in

لماذا أعتقد أن سوق العملات الرقمية المشفرة سينهار لا محالة؟

انهيار البيتكوين

منذ حوالي أربعة سنوات من الآن سمعت للمرة الأولى عن عملة رقمية تحصل على الكثير من ضجة إعلامية في الأوساط التقنية على الأقل، تلك كانت أول مرة أسمع بها عن عملة Bitcoin الرقمية التي تعتمد على التشفير لحماية تعاملاتها وعلى شبكة لا مركزية للتعاملات، مع كون قيمتها بالكامل مبنية على العرض والطلب.

في تلك الفترة كانت العملة تتسبب بالضجة بسبب ارتفاع قيمتها بشكل اعتبر جنونياً حينها حيث وصلت قيمتها حتى 1000 دولار أمريكي مقابل Bitcoin واحد، لكن سرعان ما تحطمت أسعارها إلى أقل من ربع السعر ذاك واستمرت بشكل مستقر نسبياً حتى العام الماضي.

في تلك الفترة لفتت نظري العملة بسبب مبدأ التعامل بها واعتمادها الكامل على العرض والطلب دون أي أصول في العالم الواقعي، ووجدت نفسي أقضي ساعات أبحث عن كل ما يخصها من تفاصيل مبدأ عملها لطريقة التعامل بها والآراء حولها من قبل الاقتصاديين حول العالم، وفي ذلك الوقت كانت الفكرة جذابة للغاية ومثيرة للفضول وحتى محفزة على الظن بأن هذا النوع من التعاملات سيكون هو المهيمن على التعاملات المالية مستقبلياً.

لكن ما حدث في العام الأخير في الواقع غير رأيي في الأمر إلى حد بعيد، وما كنت أراه كمستقبل الاقتصاد العالمي بت أخشى انه قد يكون أكبر أزمة اقتصادية في التاريخ البشري قريباً.

ما الفرق بين العملات الرقمية والحقيقية

العملات الرقمية
العملات الرقمية تشابه الحقيقية من ناحية التأثر بالعرض والطلب، لكن بينما تنمو قوة العملات الحقيقية حسب قوة الحكومة المصدرة لها ومدى الااستقرار الاقتصادي، فالعملات الرقمية لا تمتلك أي أساس سوى عرض وطلب.

بالطبع فلا مجال لشرح تفصيلي للعملات الرقمية وطريقة عملها في هذا المقال، فشرحها يتطلب صفحات وصفحات من الكتابة دون الإلمام بكامل الجوان حتى، لكن هنا سأحاول تقديم لمحة سريعة عن ماهية هذه العملات وطريقة عملها وبماذا تختلف عن العملات التقليدية التي نستخدمها في حياتنا اليومية.

البداية هي التوضيح أن كون هذه العملات رقمية يعني أنه لا يوجد أي إصدار مادي لها، هي بالكامل عبارة عن معلومات مخزنة على مخدمات فقط ولا يوجد أي قطع معدنية أو أوراق نقدية لها، فالتعامل معها يتم بشكل حصري عبر الإنترنت.

تعتمد العملات المعتادة على عدة أمور لتعطيها قيمتها الواقعية، فمن حيث المبدأ ورقة 100 دولار لا تساوي شيئاً دون ما يدعم قيمتها، الورقة بحد ذاتها دون قيمة لكنها تأتي كوسيط عن التعامل المباشر بأشياء لها قيمة.

في الماضي كان الذهب والفضة والمعادن النبيلة والأحجار الكريمة هي أساس قيمة العملات، إما بكون العملات مصنوعة منها أصلاً، أو بكون العملات تنوب عن هذه الثروات المخزنة لدى من يصد العملة، لكن مع الزمن كان من الواضح أن استخدام الذهب وغيره فقط كأساس للتعامل أمر غير عملي، وتم الانتقال إلى نظام أكثر تعقيداً يعتمد على الوعد الحكومي بالدرجة الأولى.

مثلاً الدولارات تعتمد بقيمتها على وعد الحكومة الأمريكية بأنها تساوي شيئاً، وعد الحكومة يعتمد على مدى نفوذ الحكومة وتأثيرها والصناعات والخدمات المنتجة تحت غطائها بالإضافة للاستقرار السياسي لها، لذا فالتغييرات السياسية تأثر بشكل كبير على العملات ومنها مثلاً الجنيه الإسترليني الذي خسر جزءاً كبيراً من قيمته نتيجة انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، مما قلل من قيمة الوعد الحكومي البريطاني كون اقتصاد البلاد ككل تعرض لضربة كبيرة من كون طرق تعاملاته مع أوروبا ستصبح أصعب.

بالإضافة للوعد الحكومي، يلعب العرض والطلب دوراً كبيراً في التأثير على قيمة العملة، فكلما كانت مطلوبة أكثر ارتفعت قيمتها وكلما ازداد العرض مقابل الطلب انخفضت قيمتها.

هنا يظهر الاختلاف الأهم ربما بين العملات الحقيقية والعملات الرقمية: العملات الرقمية لا تمتلك أي جهات ناظمة أو حكومات أو اقتصادات تدعمها وتعطي وعدها بقيمة لها، بل تعتمد بشكل كلي تماماً على العرض والطلب فقط، كلما كانت مطلوبة أكثر ترتفع قيمتها، وكلما انخفض الطلب وازداد العرض تنخفض قيمتها.

غياب الدعم الحكومي عن هذه العملات يعني أنها عرضة لتأرجح قيمتها إلى حد بعيد، ونظرة سريعة على تغير قيمها المستمر ومقارنته بالتغيرات على قيم العملات الأخرى يظهر ذلك بوضوح.

كيف تعمل العملات الرقمية؟

تقنية Blockchain
توفر تقنية Blockchain التي تقوم عليها العملات الرقمية مستوى أمان كبيراً جداً يمنع تزوير عملات جديدة، ومع أن هذا النظام يمتلك فواد كبرى في الكثير من الحالات فهو لا يخلو من المشاكل.

يقوم مبدأ عمل العملات الرقمية بشكل أساسي على وجود ما يعرف باسم Blockchain والذي هو سلسلة من المخدمات والحواسيب تعمل على تأكيد عمليات التحويل بين الأشخاص بناءً على برمجية خاصة وقاعدة بيانات تضم كل عمليات التحويل التي تمت في تاريخ العملة، قاعدة البيانات الحالية يبلغ حجمها حوالي 80GB من البيانات، وهي في تضخم مستمر مع كون كل عملية تحويل جديدة يتم التأكد منها يجب أن تضاف إليها ويتم توزيعها على جميع النسخ الموجودة.

يرتكز مبدأ عمل العملات الإلكترونية بأساسه على التشفير، لذا فهي تسمى عملات مشفرة Cryptocurrency في الكثير من الحالات، ومؤخراً بات هذا الاسم هو الأوسع انتشاراً عند الحديث عنها.

يتم الأمر باستخدام مفتاحين مختلفين يرسلان عند كل عملية تحويل، المفتاح الأول هو ما يعرف بالمفتاح العام Public Key يتكون من رقم طويل جداً هو نتيجة ضرب عددين فرديين ببعضهما البعض، هذا المفتاح قابل للحل من قبل الحواسيب بتجربة الأعداد الفردية حتى الوصول إلى العددين الذين ينتجانه، ومن يقوم بحساب العددين أولاً يفوز بفرصة القيام بالعملية وإضافتها إلى قاعدة البيانات وتوزيعها.

المفتاح الآخر هو المفتاح الخاص Private Key، وهو كذلك رقم كبير جداً ناتج عن ضرب عددين فرديين ببعضهما البعض، لكن ما يميزه عن المفتاح العام هو كونه أطول بكثير بحيث أن عملية حله أمر صعب جداً وأقرب للاستحالة بالتقنيات الحالية، نظراً للعدد الهائل من العمليات المطلوبة.

كل عملية تتم بين طرفين على شبكة العملات الرقمية تخضع للتدقيق من قبل أجزاء أخرى من الشبكة للتأكد من كونها صحيحة تماماً قبل توزيعها للشبكة وحفظها في قاعدة البيانات واعتبارها فاعلة في الواقع، هذا الأمر يجعل التعاملات باستخدام العملات الرقمية تمتلك عدة مميزات تفرقها عن التعاملات العادية، فهي تحتاج لحوالي 10 دقائق قبل أن تتم بشكل كامل، والأهم أنها غير قابلة للاسترداد أبداً، فالأمر هنا ليس كما في التعاملات البنكية أو حتى تعاملات البنوك الإلكترونية مثل PayPal، فما يذهب لا يعود أبداً.

كيف انتشرت العملات الرقمية؟

ايقونات مواقع التواصل الاجتماعي
لعب الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي دوراً أساسياً لا يمكن تجاهله في انتشار العملات الرقمية وتضخم أسعارها الأخير.

كما ذكرت في الفقرة السابقة فالعملات الرقمية لا تستند لأي شيء لإعطائها القيمة بل أنها قائمة بالكامل على العرض والطلب، هذا الأمر يعني بالطبع أنها في البداية ستمتلك قيمة شبه معدومة، وهذا الأمر واقعي بالنسبة لبداية انتشار عملة Bitcoin وغيرها، وهو حال العديد من العملات الرقمية البديلة حتى اليوم.

في الواقع، واحدة من القصص الشهيرة عن الحظ العاثر كانت قصة شاب يسمى James Howell، الذي كان يمتلك حوالي 7500 عملة Bitcoin عام 2009 كنوع من التسلية، لكنه رمى حاسوبه القديم وحساباته عليه لكونها لم تكن تساوي سوى بضعة سنتات حينها، ليعود بعد سنوات ويعض أصابعه ندماً على ما بات يساوي ملايين الدولارات.

دائما ما تكون بداية العملات الرقمية بطيئة إلى حد بعيد، وتحتاج لبعض الوقت ليكتشفها أشخاص يغامرون كفاية لشرائها، وبالنسبة للعملة الأقدم Bitcoin فقد بدأ الأمر بمجموعة من الراغبين بالقيام بتعاملات مالية سرية، وطبيعة العملة وآلية عملها كانت مثالية لهذا الأمر وفتحت الباب لتجارات لم تكن متاحة سابقاً، فموقع ”طريق الحرير“ (Silk Road) الذي ظهر على الشبكة المظلمة (Dark Web) عام 2011 اعتمد عملة Bitcoin كأساس آمن للتعامل التجاري بالممنوعات كالمخدرات وغيرها على الموقع، وبالنتيجة ساهم إلى حد بعيد بزيادة الإقبال عليها وبالتالي زيادة شعبيتها (بسبب ازدياد الطلب مع ثبات العرض نسبياً).

مع الوقت باتت العملة تحقق ضجة وعمل الأمر بشكل متبادل، فازدياد الضجة حولها يعني مستخدمين جددا وطلباً أكبر ما سيتسبب بارتفاع السعر وبالنتيجة المزيد من الضجة حولها كونها تبدو كاستثمار رابح للمال، وبالنتيجة مستخدمون أكثر وهكذا تتكرر الدورة التي تعني أن كل ازدياد في السعر سيؤدي إلى ازدياد آخر في السعر (على المدى القريب على الأقل).

بالطبع فالأمر ليس دائماً هكذا، فهناك أمور تؤثر بقوة مثل تحطم الأسعار الذي حصل عام 2013 عندما صدرت شائعات عن حظر الحكومة الصينية للتعامل باستخدام Bitcoin (شائعات ظهر أنها كاذبة لاحقة، وتبين أن الأمر كان مجرد تنويه تجاه الأمر، فالعملة قانونية في الصين حتى لحظة كتابة هذه السطور على الأقل).

أين تكمن الخطورة الخاصة بالعملات الرقمية

الصراط المستقيم
أنظمة العملات الرقمية في حالة استقرار مؤقت حالياً، فمع أنها عادت للتوازن مجدداً، فدفعة قوية كفاية لها قادرة على إسقاطها بشكل شبه كامل.

المشكلة الأساسية للعملات الرقمية هي كونها متقلبة للغاية وغير مستقرة عموماً، فهي بذلك تعد مخاطرة كبيرة للاستثمار، فمع أن القيم حالياً في ارتفاع مضطرد ومتسارع؛ فالأمر ليس مضموناً حقاً ومن الممكن أن تعود الأسعار لانخفاض سريع جداً في أي وقت، ومع أن الانخفاضات الأخيرة كانت تتعافى خلال أسابيع فقط، ففي السابق شهدت العملة انخفاضات كبيرة دامت لوقت طويل، فما حدث عام 2013 مثلاً كان ارتفاعاً سريعاً لأسعار العملة ومن ثم تحطمها بشكل أسرع مع كونها لم تستعد قيمتها تلك حتى عام 2017 الماضي.

لكن انعدام استقرار العملة هو أشبه بعرض لما تعاني منه هذه العملات من حيث المبدأ كمشاكل أعمق بكثير من ذلك، هذه المشاكل تجعلها من وجهة نظري الشخصية (ومن وجهة نظر العديد من الخبراء الاقتصاديين) خطراً حقيقياً على الاقتصاد في الوقت الحالي والمستقبل، والمشكلة تأتي مقسمة إلى عدة أجزاء برأيي:

1. مشكلة الاستثمار التصاعدي وحد الاستثمار:

قيمة سوق العملات الرقمية
باتت قيمة سوق العملات الرقمية تقارب نصف ترليون دولار اليوم، ومع هكذا نمو تصاعدي فالأمر غير قابل للاستمرار بالارتفاع لوقت طويل وسيتحول الطريق للأسفل عاجلاً أم آحلاً.

خلال العام الماضي، كانت العملات الرقمية ككل تلاقي واحدة من أكبر موجات الارتفاع في تاريخها، وبالطبع فالأمر هنا يأتي نتيجة ازدياد كبير في الطلب عليها لرغبة الكثيرين بالاستثمار وتحقيق أرباح طائلة موعودة، لكن الأمر كما ذكرنا سابقاً مقاد حالياً بدورة من ارتفاع السعر التي ترفع الشعبية والتي تعود لترفع السعر بدورها وهكذا، وفي الواقع؛ فالمستقبل القريب جداً من الممكن أن يحمل ارتفاعات أكبر ومتصاعدة أكثر للعملات الرقمية مع كونها مرغوبة أكثر وأكثر حالياً على الأقل.

المشكلة في الأمر هنا هي أن هذا التزايد في الاستثمار لن يستمر للأبد، ففي وقت ما ربما قريب أو بعيد ستصل العملات الرقمية إلى حد استثماري وهذا أمر محتوم، فإما أن عدد الأشخاص المهتمين بالعملات الرقمية سيكون قد استثمر بالكامل والبقية لا يرغبون بذلك مما يؤدي إلى توقف الطلب، وحتى في حال كان الجميع يرغب بالاستثمار في العملات الرقمية، ففي وقت ما سيكون كل من يريد الشراء قد اشترى وبالتالي لن يتواجد طلب جديد وستستقر أسعار العملة لمدة وجيزة.

المشكلة هنا لن تكون حقيقية لو كان من يشتري العملة حالياً يريد استخدامها للتجارة مثلاً، أي يريدها كوسيط مالي، لكن الغالبية العظمى من مالكي عملات Bitcoin حالياً لا يهتمون لاستخدامها كوسيط تجاري حتى، فهي غير مدعومة كفاية ليتم استخدامها لتلك الغايات، بل الغالبية العظمى تريدها للاستثمار وتحقيق الربح السريع والكبير.

لكن ماذا يحدث عندما تستقر أسعار شيء يريد المستثمرون الاستفادة منه؟ ببساطة يبدؤون بالبيع مما سيتسبب بزيادة العرض، وانخفاض السعر وإخافة الكثير من المستثمرين الآخرين الذين سيبدؤون بالبيع أيضاً مسرعين من وتيرة الأمر ومخفضين الأسعار أكثر بشكل سريع جداً سيحطم استثمارات الغالبية العظمى من الأشخاص.

هذا السيناريو ليس احتمالاً في الواقع، بل أنه أمر محتوم وقادم لا محالة، فكما قلت وسأكرر: لو أن العملة تستخدم للتعاملات التجارية والحوالات مثلاً أو للتسوق فالأمور لن تكون مشكلة حقاً، فعندها سيكون استقرار السعر أمراً إيجابياً لا سلبياً، لكن عندما تكون الفئة الأكبر هي مستثمرين راغبين بالربح من المضاربة، فالأمر كارثة بانتظار أن تحصل دون شك، وعندما تحدث هذه المرة من الممكن أن تقتل العملات الرقمية بشكل شبه تام، فتحطم الأسعار عام 2013 مثلاً كان من سعر أدنى ومع عدة عملات كلية أقل بكثير من الآن ومع ذلك فقد ذهب الاهتمام من العملة لسنوات بعدها.

2. التقلبات الكبيرة وسيناريوهات الانهيار حصلت وتحصل:

الانهيارات التي شهدتها عملة البيتكوين
حتى الآن لا تزال انهيارات عملة Bitcoin والعملات الرقمية الأخرى غير مؤذية على نطاق واسع سوى لمن يستثمر بها، لكن عندما يصل الأمر إلى الشركات والبنوك فالانهيارات ستتسبب بكوارث اقتصادية عندها.

حصل أول انهيار مهم في أسعار العملات الرقمية عام 2013، وحينها كانت عملة Bitcoin تغرد وحيدة مع كون العملات الرقمية الأخرى إما لا تزال صغيرة جداً أو أنها لم تكن قد ظهرت أصلاً بعد.

كان ذاك الانهيار نتيجة طبيعية لفقاعة مالية بدأت مع ازدياد انتشار وشهرة العملة بين أوساط المهتمين بالتقنية وبالأخص الألعاب، وعدم انتشار شعبيتها بين الأشخاص الآخرين، فحينها فقدت العملة حوالي 80 من قيمتها خلال أيام، وعادت لتستقر على أسعار أدنى بكثير من السابق.

عبر السنوات التالية عادت العملة للارتفاع مجدداً وبشكل تدريجي حتى عام 2017 الماضي، وخلال هذا العام حصلت أكبر فقاعة مالية في تاريخ العملات الرقمية، فأسعار Bitcoin وغيرها من العملات الرقمية ارتفعت بشكل جنوني لتصل Bitcoin من سعر أقل من 1000 دولار أمريكي إلى قرابة 20,000 (عشرون ألف) دولار أمريكي مع انتهاء العام، وهذا أعلى سعر وصلت له هذه العملة أو سواها من العملات الرقمية.

خلال فترة التصاعد الأخيرة للعملات الرقمية بدا الأمر وكأنه مسار مستمر لا شك في استمراره، والسبب الأساسي بالطبع هو دورة التغذية المستمرة من الاهتمام الإعلامي المتبوع بطلب أكبر وأسعار أعلى متبوع باهتمام إعلامي متجدد، لكن على عكس ظنون مستثمري العملات الرقمية فقد تلقى السوق ضربة كبرى بعدها أدت إلى سلسة من الانهيارات المتتالية بعد أنباء عن تشريعات تحد من التعامل بالعملات الرقمية، ومع أن السعر عاد ليستقر الآن أعلى من 10000 (عشرة آلاف) دولار أمريكي، فهو أدنى بكثير من الحد الأعلى الذي وصلت له العملة والعملات الأخرى.

هذان الانهياران الكبيران هما الأهم في تاريخ العملات الرقمية، لكنهما بالتأكيد لن يكونا الوحيدين، وعلى الأرجح أن السوق سيعود لتصحيح نفسه مستقبلاً وستشهد العملات الرقمية انخفاضات حادة تعيدها إلى كونها وسيط تبادل مالي رخيصاً بدلاً من حالتها اليوم كجاذب استثماري كبير.

3. التشابه المريب مع مخطط بونزي ومخططات التسويق الهرمي:

من حيث البنية لا يوجد تشابه بين العملات الرقمية وخدعة المخطط الهرمي، لكن هناك عامل مشترك أساسي هو كون الأرباح الآتية للمستثمري القدامى تأتي من استثمارات الالمستثمرين الجدد.

في حال لم تكن تعرف الكثير عن أي من مخطط بونزي أو التسويق الهرمي، (يمكنك معرفة المزيد عن مخطط بونزي من مقال سابق هنا، كما يمكنك معرفة المزيد عن مخطط التسويق الهرمي من المقال هنا) أو يمكنك قراءة الشرح المختصر التالي: ببساطة مخطط بونزي هو خدعة تعتمد على وعد الناس بالكثير من الأرباح لقاء استثماراتهم الأولية، لكن المال الآتي كأرباح لا يأتي من استثمار حقيقي منتج، بل من استثمارات الأشخاص الآخرين الذين تم جذبهم نتيجة الأرباح التي حققها سابقوهم، وبالطبع مع الوقت سيصل الأمر إلى انهيار تام للمنظومة وسيكون معظم المشاركين قد خسروا أموالاً طائلة نتيجة الأمر.

يتم التسويق الهرمي بشكل مختلف ظاهرياً لكن مطابق مضموناً ببيع سلعة رمزية كساعة رخيصة مقابل مبلغ أكبر بكثير من سعرها، مع تحقيق عمولة لقاء شراء أحد للسلعة عن طريقك أو عن طريق من اشترى منك وهكذا، هذه الخدعة الشهيرة وواسعة الانتشار دائماً ما تكون محدودة؛ إما بعدد محدد لا يمكنها تجاوزه فإلا ستتجاوز العمولات السعر وسينهار المخطط، أو بسبب تمددها السريع الذي يتسبب باشتراك كل من يمكن أن يشترك بها خلال وقت قصير نسبياً، وانعدام إمكانية تحقيق أي أرباح جديدة بسبب كون السوق قد بات مركزاً تماماً ولا يوجد طلب إضافي.

تتشابه الخدعتان السابقتان بمبدأ أساسي ومهم جداً: أرباح المستثمرين الأوليين تدفع من الاستثمارات الجديدة للمستثمرين الجدد.

في الواقع، الحال في سوق لعملات الرقمية مطابق تماماً لهذا الامر، وأرباح من اشتروا العملات وهي رخيصة وباعوها وهي باهظة يأتي من الاستثمارات الجديدة للأشخاص الذين أغراهم النمو السريع والأرباح الكبيرة للأمر.

وكما الحالتان السابقتان، سيصبح السوق خلال وقت ما مركزاً تماماً وكل من أراد الشراء سيكون قد اشترى أصلاً، وهنا سيبدأ الانحدار الذي لا مفر منه وسيلاقي المستثمرون أنفسهم إما يخسرون جزءاً كبيراً من استثمارهم الأولي، أو يخسرون كل ما استثمروه تقريباً.

نموذج العمل الخاص بمخطط بونزي والتسويق الهرمي وحالياً العملات الرقمية هو ما يسمى بـ”نموذج عمل غير قابل على الاستمرار“، نموذج العمل هذا من غير الممكن أن يستمر للأبد ويمتلك حدوداً لا يمكنه تجاوزها، وفي الواقع كلما ازداد الإقبال عليه كلما أصبح يتسارع أكثر وأكثر باتجاه نهايته المحتومة التي لا مفر منها.

المشكلة هي أن النهاية لا تكون منظورة خلال وقت عمل المخطط غالباً، فالحد موجود حتماً لكن من غير المعروف أين مكانه بالضبط، لذا فالانهيار الحتمي ربما يكون غداً أو العام المقبل أو بعد 10 سنوات حتى، ولا يوجد طريقة مؤكدة لمعرفته بدقة، لكن من المؤكد أنه قادم لا محالة.

4. تشابه الأمر مع ”الفقاعات المالية“ التي تتسبب بأزمات اقتصادية:

شارت شركة مايكروسوفت
عام 2000 حدثت فقاعة Dot Com الشهيرة وحطمت القطاع التقني إلى حد بعيد، فشركة Microsoft مثلاً لم تتعافى من أضرار الفقاعة حتى عام 2017 الماضي على الرغم من أنها شركة تضم منتجات مطلوبة جداً، على عكس سوق العملات الرقمية غير المنتج أصلاً.

هنا الأمر قد يكون غريباً وخارج اهتمام العديد من الأشخاص لكنني أحتاج لذكره لتأييد وجهة نظري حيال الأمر، لذا سأحاول شرح مثالين عن الأمر لفهم مبدأ الفقاعة المالية (يمكن تسميتها فقاعة اقتصادية أو فقاعة استثمارية أيضاً).

المثال الأول هو الأزمة الاقتصادية العالمية التي هزت العالم ككل في نهاية عام 2007 وعلى مدى الأعوام التالية، تعود الأزمة للكثير من العوامل المتعددة التي تحتاج صفحات كثيرة لشرحها بشكل وافٍ، لكن العامل الأساسي لها كان فقاعة مالية نتجت عن الرهون العقارية في الولايات المتحدة، حيث بدأت البنوك الصغيرة بتقديم إمكانية الرهون العقارية للعديد من الأشخاص الجدد.

كان هؤلاء المقترضون يحصلون على قروضهم ولو كان تاريخهم الائتماني لا يدعم كونهم قادرين على دفع الأقساط مستقبلاً، أدى الأمر إلى إقبال شديد على هذه الرهونات التي كانت تجمع وتباع من البنوك الصغيرة إلى البنوك الاستثمارية الكبرى، وفي مطلع الألفية كان الأمر يبدو كفرصة ربح أكيد لكن سرعان ما بدأ الأمر يتضح بشدة: فقد بدأ عجز العديد من المشترين عن دفع رهونهم، وبالتالي فقد العديد من الأشخاص منازلهم وبدأت البنوك الاستثمارية بخسارة المال والانهيار ساحبة معها الكثير من العلاقات التجارية، ومتسببة بأزمة على نطاق عالمي لم يتم التعافي من آثارها بشكل كامل حتى الآن.

الأمر كان ربما أبسط في حالة ما يعرف بفقاعة .com التي حدثت مطلع الألفية، وكما يقترح اسمها فالأمر كان يتمحور حول الشركات المتعلقة بالإنترنت والتقنية، ففي نهاية التسعينيات كانت شبكة الإنترنت قد بدأت بتحقيق انتشار حقيقي على المستوى العالمي وبدأت الحواسيب بالتحول من مجال الكماليات إلى أجهزة واسعة الانتشار في المنازل، قاد الأمر حينها إلى موجة كبرى من الاستثمارات في مجال التقنية والإنترنت.

كانت الاستثمارات تبدو مربحة جداً، وارتفعت أسعار أسهم الشركات التقنية بشكل كبير جداً، لكن بالنسبة للتقنية حينها، لم تكن الإنترنت أو التقنية ناضجة بعد لتحمل الاستثمار الكبير الواقع على عاتقها ما تسبب بانهيار أسعار أسهمها بشكل سريع جداً أدى إلى إفلاس مئات الشركات الصغيرة ودمر شركات كبيرة بشكل شبه كامل مثل AOL، وحتى Microsoft التي كانت تعمل منذ 25 سنة تقريباً خسرت أكثر من نصف قيمتها وقتها.

تمتلك الحالتان السابقتان شيئاً مشتركاً أساسياً: استثمار كبير وسريع وغير محسوب، وتنتج الاستثمارات بهذا الشكل كوارث اقتصادية في كل مرة، والمشكلة أن الأمر بالنسبة لسوق العملات الرقمية أسوأ بكثير في الواقع، ففي كل من حالة الفقاعة العقارية أو فقاعة .com أصاب الأمر قطاعات صناعية منتجة تمتلك نموذج عمل ومنتجات وأرباحاً مستقرة عادة، بينما الأمر ليس كذلك بالنسبة للعملات الرقمية، فاعتماد الأرباح الكلي يقع على عاتق كونها تجذب المزيد من المستثمرين فقط، وفي لحظة توقف وجود مستثمرين جد ستنهار بشكل لا شك فيه.

ما هو مقدار الضرر الذي قد ينتج عن انهيار سوق العملات الرقمية؟

يعتمد الأمر على التوقيت، حالياً يقدر عدد عملات Bitcoin بحوالي 16 إلى 17 مليون عملة، ومع السعر الحالي الذي يزيد قليلاً عن 10,000 دولار، فتقريباً يمكن القول أن قيمة عملات Bitcoin قيد التداول يقارب 180 مليار دولار تقريباً، ومع كون العملات الأخرى ذات قيمة أدنى بكثير فأعدادها ليست صغيرة بالضرورة وبالأخص عملة Ripple التي يوجد منها حوالي 39 مليار عملة، بالمحصلة يقدر حجم سوق العملات الرقمية الآن بحوالي نصف ترليون دولار.

ففي حال انهار السوق في هذه اللحظات فالتأثير سيكون كبيراً بالطبع، لكنه سيكون أصغر من أن يتسبب بأزمة مالية كبرى، والسبب ببساطة هو أن معظم المستثمرين هم أفراد لا شركات كبرى، فمع أن الخسائر عملاقة فستكون موزعة على عدد كبير من الأشخاص بحيث لا تتسبب بموجة من الاضطراب الاقتصادي.

لن يدوم الوضع الحالي للعملات الرقمية بالضرورة على أي حال، فاحتمال حدوث نمو كبير إضافي لسوق العملات الرقمية وحتى دخول شركات وبنوك استثمارية لمحاولة الاستثمار وارد، ما سيغير الكثير من المعطيات (خصوصاً مع تقارير عدة عن نية بعض الشركات الدخول في المجال مؤخراً)، فالأمر سيرفع من قيمة العملات الرقمية بشكل جنوني مشابه للارتفاع الكبير الذي صاحب هذا العام، وسيؤدي إلى تداخل الاقتصاد الواقعي باقتصاد العملات الرقمية، على أي حال فالتأثير يتبع لمقدار الاستثمار الموجود قبل الانهيار، وكلما ازداد الاستثمار ستزداد قوة صدمة سقوطه لاحقاً.

في حال قامت الشركات بالاستثمار في سوق العملات الرقمية، على الأرجح أن التأثير سيكون أكبر بكثير مما قد يحدث في الوقت الحالي، فرؤوس الأموال ستكون أكبر بكثير والتأثير قد يتسبب بأزمات حقيقية مشابهة لما حصل في الفقاعات المالية السابقة، مع تأثيرات تطال مختلف جوانب الصناعات والكثير من البشر والميزانيات الحكومية، لكن ربما الأمر المطمئن نوعاً ما هو أن الشركات واعية تماماً للمشاكل بشأن العملات الرقمية، فحتى في حال دعمت التعامل بها، فالاستثمار فيها عالي الخطورة وشبهُها لمخطط بونزي والتسويق الهرمي مريب كفاية للابتعاد عنها.

هل هذا يعني أن استخدام العملات الرقمية خطير؟

الأمر يعتمد على نوع الاستخدام في الواقع، ففي حال كان الاستخدام للشراء مثلاً فالأمر آمن نسبياً لكن لفترات قصيرة جداً من الزمن، أي تحويل العملة الرقمية إلى مال حقيقي فور الانتهاء، وهنا مع كون عملية التحويل تستغرق أكثر من عشر دقائق عادة فهذه هي المدة الآمنة حقاً لاستخدام العملات الرقمية، حوّل إلى عملة رقمية وأرسلها إلى شخص ما، أو استقبل عملة رقمية وقم بتصريفها حالاً لتجنب أي خسائر محتملة للقيمة.

النوع الآخر من الاستخدام هو استخدام العملات الرقمية سواء لتخزين المال بشكل مشابه للبنك أو كاستثمار لجني المال، هنا من الواضح أن الأمان معدوم تماماً، فوفق التقلبات الشديدة الموجودة اليوم فقد تتضاعف مدخراتك مثلاً أو تنخفض قيمتها للنصف خلال أيام فقط، ومع أن ما يظهر حالياً يبدو أقرب إلى نمط تصاعدي للأسعار فالأمر غير مضمون أبداً والأسعار قد تهبط في أي وقت، وحتى بالنسبة للاستثمارات قصيرة المدى فالأمر مقلق في الواقع، فالأمر هنا أقرب للمقامرة، فعند تحقيق أرباح سترغب بأن تقامر أكثر، وعند الخسارة قد تحاول تعويضها بالانتظار حتى ارتفاع الأسعار مجدداً مثلاً.

قد يقنعك أحد أن الأمر أشبه بالمضاربة في سوق الأسهم ربما، لكن الأمر هنا مختلف نوعاً ما، فمع أن الحالتين يتضمنان ارتفاعات وهبوطات متعددة وعدم قدرة على التنبؤ بدقة بما سيحدث لاحقاً، فامتلاك أسهم لشركة تقوم بإنتاج منتجات مثلاً أمر أكثر أماناً بكثير من امتلاك عملات رقمية، فالشركات تحقق أرباحاً وتمتلك منتجات تقوم ببيعها، لذا فاحتمال انهيارها التام أمر بعيد جداً ونادر الحدوث للغاية، فالتقلبات عادة ما تكون بأجزاء مئوية وقلما يزيد مقدار التغير عن 10٪، لكن بالنسبة للعملات الرقمية فلا يوجد منتجات أبداً والمال في الواقع مجمد ولا يدخل في صناعة أو تجارة أو استثمار حقيقي، لذا فالتقلبات كبيرة جداً وبالتالي مع أنها قد تتسبب بأرباح كبرى، فهي تحمل معها خطر خسائر كبرى كذلك، ومع أن احتمال الربح يبدو أفضل من احتمال الربح في حال قامرت بمالك في لعبة Roulette مثلاً، فالأمر لا يغير كون الأمر مقامرة في الواقع.

مقالات إعلانية