوعك قليلًا. في اليوم التالي أتاني خبر وفاته.. كان مريضًا بسرطان الرئة، ولم يُخبر أحدًا، ولم يُرد العلاج الكيميائي حتى. حافظ على ابتسامته حتى اللحظة الأخيرة، وأهداني الرواية بهدوء وحب بالرغم من ألمه الشديد.

ذهبت إلى مراسم الدفن بنفسي، لكن بمجرد أن رأيت الكفن الأبيض، خرجت مباشرة وأنا أنتحب، حتى عدت إلى منزلي وأكملت النحيب حتى غلبني النوم. حتى الآن أنا نادم على عدم بوحي بمشاعري تجاهه. لم أرد منه علاقة جنسية، لم أرد منه أي شيء جسدي، أردت فقط أن أنظر إليه بدون حرج.

مللت من اختلاس النظرات بين الزملاء من وقت لآخر كي لا أُكشف. أنا أحمق! إنه طيب، إذا كان مغاير الجنس، كان ليرفض عرضي فقط، ولم يمكن ليُشهر بي أو يؤذيني! كان نقيًّا لدرجة جعلتني أؤمن بوجود الملائكة المنزهين عن كل عيب فعلًا. لكن بماذا يفيد الندم.. لقد رحل.. رحل قبل أن أقول له أي شيء.. رحل قبل أن أقرأ الرواية وأناقشه فيها.. رحل عود نعناع يافع ذو 17 عامًا.. رحل أول حب حقيقي في حياتي..

موقف جعلني أريد الخروج من الوطن العربي بأسره.. وفي أسرع وقت!

كنت عائدًا من اختبار ما، وأوقفت الشرطة العربة، وجعلت الكثير من الشباب يهبطون ويقفون بجانب بعضهم البعض. فجأة تم سحب الهواتف، وتم ترحيلنا عنوة إلى أحد مخافر الشرطة، ثم من مخفر إلى مخفر انتقلنا، كل هذا ونحن محبوسون في وضع الوقوف، أكثر من 30 شخصًا في زنزانة لا تزيد عن 2 متر في 2 متر.

تم سحب بطاقات الهوية للكشف عليها. وقتها كان هاجسي الوحيد هو أنهم إذا فتشوا الهاتف سيجدون صور أولاد كثيرة، وهذا سيجعلني متهمًا بـ”اللواط“ بدون أدنى شك. حيازة صور لأولاد على هاتف محمول بالنسبة لحكومة أي دولة عربية هو بمثابة الممارسة الجنسية الصريحة مع شخص بالغ.

بعد مكوثي لأكثر من 10 ساعات في زنزانة صغيرة وأنا جالس القرفصاء، تم الكشف على هويتي وكان سجلي نظيفًا. وبمجرد خروجي، بللت نفسي مجددًا. نفس عقدة الطفولة تظهر في أي موقف أتعرض فيه للإهانة والذل. أبسط حقوقي الإنسانية في الحرية سلبها شرطي من المفترض أن يساعدني على صونها من الأساس.

الآن تخيل معي إذا أوقفك شرطي في الشارع وقال لك اعطني هاتفك كي أفتشه، ماذا ستفعل؟ لنفترض أنك أعطيته له بالفعل لأنك إذا رفضت سيكون وضعك أسوأ، وسيأخذه عنوة في النهاية أيضًا، وقتها وجد على هاتفك صورًا لأولاد، وفتش في محادثاتك، ووجد حديثًا مع أحد أصدقائك عن مثليتك. وقتها صدقني لن ترى نور الشمس مرة أخرى. منذ ذلك الوقت وأنا أمسح محادثاتي باستمرار، وجميع الصور والفيديوهات على هاتفي محفوظة في وضع خفيّ، وبكلمة مرور وبصمة إصبع.

ماذا أريد في حياتي؟

أريد الخروج من هنا.. أريد أن أعيش حياتي بحريّة.. أريد أن أعجب بمن أريد بحريّة، أريد أن أبوح بحبي وإعجابي بحريّة، أريد ممارسة حياتي الجنسية بحرية، أريد إنشاء أسرة وتبني طفل بحرية. أريد حرية إنسانية، أريد أبسط حقوقي الإنسانية.. أريد أن أكون إنسانًا ولو لمرة واحدة في حياتي.. أريد أن أكون نفسي..

المثلية في العالم العربي هي الجحيم بعينه.. إذا شعرت لوهله أن الحياة وردية سيأتي الواقع وينهال عليك بقمع الحريات والسجن والغرامة والتشهير والمحاكم والقضايا. المجتمع قذر، بشر مُغيبون إلى أقصى حد، وهم الدين جعلهم هكذا، مسح عقولهم ووضع مكانها مُعلّقات عدائية. لكن الفرق أن في معلقات الماضي كانت شعرية بديعة وتوضع على أبواب الخيام، لكن الآن يتم تطبيقها في صورة قوانين ”شرعية“ لا تمت بصلة للحقوق المدنية للمرء.

إذا تم الحكم عليّ بالمكوث هنا للأبد.. أريد التعرف على آخرين، أريد ممارسة حقوقي المدنية بالنسبة لذاتي الإنسانية، سأعيش بالرغم من كل شيء.. وكما قيل في رواية الحديقة الجوراسية للمُبدع (مايكل كرايتون) على لسان العالم (إيان مالكوم): ”ستجد الحياة طريقة للاستمرار – Life will find a way“.

مقالات إعلانية