in

ما حقيقة ادعاء ذكر سرعة الضوء في القرآن: اليوم الذي يساوي ألف (1000) سنة؟

إعجاز سرعة الضوء

لطالما اعتدنا على محاولات الأديان في إضفاء نوع من الموثوقية والصلة بعالم اليوم من خلال فرض نفسها بطابع علمي عقلاني، وقد أخذ الإسلام تلك المحاولات إلى مستوىً آخر كليًا؛ فما كادت تكون كلمة في القرآن إلا وقد وجد رجل دين يائس ”إعجازًا“ فيها، وقد كثرت تلك الادعاءات وانتشرت لدرجة أصمت آذاننا وما عدنا نكترث لها، وبسببه زادت تلك الظاهرة انتشارًا وأصبحت الادعاءات الإعجازية أكثر تعقيدًا وجرأةً.

وبسبب إفساح أفراد المجتمع الواعي المجال للتجارة الدينية بالعلم، أصبح هذا النوع من الدجل والكذب أكثر أنواع التبشير الإسلامي تفشيًا بين البسطاء، بل وبين الأفراد الأكثر وعيًا كذلك. ولهذا، أنشأت سلسلة خاصة على موقع «دخلك بتعرف» مصممة للرقابة على رجال الدين المسلمين في محاولاتهم المستمرة للوي الحقائق وتلفيق الأرقام وتحريف النظريات لدعم خطابهم الديني. بالإمكان مطالعة أحدث جزء في سلسلتي هنا، والذي يتناول التحقيق العلمي في ادعاء الإعجاز العلمي في تنبؤ القرآن المزعوم بنظرية الانفجار العظيم.

وعلى شاكلة مقالاتي السابقة، سأكمل اليوم في موضوع الكون لأتكلم عن ادعاء هو الأعقد من نوعه والأكثر إثارةً للإعجاب: ادعاء الإعجاز العلمي في ذكر القرآن لسرعة الضوء في الفراغ بدقة متناهية.

موضوع اليوم هو موضوع طويل نسبيًا وذلك بسبب طبيعة الادعاء فائقة التضليل والتعقيد. ولهذا، أنصحك عزيزي القارئ بتخصيص خمسة عشر دقيقة من وقتك قبل الشروع بقراءة بقية المقال.

المرجع الفلكي والمرجع الاقتراني

قبل أن أدخل في تفاصيل الادعاء والحسابات المتعلقة به، أود أن أوضح مبدأً مهمًا في حساب مدارات الأجرام السماوية، والذي سيلعب دورًا أساسيًا في الادعاء وفي تفنيده.

إن زمن دوران القمر حول الأرض يختلف باختلاف نقطة المرجع (المنظور) التي يتم الحساب منها، وذلك بسبب اختلاف مقدار المسافة المقطوعة بين لحظات الرصد.

أي: حين تراقب القمر من مكانك على سطح الأرض، فلكَيّ تحسب دورة قمرية كاملة، ستحدد مكان القمر في سمائك (على سبيل المثال، موقعه بالنسبة للشمس)، ثم تقيس الوقت اللازم ليقوم القمر بالسفر حول الأرض ثم العودة إلى ذات المكان الذي بدأت القياس منه (على سبيل المثال، من الهلال إلى الهلال)، ويدعى منظورك هذا بالمنظور الاقتراني، وهذه الدورة بالدورة الاقترانية (Synodic).

لكن المشكلة ترد حين تراقب حركة القمر من خارج الكرة الأرضية، أو ما يعرف بالمنظور الفلكي (Sidereal)، فلو تخيلت هنا أنك تراقب حركة القمر حول الأرض، والأرض حول الشمس، فبالنسبة لك، لو بدأت بحساب دورة القمر حين يكون القمر على يسار الأرض (مثلًا)، سيتم القمر دورة كاملة حول الأرض حين يعود القمر إلى ذات النقطة على يسار الأرض (دورة فلكية).

وهنا الاختلاف: ففي الوقت الذي استغرقه القمر للدوران حول الأرض، أتمت الأرض جزءًا من دورتها حول الشمس. وهكذا، بينما أتم القمر ٣٦٠ درجة حول الأرض (دورة فلكية)، لم يعد القمر بعد لذات النقطة التي بدأ راصدنا على الأرض الحساب منها (المنظور الاقتراني).

موقع القمر من الأرض ومن الشمس في بداية الحساب، لاحظ موقع القمر بالنسبة للشمس، وال>ي سيعتمد عليه المراقب الأرضي (الافتراني)
موقع القمر من الأرض ومن الشمس في بداية الحساب، لاحظ موقع القمر بالنسبة للشمس، وال>ي سيعتمد عليه المراقب الأرضي (الافتراني)
أتم القمر هنا دورة كاملة (٣٦٠ درجة) بالنسبة للمراقب الخارجي (الفلكي)، لكن بالنسبة للمراقب الأرضي (الاقتراني)؛ لم يعد القمر لموقعه الأصلي بعد، أي أنه لم يتم دورة كاملة.
أتم القمر هنا دورة كاملة (٣٦٠ درجة) بالنسبة للمراقب الخارجي (الفلكي)، لكن بالنسبة للمراقب الأرضي (الاقتراني)؛ لم يعد القمر لموقعه الأصلي بعد، أي أنه لم يتم دورة كاملة.
هنا، عاد القمر لموقعه الأصلي بالنسبة للمشاهد الأرضي (الاقتراني) وأتم دورة كاملة، لكنه دار بقيمة (د) فوق الدورة الكاملة بالنسبة للمشاهد الخارجي.
هنا، عاد القمر لموقعه الأصلي بالنسبة للمشاهد الأرضي (الاقتراني) وأتم دورة كاملة، لكنه دار بقيمة (د) فوق الدورة الكاملة بالنسبة للمشاهد الخارجي.

وعليه، فإن زمن دورة القمر الاقترانية أطول من زمن دورة القمر الفلكية، لأن الدورة الاقترانية (٣٦٠° + د) تقطع مسافة أطول من الدورة الفلكية (٣٦٠°). وينطبق هذا التفريق المرجعي بين المرجع الفلكي والمرجع الاقتراني على كل شيء يتعلق بدوران القمر والأرض: من طول المسافة المقطوعة لعدد الأيام في الشهر وعدد الأشهر في السنة. وسنجد تبعات هذا التفريق حين نطّلع على الحسابات أدناه.

نص ادعاء الإعجاز العلمي

إن أي بحث صغير على الإنترنت عن الكلمات ”إعجاز سرعة الضوء“ سيعيد لك عشرات النتائج من المواقع الإسلامية المختلفة، كل منها تختلف عن الأخرى ببعض التفاصيل الجانبية، لكن النتيجة واحدة: يذكر القرآن سرعة الضوء بدقة بالغة.

صعب علي في بداية الأمر تتبع مصدر هذا الادعاء، لكن اتضح في النهاية أن صاحب الادعاء الأصلي هو المدعو محمد دودح – طبيب أمراض تناسلية من خريجي روسيا، مصري الجنسية، وأعطى نفسه لقب ”باحث علمي“ في منظومة الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

وملخص ما جاء به دودح هو كالآتي:

”قيل في القرآن: {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ}.

التفسير: إن المسافة التي يقطعها أمر الله، المحمول من قبل الملائكة، المخلوقين من النور (أي الضوء) بيوم، تساوي مسافة ألف سنة أرضية يقطعها القمر، الذي استخدمه العرب قديمًا لقياس السنين. إذن المسافة المقطوعة من قبل القمر في ألف سنة يجب أن تساوي المسافة المقطوعة من الضوء في يوم واحد، وهو فعلًا ما تثبته الأرقام.“

كيف حسب دودح المسافة المقطوعة من قبل القمر في ألف سنة؟

الجميل في الأمر أنه لم يتطرق أيٌّ من بقية مدّعي الإعجاز العلمي ممن نسخوا عن دودح، كعبد الدائم كحيل ومحمد راتب النابلسي، للعملية الحسابية التي أصدرت مقدار هذه المسافة. فاكتفى النابلسي بجملة ”لا مجال لتفصيلات أكثر من ذلك من على هذا المنبر“، بينما اكتفى كحيل بالتعبير الاستحماري ”بعملية حساب بسيطة“، فإما أنهما على دراية أن في تلك الحسابات ما سيعود ليعض مؤخرتيهما، أو علهما لم يتمكنا من استيعاب الحسابات الملتفة حول نفسها التي نشرها دودح فاختارا أن يتركاها خارج نسختيهما وأن يسلّما بما ورد عن غيرهما. لحسن الحظ (وسوء حظهما)، تمكنت من إيجاد المصدر الأصلي لهذا الادعاء بأرقامه وحساباته كما كتبه دودح، والذي يمكن تلخيصه كالآتي:

اعتبر دودح ”أداة“ قياس الشهر والسنة هي القمر ومداره حول الأرض كما فعل العرب القدامى، واستخدم في حسابه للشهر القمري الدورة الفلكية، أو ما أسماه ”الشهر الحقيقي“ أي ٢٧٫٣ يومًا في الشهر، وفيه يفصل الحساب بشكل يمكن تتبعه، وهو كالآتي:

كي نصل للمسافة المقطوعة من قبل القمر في ألف سنة، نقوم بإيجاد حاصل ضرب سرعة القمر المدارية بالمدة الزمنية المطلوبة.

  • طول الشهر الفلكي ٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨ يومًا.
  • إذن طول الشهر الفلكي في الثواني = ٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨ يومًا × ٨٦٤٠٠ ثانية (٢٤ ساعة × ٦٠ دقيقة × ٦٠ ثانية) = ٢٣٦٠٥٩١٫٥٠٠٠٣ ثانية.
  • سرعة القمر المدارية هي ١٫٠٢٢٧٩٤٢٧٢ كم/ث.

يمكن تحليل هذه السرعة لمركبتين: مركبة السرعة الزاوية، ومركبة السرعة القطرية. اقتباسًا من تأليف دودح: ”والمعلوم أن السنة النجمية [أي الفلكية] حاليًا = ٣٦٥٫٢٥٦٣٦ يومًا، ولذا يمكن حساب الزاوية التي يضيفها بالنسبة لنجم بعيد كل دورة حول الأرض: Ø = (شهر نجمي/سنة نجمية) × ٣٦٠ = ٢٦٫٩٢٨٤٧٨١٧ (حوالي ٢٧) درجة، ونسبة مركبة السرعة الوسطية للقمر في الاتجاه الأصلي بعد دورة كاملة (جتاØ) = ٠٫٨٩١٥٧٢٥٤٢٣“.

بناءً على ذلك، ”السرعة الحقيقية“ للقمر في مداره بالنسبة للأرض هي ١٫٠٢٢٧٩٤٢٧٢ × جتا٢٦٫٩٢ = ٠٫٩١١٨٩٥٢٨٩٣٣ كم/ث.

  • إذن، المسافة التي يقطعها القمر في دورة كاملة له حول الأرض هي: ”السرعة الحقيقية“ للقمر × مدة الشهر الفلكي (دورة كاملة) في الثواني = ٠٫٩١١٨٩٥٢٨٩٣٣ × ٢١٥٢٦٤٥٫١٩٦٦٥٤٩٧ = ٢١٥٢٦٤٥٫١٩٦٦٥٤٩٧ كم.
  • هناك ١٢ شهرًا في السنة.
  • ومنه، المسافة التي يقطعها القمر في ألف سنة = عدد الأشهر × مسافة الشهر الواحد = ١٢٠٠٠ × ٢١٥٢٦٤٥٫١٩٦٦٥٤٩٧ = ٢٥٨٣١٣٤٧٢٢٦٫٩ كم.

بما أن مسيرة الألف سنة تساوي يومًا واحدًا عند الله، إذن لو قسمنا مسافة الألف سنة على عدد الثواني في اليوم الفلكي الواحد، سنحصل على سرعة سفر ”أمر الله“ والذي تحمله الملائكة، أي سرعة سفر الملائكة المخلوقة من نور.

  • عدد الثواني في اليوم الفلكي الواحد = ٨٦١٦٤٫٠٩٩٦٦ ث.
  • سرعة سفر ”أمر الله“ = (٢٥٨٣١٣٤٧٢٢٦٫٩) ÷ (٨٦١٦٤٫٠٩٩٦٦) = ٢٩٩٧٩٢٫٤٥٨ كم في الثانية.
  • سرعة الضوء في الفراغ = ٢٩٩٧٩٢٫٤٥٨ كم في الثانية.
  • سبحان الله.

إن وجدت بعض الصعوبة في تتبع الحسابات أعلاه، فلا تقلق. العلة ليست بك، بل بالحسابات، وهذا ما سأوضحه في الفقرات التالية.

التحقيق العلمي والرياضي في الادعاء

كما نعلم، فإن أبسط طريقة للتحقق من ادعاء علمي أو رياضي ما هو أن تتتبع المنهجية المطروحة بنفسك وأن تتحقق من صحة ما ورد عبر إعادة الحساب بنفسك وفقًا للمنهجية المطروحة – وهذا أساس المنهجية العلمية – للتحقق من نتيجة البحث. ولهذا، قمت ”بعملية حساب بسيطة“ (كما قال كحيل) ووجدت أن سرعة الضوء المحسوبة عبر المنهجية القرآنية المطروحة هي: ٣٦٣٢٩٠٫٨٨٥٨٠٦ كم في الثانية.

وهذا كم من الهراء.

كيف حدث ذلك؟

على عكس مستحمري العقول من رجال الدين، لن أختلق الأعذار هنا للتملص من مسؤوليتي العلمية في تفصيل حساباتي، وسأقوم الآن بتسليط الضوء على جميع النقاط والقيم الواردة في هذا الادعاء، حتى نتتبع معًا بنود هذا الادعاء ونرى كيف انتهى الأمر بالنتيجة المختلفة أعلاه بدلًا من النتيجة الملفقة في بحث دودح.

أولًا: الأخطاء العددية

١. سرعة دوران القمر حول الأرض:

استخدم دودح القيمة ١٫٠٢٢٧٩٤٢٧٢ كم/ث لتعبر عن السرعة المتوسطة لدوران القمر حول الأرض، وهي قيمة مضبوطة للغاية، ولعل هذا أول ما قد يثير شك الملمّين بعلوم حسابات المدارات الفلكية من القرّاء. أنّى لدودح هذا الرقم عالي الضبط؟

إن الرقم المعتمد من قبل وكالة ناسا لا يتعدى أكثر من ثلاث خانات بعد الفاصلة العشرية، وهو اليوم بقيمة ١٫٠٢٢ كم في الثانية، وتعتمد وكالة الفضاء الأوروبية قيمة ١٫٠٢٣ كم في الثانية، فكيف حدد دودح هذه القيمة لحدود تسع خانات بعد الفاصلة؟

لقد بحثت عن القيمة الواردة في ادعاء دودح عبر الإنترنت لساعات، ووجدت أن جميع النتائج تعود لصفحات الإعجاز القرآني، باللغتين العربية والإنجليزية، مما يدل على أن مصدر هذا الرقم هو دودح نفسه، ولا أثر لهذا الرقم في أي مقال علمي أو مرجع معتمد.

هل يمكن أن يكون دودح قد تلاعب بالخانات الصغيرة لهذا الرقم لأجل هندسة القيمة النهائية؟ لأجل حسم الأمر، سأقوم الآن بحساب متوسط سرعة دوران القمر حول الأرض بنفسي باستخدام المعادلة المعتمدة بهذا الشأن.

يمكن حساب متوسط السرعة المدارية لجرم سيار (ع) ذي مدار دائري باستخدام المعادلة التالية:

حيث يعبر (أ) عن نصف المحور الرئيسي للمدار (بالمتر)، ويعبر (ز) عن الدور المداري (بالثواني).

لكن بحكم كون مدار القمر بيضاويًا، وليس دائريًا، يستلزم أخذ الانحراف المداري للقمر بعين الاعتبار على الشكل التالي:

حيث يعبر (ن) عن مقدار الانحراف المداري للجرم الساتل.

إن القيم المعتمدة علميًا للمجاهيل السابقة في حالة القمر هي كالتالي:

  • أ = ٠٠٠ ٣٩٩ ٣٨٤ متر
  • ز = ٢٫٣٦٠٥٩١٥ × ٦١٠ ثانية
  • ن = ٠٫٠٥٤٩

بتعويض هذه القيم في المعادلة أعلاه:

القيمة ١٫٠٢٢٣٨٣٢٥٥ كم/ث، هي الأقرب لسرعة دوران القمر حول الأرض، وليس القيمة التي ابتدعها دودح في ادّعائه. وإن هذا التصحيح وحده كافٍ لإخراج دودح عن نتيجته المرجوة بمقدار ١٢٠ كيلومترًا.

لكننا لم ننتهِ بعد.

٢. عدد الثواني في اليوم الفلكي:

القيمة الثانية التي يزورها دودح في ادعائه هي قيمة عدد الثواني في اليوم الفلكي. يدّعي دودح أن القيمة المضبوطة لعدد الثواني في اليوم الفلكي هو ٨٦١٦٤٫٠٩٩٦٦ ثانية. مجددًا، لم أجد أي مصدرٍ للقيمة هذه، ولا يرجع البحث عنها إلا لصفحات الإعجاز المختلفة.

في الواقع، القيمة الصحيحة لعدد الثواني في اليوم الفلكي هي ٨٦١٦٤٫٠٩٠٥٤ ثانية كما ترد في قاعدة بيانات الثوابت الفلكية الديناميكية لجامعة غلاسغو في بريطانيا وغيرها من المراجع المعتمدة. قد يبدو الاختلاف تافهًا، لكنه يحرف النتيجة النهائية عن سرعة الضوء المعتمدة بما يكفي للإطاحة بادعاء التطابق.

ثانيًا: الخلط بين المناظير المختلفة

كما بدأت مقالي هذا بالتفريق بين المنظور الفلكي والمنظور الاقتراني، يقوم مدّعي الإعجاز بالأمر ذاته، وذلك لسبب مهم. يدّعي دودح أن الكلمات ”مما تعدون“ في الآية السابقة دلالة على أن الجزء الأول من الحسابات (الجزء الذي يتعلق بالمسافة التي يقطعها القمر) يجب أن يتم من منظور أهل الأرض، أي المنظور الاقتراني، بينما يدل لفظ ”عند ربك“ أن الجزء الثاني من الحسابات (الجزء الذي يتعلق بتحويل الألف سنة من عد البشر ليوم من منظور الله) يجب أن يتم من منظور الإله، وهو المنظور الفلكي المستقل عن الرؤية الأرضية. لكن هل يلتزم دودح بهذا التفريق في حساباته؟ لنرَ:

المسافة التي يقطعها القمر في ألف سنة = سرعة مدار القمر × عدد الأشهر في ألف سنة × عدد أيام الشهر × عدد الثواني في اليوم × جيب تمام الزاوية بين محصلة السرعة بعد دورة فلكية ومحصلتها بعد دورة اقترانية:

كما نعلم، فالآية تخبرنا أن الألف سنة هي مما نعد نحن، وهذا ما يؤكده دودح في ادّعائه، وبما أننا نعد الشهر من الهلال إلى الهلال كما نراه من سطح الأرض، فالصواب أن نستخدم الشهر الاقتراني (والذي يساوي ٢٩٫٥٣٠٥٨٨ يومًا)، وإلا فعملية الحساب خاطئة. بناءً على ذلك، يصبح الحساب الصحيح (رياضيًا) كالآتي:

ثالثًا: التلفيق الصريح واستحمار العقول

إن كنت من الملمين بعلوم الفيزياء والرياضيات، فأعتذر عن التأخير في تناولي هذه النقطة، إلا أنني فضلت أن أترك الأفضل (أو بالأحرى الأسوأ) للآخر. نعم، سأتكلم الآن عما يدور في رأس العديد: ما محل جيب التمام من الإعراب هنا؟

المتوقع أن تكون عملية حساب كهذه بسيطة: لديك سرعة سفر القمر في مداره، تضربها بمقدار ألف سنة من تعداد البشر لتحصل على المسافة التي يقطعها القمر في ألف سنة. لكن نتفاجأ بوجود قيمة أخرى، ألا وهي جيب تمام الزاوية الناتجة عن فرق متجه السرعة القمري بين موضع القمر في نهاية شهر فلكي، وبين موضعه في نهاية شهر اقتراني. إن بدا هذا الأمر لك مبتذلًا وغير ضروري، فهذا لأنه فعلًا كذلك.

ويختلف نوع الهراء باختلاف مصدر الهراء، فمثلًا يدّعي موقع الشبكة الإسلامية أن جيب التمام ضروري لأن ”وجود الشمس سيغير الخصائص الجاذبية للفضاء والوقت، [وبالتالي] يجب أن نعزل تأثير جاذبيتها من على النظام الأرضي-القمري بأن نتجاهل دوران النظام الأرضي-القمري حول الشمس“. ويقوم الكاتب بهذا من خلال ضرب سرعة القمر المتوسطة بجيب التمام آنف الذكر – لا تسألني عن العلاقة! في حين اخترع دودح مركبتين متجهتين للسرعة المدارية وجعل جيب التمام ضروريًا للحصول على ”المركبة المماسية“ أو ما اعتبره ”السرعة الثابتة من السرعة الوسطية للقمر“.

وهذا كلام فارغ.

فأولًا، السرعة المدارية عبارة عن كمية قياسية (scalar) وليست متجهة (vector)، وهذا يعني أنه لا يمكن ”تحليلها“ إلى مركبتين، مهما أردت فعل ذلك. وفي أي حال من الأحوال، فإن مركبتي السرعة الزاوية للقمر حول الأرض تعتمدان على تأثير الجاذبية من الشمس والأرض والقمر معًا، ولا علاقة لها بالفارق بين مناظير القياس المختلفة.

أما ثانيًا، فكما رأينا، مهما اختلف السبب المزعوم، إلا أن النتيجة الثابتة هي ضرورة إدخال هذه القيمة في المعادلة كي نصل للسرعة المطلوبة، والتي تعتمد على شيء واحد وهو الزاوية الحاصلة بين متجه السرعة القمري بين موضع القمر في نهاية شهر فلكي وبين موضعه في نهاية شهر اقتراني. وهذا كل ما يلزم معرفته لأجل تفنيد هذه النقطة رياضيًا.

أعتبر هذا التفنيد هو الأقوى من بين كل ما ذكر، وذلك لأنه يعتمد على خاصية رياضية أساسية، وهي:

إذا كانت: ع × ز = ف فإن: ٢ (ع × ز) = ٢ ف، وكذلك: ١/٢ (ع × ز) = ١/٢ ف، وبشكل عام: س (ع × ز) = س (ف) حيث (س) ثابت عددي حقيقي.

فمثلًا، المسافة المقطوعة من قبل جسم بسرعة ١٠ أمتار في الثانية خلال ١٠ ثوانٍ هي ١٠ × ١٠ = ١٠٠ م.

في حال تراجعت سرعة الجسم إلى نصف السرعة الأصلية، سيقطع الجسم نصف المسافة خلال الزمن ذاته:  ٥ × ١٠ = ٥٠ م.

وبما أن المعادلة التي اشتقها دودح في ادّعائه عبارة عن معادلة رياضية (وليست تجريبية) فيتبع أن ذات المبدأ الرياضي سينطبق عليها. لنجرب:

نعلم أن الزاوية بين المتجهين تعتمد على موقع القمر بالنسبة للشمس والأرض بعد انتهائه من دورة فلكية كاملة كما في الصورة أدناه. ونعلم كذلك أن زمن هذه الدورة يعتمد على سرعة القمر في مداره. فلو كان أسرع، لأتم القمر دورته في وقت أقل، وبالتالي تكون الزاوية الناتجة أصغر، ولو كان أبطأ لأتم القمر دورته في وقت أكبر، وبالتالي تكون الزاوية أكبر، وعلى المعادلة المشتقة من قبل دودح أن تعكس هذه التغيرات بحيث يبقى الطرف الأيمن معادلًا للطرف الأيسر في كل مرة. لنجرب:

١. يمكننا الحصول على قيمة الزاوية المطلوبة من خلال قسمة عدد الأيام في الشهر الفلكي (دورة قمرية واحدة) على عدد الأيام في السنة الفلكية الكاملة، ومن ثم ضرب الناتج بـ٣٦٠ للحصول على النسبة بالدرجات.

  • عدد الأيام في السنة الفلكية ثابت، وهو ٣٦٥٫٢٥٦٣٦٠٤١٧ يومًا.
  • في الحالة الطبيعية، يستغرق القمر للقيام بدورة كاملة ٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨ يومًا.
  • وعليه، قيمة الزاوية في الحالة الطبيعية = (زمن دورة القمر الفلكية الواحدة بالأيام) ÷ (عدد أيام السنة الفلكية) × ٣٦٠ درجة = (٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨) ÷ (٣٦٥٫٢٥٦٣٦٠٤١٧)  × ٣٦٠° = ٢٦٫٩٢٨٤٧٨١٣٩٥°، وهذا ما ورد في حسابات دودح.

٢. لنجعل القمر أسرع من سرعته الحالية بمقدار الضعف، أي ٢٫٠٤٤ كم في الثانية. منطقيًا، سيصبح الزمن اللازم لقطع مسافة الدورة الفلكية الواحدة (وهي ثابتة) نصف الزمن في الحالة الطبيعية: ف = ع × ز، إذن: ف = ٢ع × ز كذلك. عملية رياضية بدائية.

وعليه، فإن الشهر الفلكي الجديد = (٠٫٥) × ٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨ = ١٣٫٦٦٠٨٣٠٤٤ يومًا.

إذن، فالزاوية الجديدة = (زمن دورة القمر الفلكية الواحدة بالأيام) ÷ (عدد أيام السنة الفلكية) × ٣٦٠ درجة = (١٣٫٦٦٠٨٣٠٤٤) ÷ (٣٦٥٫٢٥٦٣٦٠٤١٧) × ٣٦٠° = ١٣٫٤٦٤٢٣٩٠٦٩٧°.

وبما أن القمر يسير بضعف سرعته السابقة، فمن المنطق أن نتوقع أنه سيقطع ضعف المسافة المتوقعة خلال الزمن ذاته (ألف سنة). لنضع الأرقام الجديدة في المعادلة:

جتا(١٣٫٤٦٤٢٣٩٠٦٩٧°) = ٠٫٩٧٢٥١٥٤٣٤٩٧.

المسافة التي يقطعها القمر في ألف سنة (دون الأخذ بعين الاعتبار الخلط بين المناظير المختلفة) = ١٫٠٢٢٧٩٤٢٧٢ × ١٢٠٠٠ × ٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨ × ٨٦٤٠٠ × ٠٫٩٧٢٥١٥٤٣٤٩٧ = ٢٨١٦٥١٦٦٠٣٦٨ كم

كما نرى، مع أن المسافة الكلية المقطوعة من قبل القمر ازدادت، إلا أنها لا تساوي ضعف المسافة الأصلية.

٣. الآن، أريد الآن أن أخفض سرعة دوران القمر، ليس للنصف، بل لأقل من الثلث: ٠٫٢٩٩٢ من القيمة الأصلية بالتحديد، فتصبح: ٠٫٣٠٥٧ كم في الثانية. ستتضاعف بناءً على ذلك المدة الزمنية اللازمة لإتمام دورة فلكية واحدة بمقدار: (١ ÷ ٠٫٢٩٩٢) = ٣٫٣٤٢١ ضعفًا.

الشهر الفلكي الجديد = ٣٫٣٤٢١ × ٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨ = ٩١٫٣١١٧٢٢٨٢٧ يومًا.

وهكذا، تصبح الزاوية الجديدة = (زمن دورة القمر الفلكية الواحدة بالأيام) ÷ (عدد أيام السنة الفلكية) × ٣٦٠ درجة = (٩١٫٣١١٧٢٢٨٢٧) ÷ (٣٦٥٫٢٥٦٣٦٠٤١٧) × ٣٦٠° = ٨٩,٩٩٧٦٦٦٧٩°، أو تقريبًا ٩٠°. لنضع الأرقام الجديدة في المعادلة:

جتا(٩٠°) = صفر.

المسافة التي يقطعها القمر في ألف سنة (دون الأخذ بعين الاعتبار الخلط بين المناظير المختلفة) = ١٫٠٢٢٧٩٤٢٧٢ ×١٢٠٠٠ × ٢٧٫٣٢١٦٦٠٨٨ × ٨٦٤٠٠ × صفر = صفر.

وهذا مستحيل.

وهكذا، وبالبرهان الرياضي، يتبين لنا أن ”المعادلة“ التي اشتقها دودح في كتاباته ما هي بمعادلة بالمرة، فقد فشلت في إيجاد المسافة المقطوعة من قبل القمر في زمن معلوم وسرعة معلومة. لماذا؟ لأن قصة جيب التمام هذه لا محل لها من الإعراب، وما وُضِعت في حسابات دودح إلا لغرض واحد: التلاعب بالأرقام للحصول على النتيجة المرجوة.

إن مثل هذا التلاعب واسع النطاق يستلزم قدرة عقلية جبارة، وهذا يجعلني أتساءل: يا ترى، ما هو الدافع الذي يدفع إنسانًا لتكبد كل هذا العناء في سبيل الكذب لصالح الدين؟

الآن وقد كشفنا جميع الأخطاء الواردة في الحسابات الأصلية، لنقم بإعادة هذه الحسابات باستخدام القيم الصحيحة والمنظور الصحيح والمعادلة الصحيحة:

المسافة التي يقطعها القمر في ألف سنة = سرعة مدار القمر × عدد الأشهر الاقترانية في ألف سنة × عدد أيام الشهر الاقتراني × عدد الثواني في اليوم الاقتراني. (لا داعي لإدخال جيوب التمام لأنها بلا معنى – المسافة = السرعة × الزمن بكل بساطة).

المسافة التي يقطعها القمر في ألف سنة = ١٫٠٢٢٣٨٣٢٥٥ × ١٢٠٠٠ × ٢٩٫٥٣٠٥٨٨ × ٨٦٤٠٠ = ٣١٣٠٢٦٢٨٧٧٧ كم.

يقطع ”أمر الله“ (الذي يحمله الملك) هذه المسافة خلال يوم واحد من وجهة نظر الله (أي يوم فلكي)، وبالتالي:

سرعة الملائكة المخلوقين من نور بحسب الأرقام القرآنية = (المسافة المقطوعة من قبل القمر في ألف سنة من تعداد البشر) ÷ (مدة اليوم الرباني بالثواني) = (٣١٣٠٢٦٢٨٧٧٧) ÷ (٨٦١٦٤٫٠٩٠٥٤) = ٣٦٣٢٩٠٫٨٨٥٨٠٦ كم/ثانية.

الفرق بين هذا الرقم وسرعة الضوء الحقيقية هائل بالفعل، ولكن مثل هذه السرعة مستحيلة فيزيائيًا. وبناءً على هذه النتائج، بإمكاننا أن نستنتج أن جل هذا ”البحث“ القرآني وهذه الحسابات الملتوية والمفبركة ما هي إلا هراء عبثي لا مكان لها من الصحة. مجرد أرقام مدروسة قام إنسان مغرض باللعب بها وفبركة علاقات مختلقة بينها لإثبات صحة دينه بطريق الكذب و الدجل والتلفيق.

عزيزي القارئ، إن أعجبك موضوع هذه السلسلة وأردت أن ترى المزيد من التحقيق العلمي خلف ادعاءات الشيوخ ومدّعي الإعجاز العلمي، أو لديك خطبة أو محاضرة إسلامية اختطفت طابعًا علميًا زائفًا وتريد أن تراها تحت مجهر العلم والمنطق، يمكنك مراسلتي على صفحتي الشخصية وسأقوم بإضافة طلبك للسلسلة وتناول موضوعها في المستقبل.

مقالات إعلانية