يعد الدعاء أحد أوسع الطقوس الدينية انتشارًا، فهو أداة في جعبة المؤمن الملتزم والمقصر على حد سواء، كما هو جزء من عقيدة المسيحي والمسلم واليهودي والهندوسي ومعظم الديانات على سطح الأرض، فلا يكاد يكون هناك أي معتقد إلا والدعاء جزء منه، ولا يكاد يخلو مسجد أو كنيسة أو معبد من جلسات الدعاء الجماعية بشكل أسبوعي إن لم يكن يومي.
لكن هل لهذا الطقس، من ناحية علمية وعملية، أي تأثير فعلي على الداعي أو الطلب، أم أن الممارسة كلها لا تتعدى كونها عملية عقيمة خالية من أي تأثير على الواقع؟
يصعب عادةً إخضاع المعتقدات والطقوس الدينية لعين العلم الفاحصة وذلك لكثرة الإبهام حول ماهيتها ومظاهر تجليها (المزعومة) في عالمنا، لكن لحسن الحظ فالدعاء ونتيجته المرجوة تمثل استثناءً فريدًا، وذلك لأن الدعاء، بطبيعته، يطلب من الجهة المدعوة أن تتدخل بشكل ملموس في عالم الواقع، وهذا ما نستطيع نحن، كعلماء، فحصه.
يعود تاريخ إخضاع الدعاء لمجهر العلم، ككثير من المبادرات العقلانية والمنطقية، لبريطانيا الفيكتورية. ففي عام ١٨٧٢، قام العالم الفيكتوري فرانسيس غالتون بتحليل إحصائي هو الأول من نوعه حول فعالية الدعاء، فقد افترض ساخرًا أنه يجب على أفراد العائلة المالكة البريطانية أن يتمتعوا بأعمار أطول من المعدل الطبيعي نظرًا لآلاف الأدعية لهم بطول العمر من قبل العامة كل يوم أحد، وقد قام كذلك بنفسه بالدعاء لعدد من قطع الأراضي الزراعية ليرى إن كان ذلك سيؤثر على معدل نمو المحاصيل فيها مقارنة بالقطع التي لم تتلق أي دعاء، وطبعًا لم يجد غالتون أي صلة بين الدعاء ومعدل عمر أفراد العائلة المالكة أو معدل نمو المحاصيل.
وازدادت الدراسات سعة وتعقيدًا منذ ذلك الحين، إلا أنها بقيت وإلى حد ما محدودة في نطاقها وفي حسمية نتائجها، فلم يكن البعض منها كافيًا لاستخراج أية نتائج ذات معنى كدراسة فريد زيخر سنة ١٩٩٨، والبعض الآخر قام باستنتاجات لم يفلح آخرون بتكرارها، كما حدث مع ويليام هاريس سنة ١٩٩٩ حين حاول تكرار دراسة سابقة لراندولف بيرد قبلها بإحدى عشرة سنة.
لعل إحدى أبرز الدراسات التي تناولت موضوع الدعاء ونجاعته هي دراسة من جامعة ديوك في الولايات المتحدة سنة ٢٠٠٥ بعنوان رصد وتفعيل التدريبات العقلية (مانترا)، والتي درست أثر الدعاء والموسيقا في شفاء ٧٤٨ من مرضى القلب على مدار ثلاث سنوات.
تعتبر هذه الدراسة الأولى من نوعها، حيث استخدمت بروتوكولات علمية صارمة في دراسة تأثير الدعاء على عدد كبير من المرضى.
قام الباحثون بتقسيم المرضى لمجموعتين. الأولى احتوت على ٣٧١ مريضًا والثانية على ٣٧٧ مريضًا، بحيث استقبلت الأولى الدعاء لأجل شفائها بينما لم تتلق الثانية أي دعاء، وتم توظيف جماعات من المصلين من أربع طوائف دينية، وهي المسيحية واليهودية والإسلام والبوذية، كلها تابعة لكنائس ومساجد ومعابد رسمية، وتم إخبار الجماعات بأسماء المرضى المطلوب الدعاء لهم، وترك لكل جماعة حرية كيفية الدعاء وصياغته حسب الديانة التي تدين بها كل جماعة، وتراوحت مدة الدعاء من خمسة إلى ثلاثين يومًا.
في المقابل، لم يتم إخبار أي من المرضى حتى يضمن عدم حدوث تأثير دواء وهمي (بلاسيبو) لديهم، ولم يعلم أي من الباحثين عن هوية المدعو لهم لضمان عدم التحيز.
بعد ستة أشهر من انتهاء فترة الدعاء، قام الباحثون بمراجعة المرضى وتقييم حالتهم الصحية بناءً على ثلاث نسب: نسبة التعرض لمضاعفات قلبية جديدة، ونسبة العودة للمشفى، ونسبة الموت.
تم فحص المرضى ممن تلقوا الدعاء لحساب النسب الثلاث ثم قورنت هذه النسب بتلك التي أُخذت من المرضى الذين لم يتلقوا أي دعاء، وتوصل الباحثون أنه لا فرق يذكر بين من تلقوا الدعاء ومن لم يتلقوه على حسب النسب الثلاث المذكورة، أي لا علاقة للدعاء بتحسن أو تدهور الوضع الصحي للمرضى المدروسين.
وتلى دراسة مانترا بسنة دراسة هي الأوسع والأشمل في تاريخ دراسة آثار الدعاء، ألا وهي دراسة أقامها البروفيسور هيربيرت بينسون من جامعة هارفرد عن الآثار العلاجية للدعاء والصلاة الاستجوابية (ستيب)، والجدير بالذكر أن هذه الدراسة تم تمويلها من قبل مؤسسة تيمبلتون الدينية.
تناولت هذه الدراسة ١٨٠٢ مريضًا خضعوا لعملية جراحة فتح مجرىً جانبي للشريان التاجي في ستة مستشفيات مختلفة، وقد تم تقسيمهم بشكل عشوائي لثلاث مجموعات. احتوت المجموعة الأولى على ٦٠٤ أشخاص تلقوا أدعية بالشفاء دون علم المرضى، واحتوت المجموعة الثانية على ٥٩٧ مريضًا لم يتلقوا أدعية بالشفاء ولم يعلموا بها أيضًا، وأما المجموعة الثالثة فتكونت من ستمائة شخص وشخص واحد تلقوا أدعية بالشفاء وعلموا مسبقًا أنهم سيتلقون هذه الأدعية.
وكما في سابقتها، تم إخفاء هوية المرضى في المجموعات الثلاث عن الباحثين ولم يعرف المرضى إن كانوا يتلقون دعاءً أم لا (باستثناء المجموعة الثالثة) لضمان ضبط المتغيرات.
أُرسلت أسماء المرضى في المجموعات التي ستتلقى الدعاء لثلاث مجموعات دينية مستقلة من أجل الدعاء لهم يوميًا ولمدة أربعة عشر يومًا ابتداءً من الليلة السابقة لموعد عملية كل مريض، واشتُرط أن يكون نص الدعاء أن يهب الله المريض عملية جراحية ناجحة وتعافيًا سريعًا دون أية مضاعفات، بالإضافة للأدعية المعتادة.
بعد نهاية فترة الدراسة، تم فحص حال المرضى من خلال دراسة وجود أية مضاعفات صحية للمريض لحد ثلاثين يومًا من انتهاء العملية الجراحية. وجاءت النتائج لتبين بشكل حاسم أنه لا فرق في نسبة التعافي أو المضاعفات بين المجموعة الأولى (التي تلقت الأدعية ولم تعرف) والمجموعة الثانية (التي لم تتلق الأدعية)، وأنه لا يوجد أثر للدعاء على تحسين الحالة الصحية للمرضى.
لكن جاءت المفاجأة أن المجموعة الثالثة، والتي تلقت الأدعية مع علمها المسبق بأنها ستتلقاها، عانت بشكل عام من مضاعفات أكثر من كلتي المجموعتين الأخرتين (ارتفاع بمقدار حوالي ١٢%). لم يستطع الباحثون تفسير هذا الازدياد الملحوظ، إلا أن أحد الباحثين الدكتور تشارلز بيثيا أعاز هذا الارتفاع لاحتمال ازدياد معدلات الاضطراب النفسي لدى المرضى الذين تم إخبارهم أنه سيتم الدعاء لهم، فقد يكون هذا جعل البعض يتساءل ”هل حالتي من السوء بمكان بحيث اضطر الأطباء للجوء لله؟!“ ولعل هذا بموجبه قد أثر سلبًا على صحة المريض أدى لمضاعفات مستقبلية.
ماذا بعد؟
قد يأتي المؤمن هنا (المسلم بالذات) ليقول أن هذه التجارب لم تنجح لأن الله يعلم أنها في ضوء تجربة وأن هذه الأدعية ”ليست من القلب“ أو ”تتحدى قدرة الله“ أو ”تحط من قدر عبادة الدعاء“ إلى جانب الكثير من الحجج الفارغة، وهنا أقول للمسلم أن: الله توعد في القرآن للمشككين أنه ”سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ“ فبأي منطق يفوّت الله أفضل فرصة ليتجلى بآياته هذه بشكل علمي ومدروس وموثق؟ ألا يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؟ أم العكس؟ تلك كانت فرصة ذهبية ليكلم الله ”أولي الألباب“ كما يتكرر في أكثر من خمسة عشر موضعًا في القرآن، لكن وللأسف هذا لم يحدث. فكيف يوفق المسلم بين هذه الآيات القرآنية ونتائج تلك الأبحاث؟
وهنا نرى أن عقيدة الدعاء تتداعى تحت ثقل الدليل والتجربة، بل وحتى الدراسات المموّلة من قبل المؤسسات الدينية، كدراسة ستيب مثلًا، فشلت في إيجاد أي دليل على نجاعة الدعاء. وبهذا فإن الاستنتاج الطبيعي هو أن الدعاء لا قوة له في التأثير على الواقع بأي شكل من الأشكال. وكما قال أبو العلاء المعري: ”لقد أسمعت لو ناديت حيا… ولكن لا حياة لمن تنادي“.