in

فسّوطة المبسوطة

فسّوطة

فسّوطة! لا… ليست نكتة أو كلمة تستخدم للتندر على أحد، ولا لعبة يلعبها الأطفال باستخدام الحجارة والطباشير، فسّوطة هو اسم قريتي الصغيرة حيث أسكن في شمال فلسطين؛ أو كما كانت تسمى.

ولدت هنا، في هذه القرية التي يقطنها ثلاثة آلاف نسمة أو اقل، جميعهم من الروم الكاثوليك. سكّان قريتي بمن فيهم أهلي وعائلتي لم يكونوا أبداً من أولئك الذين يعيرون أي اهتمام للسياسة.

اذكر في طفولتي أنني كلما طرحت على والدي سؤالاً على علاقة قريبة أو بعيدة بالسياسة يجيبني بإجابة مغلفة دائماً بالبطيخ!

”أبي، لماذا لا يتحدث جيراننا في موشاف إلكوش العربية كما نتحدث نحن العبرية؟“

”بلا عرب بلا بطيخ.“

”لماذا لا يستطيع أهل لبنان زيارتنا؟“

”بلا لبنان بلا بطيخ!“

وهكذا… هنالك دائماً علاقة وطيدة بين السياسة والبطيخ بالنسبة لأبي ”بلا كنيست بلا بطيخ“، ”بلا اوسلو بلا بطيخ“، ”بلا وحدة عربية بلا بطيخ!“ أما الدين فيرتبط بالنسبة لأبي بمصطلح آخر تماماً.. وهو خرابيش الجاج..

”أبي، ما معنى أقنوم؟ سمعت حنا الشماس يتحدث عنها في الدير اليوم ولم افهم شيئاً!“

”بلا أقنوم بلا خرابيش الجاج“

”لماذا لا نذهب إلى القدس في سبت النور كما يذهب الارثدوكس في كل عام؟“

”بلا نور بلا خرابيش الجاج“

”اهل قرية حرفيش المحاذية ذاهبون اليوم إلى منطقة اسمها حطين بالقرب من طبريا – يقولون أن هناك عيد اليوم“

”بلا حرفيش بلا بطيخ الجاج“

من الملاحظ أن الإجابة على السؤال الأخير كانت مختلطة؛ خليط من البطيخ – عوضاً عن الخرابيش، مضافاً إليها الجاج… وهذا يعني أن السؤال يحمل بعداً سياسياً بالإضافة للبعد الديني؛ فحرفيش قرية درزية، والدروز – بحد ذاتهم – تكوينٌ مسبوكٌ من السياسة والدين معاً.

كانت أكثر أوقاتنا إثارة للتسلية عندما نذهب إلى محمية وادي شريخ المطل على ”موشاف ناطوعاه“ ونقف على تلة عالية حيث نستطيع رؤية السيارات اللبنانية في ”عيتا الشعب“ بالعين المجردة.

عندما انهيت دراستي للمرحلة الثانوية، اضطررت على مغادرة فسّوطة للالتحاق بجامعة تل أبيب؛ وتل أبيب مدينة عصرية ومنفتحة، على عكس قرى وكيبوتسات الشمال التي تميل إلى الانعزال في مجتمعات خاصة.

في احد المواد الإجبارية في السنة الأولى تعرفت للمرة الأولى على مأساة الهولوكوست التي تعرّض لها اليهود في أوروبا إبّان الحرب العالمية الثانية، لا أدري لماذا شعرت بغيرة شديدة لأن اليهود يمتلكون هذه الدارما التراجيدية في تاريخهم والتي توحّدهم بطريقة ما وتعطيهم صبغة مميّزة عن العالم، لقد أردت الدراما التراجيدية الخاصّة بي…

بحثت كثيراً، كنت بالطبع أعلم أنني لست مهاجراً مثل أجدادهم وبالتالي أنا فلسطيني الأصل، ومع أن هذا الموضوع لا يتناوله أحد في فسّوطة إلا أنني في إجازة الصيف اقتنيت كتاباً يتحدث عن تاريخ فلسطين، انفقت اسبوعاً كاملاً في إجازتي على التلة أراقب السيارات في عيتا الشعب وأطالع الكتاب حتى وجدت فيه ضالتي، النكبة!

عندها امتلكت الدراما التاريخية التي تجعلني فلسطيني حقيقي بهوية كاملة التكوين… وأصبح لدي عدو… اليهود؛ سبب هذه المأساة.

أضعت عشر سنوات كاملة من عمري في الصالونات الثقافية التابعة للأحزاب السياسية العربية في حيفا والداخل، اشارك في التظاهرات التي تدعو إلى حق العودة والمساواة، أصحبت واحداً من قومي، حتى أدركت في مرحلة متأخرة أن قومي ليسوا واحداً… هنالك أطراف لا نهائية في المعادلة السياسية الفلسطينية، كل منها يؤثر على الخلطة الكيميائية بطريقة ما… سلبية بالضرورة! الدين والسياسة والأيدلوجيات المعقدة.

الآن وبعد أن أتممت الأربعين عام، عدت إلى فسّوطة، اشتريت منزلاً قريباً من المحمية حتى أستطيع مشاهدة سيارات عيتا الشعب متى أردت. تخلّيت عن كل الأفكار التي كانت تطاردني، وأصبحت عدواً شرساً للسياسة؛ فالسياسة مقرفة! جمرة خبيثة يصعب التخلص من تبعاتها!

وأصبحت كالمرحوم أبي! حيث اتضح لي فيما بعد أنه حتماً مر بتجربة مشابهة لتجربتي وأصبح يعرف تماماً أن الخليط المقزز من البطيخ وخرابيش الجاج هو حقيقة القضية التي نعيشها…

”بلا اسرائيل، بلا مفاوضات، بلا تنظيمات، بلا أحزاب، بلا مساعدات، بلا ايدلوجيات، بلا عرب، بلا قومية، بلا فلسطين، بلا دين… بلا بطيخ الجاج“.. خلينا نتزهرب كاسة شاي ونشوف سيارات عيتا الشعب من تلة المحمية في فسّوطة المبسوطة.

مقالات إعلانية