in

الحب في زمن الكيمياء

الحب في زمن الكيمياء

لابد وأنك قد فكرت مسبقا فيما كنت لتصبح عليه اليوم لو قبلت بفرصٍ كثيرة قد مضت، لو أنك تمسكت أكثر.. أو أفلتّ أبكر.. ماذا لو لم تستمع لهم؟.. أو ماذا لو أنك استمعت؟ بالطبع كان للطريق مفترق، وقد وقفته ولو لمرة!

اتدري.. لا أدري متى كانت آخر مرة أحسست فيها النضج واتزان قرارات.. اكتمال خبرة و اعتمال عقل! ثم ثبت لي عكس ذلك من أني لا زلت أنضج. هي من عمرٍ بعيد حقيقةً.. منذ حوالي نصف الساعة!

ربما ظلمنا أنفسنا كثيرا بتمسكنا بقراراتنا الهوجاء في سن لا يعوّل عليه أصلاً باتخاذ قرارات! وزاد ايذائنا لأنفسنا ومحاولات تدميرنا الذاتيه لمّا عاندنا في قرارات يافعه، تخيّلنا بها أننا سنجني أبعد مما جناه الآخرون.

نكفر بكل الأعراف وندحض كل الخبرات إيمانا بمبدأ أننا نقرر ما نعيش، ونعيش ما نقرره. وكان ياما كان، وانتهت القصة!

في الحقيقة نحن بالفعل نعيش قراراتنا، ولكن عندما تكون قرارات في الاصل، وليست ”انفعالات“.. عرض الأرض والسماء الفارق بين الإثنين!

كل انفعالات البعد والقرب، والحب والنفور، وقرارت الارتباط من الانعزال واكمالنا لطريقٍ ما وهجرنا لآخر، وتغير مساراتنا المفاجئ و و و.. مما يرويه أفضل مني تاريخ كل منا في مراهقته وشبابه—والتي قد نزال نحياها رقماً كانت اعمارنا—كل تلك انفعالات وليست قرارات.

تماماً كما الالكترون في ذرة ”هيدروجين“!

– لطالما ظننتُ ان كل شيء يمكن ان يفسّر بالكيمياء.. إلا امتحان الكيمياء! لا عليك ولا عليّ دعنا نكمل!

الذرة تكون غير مستقرة طوال الوقت، تترقب إلكترونا تكمل به مدارها الأخير لتصل لحالة الاستقرار، وهي بذلك تصبح خاملة كيميائيا وزاهدة في كل التفاعلات. خلال رحلتها تلك لاكمال المدار الاخير هي فقط متلهفة ”لجديد“ الاكمال والاستقرار غير آبهة بنتائجه!

فلو أن ذرة الهيدروجين (H) استعجلت اللقاء وارتبطت مع أول انفعال لها بدون وعي لحقيقة الذرة أمامها والتي ربما أقيمها أنا أو انت، أو يقيمها من لهم شيئا في تفاعلات الحياة قياساً على تجاربهم الشخصية بالصواب أو الخطأ.. (مع الأخذ بعين الاعتبار أننا بشر يؤخذ منا ويُرد، تختلف تجاربنا وتختلف ردود أفعالنا وانعكاسات الأمور في كل منا، ولذا نفلح تارةً في اسداء نصيحة ونفشل اخرى!).

فلو أنّا تركنا تلك الذرة (H) الغير مستقرة ترتبط في مدارها الأخير بأول عنصر تلتقيه لربما كان ذلك العنصر هو الكلور (Cl)، ولأصبحوا سوياً (HCl) حمض الكلور الحارق! والذي سيستثير عليهما وعاء التفاعل ويؤذيهما بدايةً، قبل أن يقرر أن ينسكب على مجتمعاتنا ويحدث فيها جروحاً لا تندمل!

الكلور والهيدروجين
الكلور والهيدروجين، صورة من تصميم wirdou.com

ولو أن مراقب التفاعل قد انتبه لذراته وعناصره وأوْلاها اهتماماً خاصاً لربما كانت الآن ذرات الهيدروجين متشبعة بذرات الاوكسيجين، منتجة المركب الأكثر أهمية على الإطلاق وأساس الوجود أجمع..

(H2O) الماء، سيد التفاعلات كلها وأثمنهم نتيجة على الاطلاق، ولربما تركت بذلك ذرات الهيدروجين عنصر الكلور حرا ليتفاعل هو الاخر في توقيته المناسب مع الصوديوم (Na)، حيث يتعادل ويصبح ملحاً لا غنىً عنه! (NaCl).

الملح NaCl
الملح NaCl

أو تدري! لربما رفضت ذلك ذرات الهيدروجين؟ رفضت أن تدخل معادلة محسومة النتيجة، تنتج ماءاً اعتدناه جميعاُ، وقررت أن تخوض تفاعلاً آخر أكثر أهمية—ربما—بالنسبة لها واثمن نتيجة، وقررت أن تأمل صفات عنصرٍ ما، لا أن ترتضي ما تلتقيه مصادفة وترتبك مداراتها لذلك، وتتشوش وتؤثر الاستقرار الخامل عن ازدهار روحها.

الآن ذرات الهيدروجين في حالة ترقب مثيرة، يُعرج بها وتعرج هي في مرات على مدارات وتتأمل إلكتروناتها، وتتفكر إن كانت بالفعل تريد تلك النتيجة أم أنها تفضل تفاعلاً آخر يستهلكها لينتج طاقة كامنة لا حرارة تفاعل مهدرة في وسط التفاعل بلا قيمة تُذكر!

أذكر أني كنت بصحبتها يوما—أنا وذرات الهيدروجين—وأنا أعلم تمام العلم أنها ”أيونية“ تعي التفاعلات وارتقاءاتها، وتأبى خوفاً يمنعها جرأة التفاعل أو يحرمها نتاجاته!

أذكر ونحن معاً أنه خطر لها عنصر النيتروجين (N) ووعدها أنه سيفعل ويفعل، وحين التنفيذ، وجدت أنها تقدم لذلك التفاعل 3 أضعاف ما يقدمه النيتروجين بحثاً عن الاستقرار!

ستستهلك نفسها بشكل يتلفها هي ويدمر كل جميل كانت ستقدمه.. وذلك لما؟! لاستقرار سينتج لنا مركب النشادر (NH3) المعروف بسوء رائحته! حتى وإن كان سينجح في إعداد الكعك واستحسان ذواقيه؛ في النهاية هي متعة للجميع الا للهيدروجين، وقد كانت ذرات الهيدروجين ذكية بالقدر الكافي الذي يعطيها الجرأة على رفض هكذا استقرار والمضي قدماً.

النشادر
النشادر

وأذكر أيضا—عندما كنا معاً—أنْ عرج بها عنصر الكربون وقدم لها كل مايتمناه أي عنصر آخر ووعدها أن يكون لطيفا، وقد كان كذلك فعلاً، لكنها لم تشعر أن هذا ما تريد أن تكون عليه في المستقبل.

بالطبع مركب الجليسرين الذي كانت لتصبحه لو قبلت بالكربون في غاية اللطف والنعومة، وقد يكون ذلك غاية الجميع من أمثالها، ولكن فقط ليس هي!!

لا مبرر لذلك بالطبع، الكربون لطيف ودود ونقي، ولكنها لم تجد ضالتها فيه، ولا مبررات منطقية لذلك لتقنعك ولكنها تقنعها هي وبامتياز..

– هل مللت الكيمياء بعد؟! حسناً.. أتحب أن أحدثك في الفيزياء؟

– ”لا“

– إذا دعنا نكمل!

وأذكر أيضاً ذلك الكبريت اللئيم وتفاعلاته (H2SO4) وغيره وغيره مما كان لي فيه سلوى على طول الطريق معها. إلى أن أتى ذلك اليوم! والتقت ذرات الهيدروجين بذرات ذلك ”العنصر الفريد“ وارتأت فيه شيئاً ينقصها!

ربما هو لاينقص العالم—أو هذا ما يظنه—أو لا يرى فيه العالم جدوى عن مركب (H2O) الماء العظيم الذي حثها باستمرار على تكوينه، ولكنها هي ترى فيه جدوى عظمى وضالة منشوده، وستبهر هي بذلك العالم!

هي تقبل تحديها الخاص ”الناضج“.. بعد عظيم مشاهداتها لمتوالية التفاعل وعناء براهينها، تقبل تحديها الخاص بعد أن رأت في نفسها شيئاً ما قادراً على أن يصنع من ذلك التحدي ”نتيجة“ لا حرارة تفاعل مهدرة عبثاً.

هي قبلت التفاعل بعد أن صنعت من نفسها النسخة الأكثر قوة والأكثر أهلية له، والتي تُجدي وتؤدي دوراً فاعلاً وفعالاً في تلك المعادلة، أراها الآن تقف بجوار ذرات الـ”فلور“ (F) في سعادة وتناغم لم أعهدهما من قبل، أراها تقف بجواره مقدمة للعالم ذلك المركب الفريد الجديد على أعينه.. فلوريد الهيدروجين (HF).

الحب في زمن الكيمياء

أراها تقف بجواره في تكافؤ لا يستهلكها، وإنما يضيف لها وتضيف له، وأرى الفلور بجوارها لم يطلب منها أكثر من ذلك، لم يرد منها غير أن تكون بجواره وكل ما فوق ذلك سيكون من صنعة الحب والاتزان والاستقرار.. كل ما فوق ذلك سيكون وليدا للتفاعل لا مؤثرا خارجيا من صاحب التفاعل على سهم المعادلة ليسرع منه. والذي سرعان ما سيفتقده طرفا المعادلة بعد السهم!

متسائلين في حيرة لما قبلا بتلك المعادلة من الاساس، وكيف انتهوا إلى هذه النتيجة! ناظرين للطرف الاول من المعادلة قبل سهم التفاعل .. ”طرف المتفاعلات“ بحسرة!

وهل يمكن أن يرجع سهم التفاعل من النتيجة للمتفاعلات! لا أظن ذلك.. فسهم المعادلة له رأسٌ واحد واتجاه واحد لا أظنه يرجعه!

أو ربما لو رجعه في تلك المرة فإن ذلك سيتطلب جزءاً مدفوعاً من طاقتيهما لاتمام التفاعل المعاكس، ربما الجزء المدفوع هنا يكون عميقاً وثميناً ليس بالامر اليسير اتخاذ قرار بشأنه!

في آخر مرة إلتقيت ذرات الفلور والهيدروجين سوياً كنت سعيدة بأن أخبرهما بأن مركبهما (فلوريد الهيدروجين) كان الأكثر قيمة للبشرية الآن لو يعلمون!

قد كانوا سوياً حجر الاساس في المركبات الدوائية، شيئا ما نتكىء عليه اذا ما تداعت أرواحنا الهلاك. وأساس الصناعات البتروكيماوية القائم عليها الازدهار الاقتصادي والصناعي في يومنا هذا.

أو تعلم.. قد قدموا ما هو أعظم من تلك الصناعة البتروكيماوية، تلك المبلمرات المسماه ”بالتيفلون“! نعم نعم.. قد جنبتنا كثيرا من حرج إلتصاق الطعام او احتراقه، إذا ما دعونا بقية أعضاء الجدول الدوري للعشاء!

– ألازلت ترى كيوبيد وسهمه رمزا للحب! ماذا عن ماري كوري واشعاعاتها؟ هي أكثر شاعرية على الأقل من السهم! ناهيك عن أن الإشعاع أكثر سرعه وعصرية!

– بالطبع ستتلاشي من أذهاننا الآن صورة ذلك القلب الأحمر المجروح بالسهم، ونستبدلها بقلب آخر يتعرض لاشعاع ذري إذا ما عبرنا عن الحب!

– صدّقني.. يا ويلتاه من تلكم الشاعرية!

ربما H2O مركب ذو قيمة عظمى بالفعل، وذو معادلات مضمونة بلا قلق، وذو نتائج مرغوبة وبشدة، ولكن هل يعارض هذا محاولتنا الناضجة والتي ربما نرى في نتائجها قيمة أعظم من نتائج معادلاتهم الاولى؟ فلربما تجد في نفسك أنك تملك تكافؤاً مختلفاً عن ذرات الهيدروجين المماثلة.. ربما!

أو ربما كتبت نفس المعادلة الاولى، ولكن الفرق انك كتبتها!

في النهاية..

كل مركبات الهيدروجين ذات قيمة بالطبع! ولكن أي هذه المركبات قد خوّل الهيدروجين قيمته الأعظم؟ أيهم كانت مداراته الأكثر رحابة وجاذبية لترتمي إليها ذرات الهيدروجين بعد عناء التفاعلات المضني؟! وكانت مداراته الأكثر صلابة إذا ما اتكأت عليها وتسنّدتها بعد كل سقوط؟.. وبكل صلابتها تلك فهي الأكثر طواعية لاحتواء اختلاف تكافؤاتها بعد كل تفاعل!

أيهم مكّن الهيدروجين تفاعلاته العظمى دونما خشية جرح من سهم التفاعل؟

أيهم كان قاعدياً في حامضية الحياة.. وأيهم كان بردا لما احترّ التفاعل؟

أيهم تختار ذرات الهيدروجين أن تُحرق لتصعد غازاً يذوب في سمائه.. أو تموت اختزالاً لشيءٍ من أحزانه؟

ذرات الهيدروجين وحدها من تقرر..

مقالات إعلانية