in

دخلك بتعرف هذه المدينة حيث يتعين عليك استئصال زائدتك الدودية حتى تتمكن من العيش فيها؟

هل بإمكانك تخيّل أن تضطر في يوم من الأيام إلى استئصال زائدتك الدودية فقط لتكون مؤهلا للعيش في مدينة ما؟ ذلكم بالضبط ما يتعين على سكان (فيلا لاس إستريلاس) –تلك المستعمرة الشيلية الصغيرة في القارة القطبية الجنوبية– القيام به من أجل أن يُسمح لهم بالإقامة هناك لمدة طويلة.

قبل أن تتمكن من استعياب شرط غريب على شاكلة هذا الشرط الذي يجد سكان (فيلا لاس إستريلاس) أنفسهم مجبرين على الخضوع له، يجب عليك عزيزي قارئ «دخلك بتعرف» أن تعرف بعض الأمور الأساسية عن هذه المستعمرة:

باختصار، يعتبر هذا المكان أقرب ما قد يمنحك لمحة عما تبدو عليه الحياة في كوكب آخر على الأرجح، إنه يقع بعيدا جدا عن أقرب حضارة بشرية في العالم، والظروف المناخية فيه قاسية جدا لدرجة أن كل من يتقدم بطلب للسكن فيه يجبر على اجتياز اختبار نفسي طويل من أجل إثبات أهليته في البقاء والعيش هناك لمدة طويلة.

في الشتاء، يُدفن المكان كله تحت أمتار من الثلوج الكثيفة، وتحل محل ساعات ضوء النهار مجرد دقائق معدودة من الشفق، أضف إلى هذه التوليفة القاسية درجات الحرارة التي يكون متوسطها -2.3 درجة مئوية والتي تصل في أشهر الشتاء الطويلة إلى -47 درجة مئوية، مما يجعل من الخروج خطوة واحدة خارج المنازل التي تشبه الحاويات أمرا شبه مستحيل.

يعيش في مستعمرة (فيلا لاس إستريلاس) الآن ثمانون نسمة، ومعظمهم أفراد عائلة الجنود العاملين في القاعدة الجوية العسكرية الشيلية الموجودة هناك وبعض العلماء والباحثين وعائلاتهم الذين يأتون ويرحلون بشكل دوري، وما يميز جميع سكان هذه المستوطنة هو عدم امتلاكهم للزائدة الدودية، ويعتبر السبب الأول في إجبار السكان هنا على إزالة هذا العضو هو كونه ”مسبباً للمتاعب“ وقد يضع أياً كان في أي وقت في حالة استعجالات طبية في هذه المنطقة التي تبعد عن أقرب مستشفى بمسافة ألف كيلومتر، مما يجعل الأمر تدبيرا وقائيا لتفادي حوادث وفيات هم بغنى عنها.

الوصول إلى هذه الأرض المتجمدة:

لافتة الترحيب بالوافدين إلى (فيلاس لاس إيستريلاس) - صورة: Peter Wan/BBC
لافتة الترحيب بالوافدين إلى (فيلاس لاس إيستريلاس) – صورة: Peter Wan/BBC

لدى الوصول، ترحب بالوافدين إلى هذه المستوطنة إشارة ترحيب وكذا عمود يحمل لافتات تشير إلى أقرب المدن إليها والمسافة التي تبعدها عنها، من بينها تلك التي تشير في اتجاه بيكين وتقول: ”بيكين: 17501 كيلومتر“.

يوجد في في المدينة المتجمدة طريق حصوي وحيد يعتبر المدخل والمخرج الوحيد من وإلى المدينة، وعند تحليق المسافرين من أقصى جنوب الشيلي قدوما إلى هذه المستوطنة، كل ما يستطيعون رؤيته من خلال النوافذ الصغيرة والمخدوشة لطائرة (هيركيليس سي-130) الضخمة هو مئات الكيلومترات من الظلام والمحيط البارد، حيث قد يأتيهم الموت في لحظات.

عندما زارت قناة الـBBC هذه المستعمرة في شهر يناير الفارط، كان البَرَد يتهاطل بكثافة، وكانت المباني القاعدية، التي تشبه كثيرا الحاويات العملاقة، مجاورة لكتل صخرية بينما ربطت بينها شبكة من الأنابيب. من الصعب تفادي الرائحة القوية في بعض الأماكن: وهي مزيج من دخان المحركات والنفايات الكيميائية، وذلك ما يبدو عليه العيش في مكان صناعي.

غير أن الجانب الداخلي للمباني مغاير تماما لخارجها، وعلى الرغم من بساطتها فإنها مريحة جدا ودافئة، وتتضمن جدرانها على تحف تذكارية وصور لبعثات وزوار سابقين للمنطقة، كما توجد لافتة واحدة تخلّد زيارة (ستفين هاوكينغ) للمكان.

كيف تبدو الحياة عليها بالنسبة لسكانها؟

تقع هذه المدينة المتجمدة على جزيرة الملك (جورج) على بعد 120 كيلومتر عن ساحل القارة القطبية الجنوبية، مع كون أقرب مستشفى على بعد مسافة 1000 كيلومتر، مما يعني أن استئصال الزائدة الدودية للسكان قبل وصولهم إليها يخفض من خطر الوفيات، وكذا الاضطرار إلى إجراء عمليات إخلاء استعجالية.

يظهر في الصورة أدناه الرائد (سيرجيو كيبيلوس)، وهو قائد قاعدة (إدواردو فري مونتالفا) الجوية العسكرية. عاش (كيبيلوس) هناك مع زوجته وابنه لمدة تنوف عن السنتين، وبينما كانت عائلته تعود بين الحين والآخر إلى الشيلي، بقي هو هناك طوال تلك المدة.

القائد (سيرجيو كيبيلوس) - صورة: Richard Fisher/BBC
القائد (سيرجيو كيبيلوس) – صورة: Richard Fisher/BBC

يقول بشأن الطقس القاسي: ”لم نتمكن هذا الشتاء من مغادرة منازلنا لأسابيع“، وأضاف: ”لقد وصلت درجة الحرارة إلى -47 درجة مئوية“.

غير أنه قال بأن عائلته تمكنت من التكيف مع المحيط الجديد، بل أنها تستمتع بمغامرتها هناك. واحد من الأفلام المفضلة لدى ابنه هو فيلم بعنوان Happy Feet، الذي يتناول قصة بطريق في القارة القطبية الجنوبية.

ابن القائد (سيرجيو كيبيلوس) - صورة: Sergio Cubillos/BBC
ابن القائد (سيرجيو كيبيلوس) – صورة: Sergio Cubillos/BBC

هل يستمتع الابن نفسه بالحياة في (فيلاس لاس إيستريلاس)؟ يجيب (كيبيلوس): ”أجل، لكن هذا بسبب كوني أنا القائد“، وأعقب جوابه بالضحك.

يعمل البقية هنا مع شركائهم، مثل طبيب القاعدة العسكرية، الذي ينصح النساء هناك بتجنب الحمل قدر المستطاع —على الأقل نساء الجنود— لأن الأمر يحمل بين طياته مجافزة كبيرة.

يوجد في مستوطنة (فيلا لاس إيستريلاس) عيادة طبية يعمل بها طبيب عام لكنه ليس بإمكانه التعامل مع العمليات الجراحية الاستعجالية ومعالجتها، ومع كون الرياح هناك تعصف بسرعة رهيبة تصل حتى 200 كلم/سا، بالإضافة إلى البَرَد وبعض جوانب المناخ القاسي الأخرى فإن الإقلاع بطائرة (هيركيليس سي-130) الحربية على مدرّج حصوي يعتبر أمرا صعبا للغاية، كما يوجد بها مركز بريد، ومدرسة صغيرة، وبنك، وبعض المنشآت الأساسية الأخرى.

مكتب البريد القديم في (فيلاس لاس إيستريلاس) - صورة: Peter Wan/BBC
مكتب البريد القديم في (فيلاس لاس إيستريلاس) – صورة: Peter Wan/BBC

يقول (سيرجيو كيبيلوس): ”يجب علينا أن نكون على أهبة الاستعداد للإبقاء على كل شخص في حالة حرجة حياً لمدة يومين أو ثلاثة، وهو الزمن الذي تستغرقه الطائرة عادة في الإقلاع من هنا“، ولنفس السبب فإن وقوع الحمل لدى النساء في المستوطنة لا يعتبر ممنوعا، لكنه مكروه ولا يوصى به.

قد تتساءل الآن عزيزي القارئ، ما الذي قد يجعل أحدهم يرغب في العيش في مكان قافر كهذا؟

تأسست (فيلا لاس إستريلاس) في سنة 1984 خلال الحكم الديكتاتوري العسكري على يد (أوغوسطو بينوتشي) كطريقة لتعزيز وجود دولة الشيلي فيما كان يعرف آنذاك بـ”القارة الشيلية القطبية الجنوبية“. ظلت عائلات متعاقبة تعيش هناك منذ ذلك الحين، وتعتبر الشيلي واحدة من دولتين اثنتين —الدولة الثانية هي الأرجنتين— التي تجعل عائلات كاملة تستقر في القارة القطبية الجنوبية، حيث أن جميع الدول الأربعة والعشرين التي تملك أراضٍ هناك في هذه القارة المتجمدة تبقي على حضورها وِِقفا على بعض الأعمال البحثية والقواعد العسكرية فقط دون العائلات.

الآن، يتعين على كل الراغبين في الانتقال للعيش في (فيلا لاس إستريلاس) استئصال الزائدة الدودية، حتى الأطفال فوق سن السادسة، والسبب الأول الذي يدفع معظم هؤلاء إلى العيش هناك هو المال، ذلك أن الحكومة الشيلية تعرض أجورا سخية على المستقرين الذين هم على استعداد لإمضاء بضعة سنوات في هذه المستوطنة البعيدة جدا، والبعض الآخر يجد كلا من عروض الحكومة السخية والتجربة الفريدة والجديدة في العيش في مكان كهذا أمراً مغرياً جداً.

أطفال يحتفلون بعيد الهالوين في (فيلاس لاس إيستريلاس) - صورة: Sergio Cubillos/BBC
أطفال يحتفلون بعيد الهالوين في (فيلاس لاس إيستريلاس) – صورة: Sergio Cubillos/BBC
الكنيسة الوحيدة في المستوطنة، التي تدار من قبل رهبان أرثوذكسيين - صورة: Peter Wan/BBC
الكنيسة الوحيدة في المستوطنة، التي تدار من قبل رهبان أرثوذكسيين – صورة: Peter Wan/BBC

على الرغم من صعوبة المعيشة في جزيرة بعيدة على سواحل القارة القطبية الجنوبية، والاضطرار إلى استئصال الزائدة الدودية دون داعٍ مَرَضي من أجل تحقيق ذلك، يتمكن العديد من سكان (فيلا لاس إستريلاس) من إيجاد متعة في القيام بذلك، تقول (ماكارينا فياريال)، صحفية وأم لطفلين وزوجة أحد الجنود الموظفين في القاعدة الجوية: ”إن الحياة العائلية التي نعيشها في القارة القطبية الجنوبية هادئة للغاية وجميلة، ذلك لأننا نقضي أوقاتا أكثر مع بعضنا البعض أكثر من ذي قبل“.

العودة إلى البر الرئيسي:

طائرة (الهيركيليس سي-130) في البر الرئيسي في الشيلي - صورة: Richard Fisher/BBC
طائرة (الهيركيليس سي-130) في البر الرئيسي في الشيلي – صورة: Richard Fisher/BBC

في رحلة العودة إلى البر الرئيسي في الشيلي، تشرق الشمس بينما تخفض طائرة الـ(هيركيليس سي-130) طاقة محركاتها، ومن خلال النظر من نوافذ الطائرة الصغيرة؛ بالإمكان رؤية اللون الأخضر وهو يغطي المناظر الطبيعية، إلى جانب الأزهار متنوعة الألوان، وهو المنظر الذي يعتبر مألوفا لدى معظم سكان الكوكب، بينما بالنسبة لسكان (فيلاس لاس إيستريلاس)، فإن التدرجات اللونية النابضة بالحياة التي تزين البر الرئيسي راحت طي النسيان تحت غطاء المنظر الشاحب للقارة القطبية الجنوبية، وألوانها التي تتميز بها وهي: الرمادي والأسود والأبيض.

قد تبدو ظروف العيش هناك صعبة، لكن المقيمين في (أنتاراكتيكا) يختبرون حياة فريدة من نوعها في تلك النقطة البعيدة جدا من العالم التي لا يتمكن إلا قلة قلائل من الناس من رؤيتها والعيش فيها.

مقالات إعلانية