in

رسالة من البحر

رسالة من البحر

كان بلدي، كان… وما أصعبها من كلمة على القلب. كيف كان بلدي؟ لا أذكر تمامًا لأننا ننسى نحن البشر أفضل أوقات حياتنا، بينما لا ننسى مآسينا وأيام الماضي المرّ. ولكنها عادت ذكريات الأيام الجميلة مصاحبةً معها المرارة والحزن في صباح هادئ من صراع الحقد الأعمى والقتل العشوائي والنفوس الطمّاعة.

الآن عادت الذكريات وأنا جالس على شظايا أحد البنيان من منطقة مرتفعة، أنظر إلى الدمار حولي. مساكن سكان بلدي تدمرت وأصبحت جبالًا من الأطلال ومدافنًا لأجسادهم الباردة، الغبار تخلل سماء بلدي حاجبًا اللون الأزرق الصافي، فنور الشمس قد تلوث بلون الغبار الرمادي الكئيب، والعصافير قد هاجرت بلدي مستخدمةً حريتها المطلقة إلى مكان آمن بعيد عن مفاسد نفوسنا السوداء.

كان الصباح في بلدي يمتزج بكوب قهوة مزارعنا وطعام بذور أرضنا النقية التي تملأ الجسم حياةً وصفاءً، في حين تتعالى أغاني العصافير إلى السماء. صباح هذا اليوم هو صباح مشؤوم وبطيء، يقتلنا ببطئه، فصرخات الألم والقهر تسحق مسامع البشر بعلوها وتنهدات الأمهات المتقاطعة تذوّب قلوب من لهم قلوب ومشاعر، وصمت الأطفال ووجوههم العبسة تملأ العيون بالاحمرار.

منذ بداية الصراع وإلى الآن، في كل صباح نشرب الماء ممزوجًا بالدموع ونأكل الخبز اليبس. هذا الدمار والقتال المفتوح والمستمر هو نتاج جهلنا، وإن تحدث الجهل فأصوات صرخاتنا الداعية للموت هو صداه. فهناك رجل يبكي كالطفل على ابنته التي لا يستطيع أن يخرج جثتها الهامدة من الأنقاض، وهناك أم تتناحى أمامًا وخلفًا وهي حاملة ابنها الميت، عمره فقط سنوات معدودة على كف واحد، والأطفال تبكي بكاء البريء والشيوخ تدمع بصمت.

رائحة الملح تفوح في بلدي في هذا الصباح، على ما هو معتقد فإنها قادمة من البحر. ربما الذكريات قد عادت بسبب رائحة الملح، فكلما مشيت بجانب البحر متأمل شروق الشمس فجرًا كانت رائحة الملح تذكّرني بأيام طفولتي. ماذا كان بلدي قديمًا؟ ماذا كنت أرى مسبقًا في بلدي؟ كنت أرى الفتيان يعزفون القيثارة وينفخون في الناي والصبايا يرقصن حولهم تحت أغصان الياسمين والفل، كان الشيوخ بشوشين دائمًا، يقدّمون التفاح لكل عابر من جوار بيوتهم بابتسامة بريئة نابعة من طهارة النفس.

كنت أرى الأطفال يركضون بين الناس في السوق الشعبي وأصوات المرح والفرح لا تفارق أيامهم. كان الكهول يحصدون الزرع والنساء يحملون الأغمار والأناشيد تترنم في ما بينهم، سببها ولفة أوحتها الغبطة والمسرّة. كانت الصبايا يخرجن من بيوتهن بملابس مزينة بالإكليل وزينة الذهب تعكس نور الشمس في عنوقهن وأيديهن، والصبيان يترنحون بملابس القماش والحرير.كانت الولفة هي المستحكمة بيننا وبين الكائنات: فالطيور والفراش كانت تقترب آمنةً وجماعات الغزلان تنحني إلى الغدير واثقةً.

كنت أرى هذا الجمال والمحبة بين الناس في ظل غياب الكهنة والمنافقين: أولئك الذين دسوا سموم مصالحم بين الناس، هم الذين شوهوا جمال بلدي، فقد استغلوا جهل الشباب وملؤوا المرض في نفوسهم ليصبحوا مثلهم، أعموا بصيرتهم عن نور الشمس وجعلوهم يرون بهات أهدافهم المتحيزة فقط لمطامعهم ورغباتهم. قللوا من شأن الصبايا ونزعوا روح الحياة من قلوبهن وأصبحن يخافون الحياة والخروج لممارستها. استغلوا براءة الأطفال ولقّنوهم شعائرهم. وهكذا استثمروا جيلًا لهم في المستقبل… فها نحن ندفع الثمن.

كانت حياتنا كلها ليلة قدر والآن أصبحنا ننجو لا نعيش. ثوراتنا هي تفريغ للغضب ومطالبة بالدمار وليس بالتغيير، لا نعرف مصالحنا، بل نريد التغيير فقط ولا نريد تغيير ما في عقولنا وقلوبنا. مطالبنا كانت لا شيء سوى ضجيج مسموع لا ملحوظ، أفكارنا هي أفكارهم وأهدافنا هي أهدافهم وحياتنا تمت محاكتها بواستطهم وأقوالنا هي اقتباساتهم.

فها هي بلدي تنزف بسبب جهلنا وضعفنا، فها نحن نذهب إلى المعابد ونتمتم إلى أرضها وننظر إلى سقفها نناجي إلى مساعدة خارجية لتنقذنا من أنفسنا. نحسد موتانا على الراحة التي ينعمون بها، فالموت هو منفانا. لم نعد نشعر بأي شيء، لسنا سعداء ولا بؤساء، نفوسنا ممتلئة بالخلاء ليس لنا وجود ولا معنى. مثلنا مثل الريح العابر. وربما للريح فائدة، فهو يطهر الهواء من الغبار الناجم عن دمار وحطام متفجراتنا.

طوائف تنظّر، مذاهب تجادل، وأحزاب تتهم، لمَ الأنهار مريرة في بلدنا، والشباب يتضاربون بين هذا وذاك. في الواقع، الحقيقة واضحة ولكن هم المنافقون الذين يطمرونها كلما بعثت لنا ضوءًا باهتًا لكي نتسابق إليه، يهابون الحقيقة أكثر من الموت. الأنهار مريرة في بلدنا لأن نحن من سمم الينبوع، يقتلون أنفسهم من أجل البلد ولكن نحن البلد.

القاتل منا يترك خلفه ضحايا الأحبة من الناس، فهناك من فقد ابنه أو بنته، وهناك من خسر أخاه أو قريبه، والبعض خسروا أعز الأصدقاء. القاتل يمضي حياته بدون اكتراث، والفاقد منا يتذكر كرهًا اللحظة الأخيرة لفقيده قبل رحيله، يتمنى عودة الزمن ليذهب إلى الموت بأرجله هاربًا من جحيم الحياة.

هو غير قادر على العيش وعلى الموت، واقفًا على حبل رفيع على يمينه الأمل الطيب وعلى يساره الواقع المر. لا وجود للجحيم إلا هنا في بلدي، فالجحيم جحيمنا مصطلحًا وفعلًا.

بعد كل أذى، الانتقام يسود عقل المرء. وفي نهاية المطاف، يصبح ذاك الذي فقد أحبابه قاتلًا! فمن نلوم؟ القاتل الذي فقد أو الفاقد الذي قتل؟

تمنيت إكمال ما تبقى من عمري في بلدي… سأموت وربما لن أدفن تحت ترابها. فوداعًا يا بلدي، والوداع لا يتسم بالفرح أو بالحزن، ولا يمكنني إعطاءك يا بلدي وعد اللقاء القريب أو المفنى المؤبد…

رائحة الملح تسود بلدي في هذا الصباح، والبحر ينادي والحياة تناجي.

مقالات إعلانية