in

الإرادة الحرة.. سؤال اليهودي الذي لا يُمكن الإجابة عنه

فيلم God in Trial
صورة: British Broadcasting Corporation BBC

لطالما ارتبط مصطلح ”حرية الإرادة“ بمفهوم الثواب والعقاب، سواء كان الموضوع المطروح سياسيا أو مجتمعيا أو دينيا، فإن كنت تمتلك حرية الإرادة لفعل ما تريد وأن تختار بين الصحيح والخاطئ؛ لا بد أن تتقبل أيضًا عواقب اختياراتك تلك، لأنه منطقيًا وببساطة؛ يجب أن يسقط عنك أي عقاب في حال كنت مُجبرًا على فعل شيء ما، وبذلك فإذا آذيت أحدهم لأنك كنت تدافع عن حياتك فلن تتعرض لأي عقوبة لأنك كنت مُجبرًا، ويُسمى ذلك في قاعات المحاكم بالدفاع عن النفس.

وعلى ذكر المحاكم، فلو وضعنا حرية الإرادة في قفص الاتهام وبدأنا في تقسيم جنبات المحكمة بين مدافعين عنها ومُنكرين لها، فمن الطبيعي أن نشهد حالة انقسام حادة بين الطرفين وكل منهما يملك براهينه، حتى من يقرأون المقال سوف ينضم بعضهم لهيئة الدفاع ويتطوع الآخرون للهجوم على حرية الإرادة باعتبارها وهّم لا وجود له، وسأقف أنا في جانب فريق المهاجمين لأروي بعض القصص التي تدعم وجهة نظرنا كفريق، والتي غابت عن فريق الدفاع.

كتب (توماس بينك) وهو محاضرٌ متخصِّص في الفلسفة في جامعة (كينجز كوليدج) في لندن في كتابه «الإرادة الحرة»: ”هناك أشياء بالتأكيد خارج نطاق سيطرتك، فموتك وحياتك ولون عينيك وسماتك الخاصة يستحيل أن تكون تحت سيطرتك، في حين أن أفعالك الحاضرة والمستقبلية: ’أين ستقضي أوقاتك؟ ومن ستنتخب؟ وهل تستمر في عملك أم لا؟‘ هي من الأمور التي تتحكم فيها كليا لأنها من أفعالك المتعمدة، فلك أن تفعل أو تمتنع عن الفعل“، فهل هذا صحيح؟، ولا أشكك هنا فقط في الاختيارات البسيطة التي يُمكن التلاعب بها أو توجيهها أو خضوعها لإرادة أحد آخر غيرك، مثل الانتخاب والاستمرار في العمل، بل حتى في الاختيارات الخاصة جدًا، وللإجابة عن السؤال سنرتقي درجة تجاه مفهوم الإرادة الحرة بنظرة الاختيار الخاطئ مثلًا، ففي الوقت الذي رأى (بينك) أن الإرادة الحرة هي قدرتك على الاختيار، نجد (سكون آدمز) يُسفه من أهمية اختياراتنا فيقول: ”الإرادة الحرة وهم، فالناس تختار دائما الطريق الذي يظنون أن فيه أكبر قدر من السعادة“.

هل لاحظت شيئا هاما ومشتركا في كلتا النظرتين؟ قرر كل من (بينك) و(آدمز) أن اتخاذ الخيارات هو أمر لا غبار عليه وواقعي ودائم، ولكنها اختلفا في أهمية اتخاذ خيار ما وتأثيره على محيطنا، أي أن (بينك) مثلًا يرى قدرتنا على اختيار مرشح من اثنين للرئاسة دليل على حرية الإرادة، فيما يسخر (آدمز) من اعتقادنا بأهمية الاختيار بين المُرشحين ولكنه يقر بإمكانيتنا على اتخاذ قرار، فماذا لو لم يكن بمقدورنا اتخاذ القرار أصلًا؟ ماذا لو ذهبت إلى لجنة الانتخاب فلم تجد اسمك في كشوفات الناخبين أو تعطل القلم الذي تستخدمه؟

مربط الفرس من وجهة نظري أن المؤمنين بوجود وعموم حرية الإرادة دائما ما وجدوا أنفسهم أمام اختيارين، أحدهما صحيح والآخر خاطئ، لذا فالأمر لم يبد لهم معقدًا أبدًا، لم يختبروا أي من تلك المواقف التي يُصبح الاختيار فيها خطأ فقط ولا وجود لاختيار صحيح.

لنبقى في أجواء المحاكمات قليلًا كي أُثبت وجهة نظري، وأضرب هنا مثالا واضحا عن تلك المواقف باستخدام مشهد من مشاهد فيلم God in Trial العظيم بالنسبة لي، الفيلم لمن لم يُشاهده يحكي عن مجموعة من اليهود في أحد معسكرات النازية قبيل إعدامهم، وفي أحد الزنازين قررت مجموعة أن تُحاكم الإله بتهمة تراجعه عن العقد الذي صاغه قديمًا مع النبي موسى، والذي يضمن للنسل اليهودي الأمان مقابل بضع أوامر يقومون تنفيذها، وفي أحد المشاهد وقف الحاخام مدافعًا عن الإله وقال أن أي خطأ قام أحدهم باختياره يستلزم العقاب، لأن الرب أعطى لنا حرية الإرادة في الاختيار دائمًا وأبدًا كما وعدنا، وأقتبس من كلماته: ”أعطان الرب الإرادة الحرة، والاختيار دائما كان بأيدينا، والأرادة الحرة تستدعي الحساب“.

وقد يتفق العديد مع الحاخام بمبدأ أن كل الأديان تجد فيها الإله يعد البشر بترك حرية الاختيار كاملة لهم كي يضمن منطقية عقابهم في حال وقعوا في الخطأ، وبدون الدخول في تفاصيل المشيئة الإلهية؛ وضع أحد المساجين الحاخام في مأزق حينما عرض له أحد المواقف التي لم تكن حرية الإرادة ذات معنى فيها وقال: ”تُحدثنا عن الإرادة الحرة! حسنا.. عندما وصل جنود هيتلر إلى بلدتنا فرقوا الأطفال عن الأهالي، أخذوا الأطفال ولا أحد منا كان يعلم مصيرهم، أنا لدي ثلاثة أطفال رأيتهم يصعدون إلى إحدى العربات النازية فركضت خلف أحد الضباط أرجوه أن يتركهم. استدار الضابط ونظر في عيني عن قرب مبتسمًا وقال: ’لك أن تختار واحدا فقط من أطفالك الثلاثة لتأخذه والبقية سيذهبون معي‘، ترك لي أنا الاختيار أن أصطحب طفلا واحدا فقط وأترك اثنين.. هل يمكنك أن تخبرني وقتها أنني كنت أمتلك إرادة حرة!؟“

تلجم لسان الحاخام ولم يعرف أي اختيار كان يجب اتخاذه، فهل تمتلكون أنتم إجابة؟

وهكذا وبنفس الطريقة، يُمكن أن أقص موقفي الخاص بنفس الطريقة فأقول مثلا: في عمر الـ28 اضطررت إلى العودة لبلدتي كي أعيل والدي ووالدتي في مرضهم، لأنه يستحيل عليهم انتقالهم إلى العاصمة للعيش معي بسبب دراسة إخوتي الصغار وعمل والدتي، أما أنا فقد كنت أعمل لعدة مؤسسات من المنزل، ست مؤسسات، أربعة في مصر واثنتين من لبنان. بعد فترة وجيزة من العودة إلى الديار أنهت ثلاث مؤسسات عملها معي، ربما لأن العمل عن بعد هو أمر مكروه لأرباب العمل في مصر غالبًا، وبلدتي صغيرة يهرب منها شبابها بحثًا عن العمل، لذا لم أجد أنا واحدًا بديلًا واكتفيت بكتابة مقالات في المواقع اللبنانية أهمها «دخلك بتعرف» الذي تقرأون مقالي على صفحاته الآن لسهولة العمل عن بعد، فجأة وجدت نفسي محاصرًا بين مصاريف الأهل ورعايتهم، ولا أستطيع السفر للحصول على أموال تكفي لتلك المصاريف.

الوضع ببساطة أنه إذا سافرت إلى العاصمة سأتحصل على الأموال ولكني لن أستطيع رعايتهم في مرضهم، وإذا بقيت سيحصلون على الرعاية ولكن لن تُصبح الأموال كافية، وتوجب علي الاختيار بين السفر والبقاء في البلدة. والآن قل لي، في ذلك الوقت، هل كنت أمتلك حرية الإرادة؟!

أستطيع أن أقول أن كل إنسان يمتلك بالفعل إرادة حرة وسيدافع عن حقيقة ذلك المعنى طوال عمره حتى يُصبح يومًا ما في موقف مثل تلك المواقف، معسكرًا للنازية أو بلدتي، حينها سيُدرك تمامًا أن الإرادة الحرة لا تعمل بنجاح إلا في أوقات السكينة والرفاهية وتتعطل تمامًا في الأوقات الحالكة، تتحول إلى طفل صغير لا يمتلك الإجابات ولا يستطيع حتى فهم الأسئلة المطروحة عليه، فبعد أن أعتاد على وجود خيارين يمكن التفريق بين الصحيح منهم والخطأ وجد نفسه لا يدري أين ذلك الخيط الواضح بين الاختيارات، أو أين هي الاختيارات ذاتها.

مقالات إعلانية