in

ما بعد البوركيني، ما تحت البوركيني

امرأة مسلمة تتناول المثلجات

بعد إرغام محجّبة على نزع البوركيني على أحد الشواطئ الفرنسيّة، انقسمت الآراء وتخبّط النّاس في الغرب وفي الشرق. هذا ما يحدث عادةً، عندما تتعلّق القضيّة بجسد امرأة، تقوم الدّنيا ولا تقعد.

المواقف التي انهمرت على الشبكة كانت كثيرة، والادّعاءات تنوّعت، وحتّى تناقضت. للإلمام بجميع الناظرين إلى إشكاليّة البوركيني، بالإمكان تقسيم المواقف إلى فئات ومجموعات:

فئة العالم الأوروبي، (أو الشرقي العلماني) تشمل مجموعتين ”مع وضدّ منع البوركيني“:

1. تعترض المجموعة الأولى على منع البوركيني باعتباره يدخل ضمن الحرّيّات الشخصيّة، لذا لا يُعقل منعه أو فرضه، فكلّ امرأة مسؤولة عن جسدها، تُلبسه ما تشاء ولا تُلبسه ما لا تشاء.

2. أمّا المجموعة الثانية فتؤيّد قانون منع البوركيني لأنّها تعتبره أحد أبرز رموز قمع جسد المرأة. هذه المجموعة تخشى أن تُعيد ظاهرة البوركيني أوروبا العلمانيّة المتحرّرة إلى العصور المظلمة.

فئة العالم الإسلامي، (أو الغربي المسلم)، تشمل مجموعتين مع ادعاءات مختلفة:

3. المجموعة الثالثة تستنكر قانون منع البوركيني وترى فيه تمييزًا طائفيًا عنصريًا ضدّ المسلمين حصرًا. يرى هؤلاء أنّ هذا القانون يشرّع الإسلاموفوبيا ويرسّخها، ويقوّي الربط ”المغلوط“ بين الدين الإسلامي وبين عمليّات الإرهابيّين التي كثرت مؤخرًا.

4. أمّا المجموعة الرّابعة فتُشيد بقانون منع البوركيني، لأنّها تعتبره لباسًا غير محتشم أصلًا، ويجب تحريمه لكونه ”بدعة“، ولأنّه يخالف تعاليم الشّرع.

من الجدير بالذكر أنّ هناك مجموعة خامسة، برزت في العالم الإسلامي، حاولتْ إيجاد حلّ وسط:

5. وهي مجموعة محايدة نوعًا ما، تسير بحسب المثل الشعبي القائل ”كل واحد على دينه الله يعينه“، وترى أنّ من حق الدول الأوروبية فرض القوانين التي تراها صحيحة داخل حدودها الرّسمية. بناءً على ذلك، من لا يعجبه نمط الحياة في هذه الدّول، عليه أن يتركها لأصحابها وأن ”يعود“ إلى العيش في كنف دول إسلاميّة تتناسب مع معتقداته، لأنّ الدّول غير الإسلاميّة ليست مجبرة على ”تحمّل“ دين الإسلام.

وجب التنويه أنّ هذه التقسيمات ليست قطعيّة، ليست ”أبيض وأسود“، وهي لا تغطّي حصرًا مواقف الرّجال، وإن بدا الحال كذلك، بل تشمل مواقف نساء من مختلف الأطياف.

* * *

البوركيني، لباس السّباحة الشرعي، أو ”مايوه المحجّبات“، كما قد يسمّيه الشارع العربي، ليس هو المسألة بالطّبع، بل ما ينبض تحته: هذا الجسد الذي حيّر الإنسان–الرّجل منذ أزمان، بمفاتنه، بخصوبته، بدمائه الشهريّة، بحليبه، وبعطائه الذي لا يستثني لا رضيع ولا عشيق.

صورة لـ Fadel Senna
صورة لـ Fadel Senna

في حضارات الإنسان القديم، حين تخيّل الإنسان أنّ الآلهة تسكن في أشكال الطّبيعة المحسوسة، كان الجسد مقدّسًا وساحرًا وجميلًا، لكونه امتدادًا للأرض–الأمّ، التي نولد ونحيا عليها، ونأكل ونشرب منها، ونموت ونتحلّل فيها. لكن، بعدما تبدّلت الحضارات، تغيّرت الآلهة في مخيّلة الإنسان، وحلّت ديانات حديثة، يقودها أنبياء كلّهم من الرجال، صاروا هم همزة الوصل بين البشر وبين الإله الواحد والوحيد، الذكر، الذي لا يراه ولا يسمعه ولا يلمسه أحد.

في ظلّ ديانات إبراهيم، وجميع من تلاه من أنبياء وصولًا إلى محمّد، تحوّلت الأرض التي نحيا عليها إلى مجرّد ”دنيا فانية“، أو محطّة مؤقّتة نمرّ بها بهدف أن يختبر الله عفّةَ روحنا. عندما صار الله في مخيّلتنا بعيدًا غير محسوس ولا يمتّ لعالمنا المادّي بصلة، صار الجسد عبئًا ثقيلًا على الإنسان الذي يحلم بالجنّة. هكذا (باختصار شديد) تغيّرت رؤيتنا لأجسادنا، بدءًا من تقديسها وربطها بخصوبة الأرض، وانتهاءً بتدنيسها وربطها بالخطيئة الأبديّة.

جسد المرأة

حكاية الجسد لا تبدأ عند البوركيني، ولا تنتهي عند الجسد المستتر تحته. حكاية الجسد في تاريخنا معقّدة كثيرًا ومخيفة أحيانًا، وفلسفيّة وذات جذور روحانيّة موغلة في القدم، وتحتاج إلى نفس طويل. ليس من السّهل استيعاب حقيقة مراحل تطوّر (أو تدهور) مفهومنا عن الجسد. وما زال العالم (كلّه) حتّى اليوم في حالة تخبّط.

* * *

أمّا بخصوص المجموعات الخمس:

صورة لـ ROBERT F. BUKATY
صورة لـ ROBERT F. BUKATY

1. الأوروبي (أو الشرقي العلماني) الذي يدافع عن الحرّيات الشخصيّة ويدعم البوركيني ويحترم دين المسلمين مهما بلغ تطرّف إيمانهم، عليه أن يتذكّر أنّ الديمقراطيّة مع أصحاب الفكر القمعيّ، قد تجلب خرابًا عظيمًا. ففي نهاية المطاف، البوركيني جاء ليُخفي جسد المرأة لأنّه عورة. الديمقراطيّ الذكي لا يترك فكرة كهذه تمرّ مرور الكرام. ”الديمقراطيّة بالعقل“.

2. الأوروبي (أو الشرقي العلماني) الذي يخشى تهديد البوركيني للقيم الليبراليّة المتحرّرة، ولذلك يدعم قيام رجال الشرطة بنزع قطع ثياب عن أجساد نساء على شواطئ عامّة ”قسرًا“، عليه أن يتذكّر أنّ تحرير المرأة لا يمكن له أن يتحقّق غصبًا عن المرأة ذاتها. ”حرية وبالقوّة؟! مش زابطة“.

3. المسلم (الشرقي والغربي) الذي يطالب أوروبا بتقبّل البوركيني، ويعتبر أنّ أي عمل إرهابي هو بالضّرورة لا يمثّل الإسلام، عليه أن يتذكّر فتوحات (بالأحرى احتلالات) المسلمين، والسيرة النبوية الحافلة بالدماء وبتعدّد الزوجات (والطفلات منهنّ)، وحروب الرّدة، وجزية أهل الذمّة، وما شابه. في الدين الإسلامي كما في كلّ أديان إبراهيم، توجد قيم كثيرة أساسيّة وجوهريّة تدعو إلى نبذ الآخر وتكفيره، وحتّى قتله أحيانًا. ”كمان الإيمان بالعقل“. المؤمن الصّالح هو المؤمن ”الانتقائيّ“، الذي ينتقي من دينه فقط القيم التي تحثّه على احترام نفسه واحترام محيطه.

4. المسلم الذي يؤمن أنّ جسد المرأة عورة، والذي يُعجبه قانون منع البوركيني في أوروبا، ويعتبر لباس البحر هذا بِدعة ومخالَفة لشرع الإسلام، عليه أن يتذكّر أن جسد المرأة سيبقى هو الجسد المعطاء دائمًا، الذي يحمل أمثاله ويلدهم ويرضعهم ويكبّرهم، ويحتمل انغلاقهم وإهاناتهم، حتّى انقراض البشريّة. ”لا قانون يعلو فوق قانون الطّبيعة“.

5. المسلم (أو الأوروبي) ”الرايق“ الذي لا يؤيّد البوركيني ولا يعترض عليه، ويرى أنّ حلّ الإشكاليّة الأمثل يتحقّق بمغادرة المسلمين للدول المانعة للبوركيني، و”عودتهم“ إلى دول حكوماتها إسلاميّة للاستجمام على شواطئ البحر بلا وجع رأس، عليه أن يتذكّر أنّ المسلمين ليسوا كلّهم مهاجرين من قرية صغيرة في الشرق، وأنّ ملايين منهم مواطنون أوروبّيون ولدوا في دول أوروبا ولا يعرفون وطنًا آخر. لذلك، ليس هناك من حلّ لإشكاليّة البوركيني (والحجاب عمومًا) إلّا بعودة الحكومات الأوروبيّة إلى احترام أجساد جميع مواطنيها، من جديد. ففي نهاية المطاف، دول متقدّمة كهذه لن تعجز عن إيجاد حلول حقيقيّة، إن أرادت. مثلًا: يمكنها بدل ”تشليح النّسوان“ في الأماكن العامّة، أن تنشر مفاهيم ”إيجابيّة“ عن الجسد، في مؤسّساتها التربويّة والاجتماعيّة. لأنّ التّغيير الحقيقي يبدأ من الجذور، أمّا سنّ قوانين فجائيّة وتطبيقها بقوّة الشّرطة، فهو عمل عنيف ومتطرّف، لن يستجلب إلّا ردّة فعل عنيفة ومتطرّفة.

مقالات إعلانية