in

المعرفة في مواجهة الإيمان – المواجهة بين الفلسفة الغنوصية والمسيحية

العالم المادي والعالم النوراني

بدأ انتشار المسيحية في الشرق في منتصف القرن الأول، وكانت على صراع مع الديانات والفلسفات الموجودة في العالم الروماني حينها. لكن هل كانت هذه المسيحية ذات وجه واحد؟ ماذا عن الوجوه الأخرى؟ ماذا عن الحركات التي كانت تدعو إلى المعرفة والفهم لا إلى الإيمان والتسليم؟ ومن انتصر في نهاية الأمر؟

الرسالة التي نادى بها المسيح كما وصلتنا من خلال الأناجيل التي قامت الكنيسة الرومانية باختيارها لنا، يمكن تلخيصها بنقاط رئيسية، هي أن المسيح هو المخلص ذو الطبيعة والأصل الإلهي، وُلد من مريم العذراء وعاش إنساناً ومعلماً مبشراً بقرب مجيء ملكوت الله ودعا للتوبة، ولم يكتف بذلك بل قد مات على الصليب، وبموته وقيامته من بين الأموات أنهى سلطان الموت وقام في اليوم الثالث ليعلن العهد الجديد، وبعد أربعين يوماً ”..صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، وأيضاً يأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات..“ كما ورد في دستور الإيمان، وهو نص يُتلى في كل الكنائس الأورثوذكسية والكاثوليكية.

إذاً هذه هي الرواية التي اعتمدتها الكنيسة الرومانية الأولى (الكنسية الأم للأورثوذكسية والكاثوليكية) والكنائس البروتستانتية الحديثة التي جاءت كردّة فعل واحتجاج على تصرفات الكنسية الكاثوليكية ولم تجدّد شيئاً سوى بعض الشكليات، لأنها حافظت على مصدر العقيدة نفسه، أيّ الأناجيل الأربعة ذاتها التي اختيرت فيما سبق.

لكن هناك العديد والعديد من الأناجيل التي دوّن كتابها قصة المسيح، كلٌّ حسب وجهة نظره والمدرسة الفلسفية التي ينتمي لها. فاليهوديّ جعل من المسيح ”المسيّا المنتظر الذي بشر به الأنبياء اليهود“ ولعلّ أشهرهم هو متّى، وإنجيل متّى هو أحد الأناجيل المعتمدة، وفيه تظهر بوضوح محاولات متّى الغريبة لإثباته للقارئ يهوديّة المسيح، فعائلة المسيح رغم أنها تسكن في الجليل، فهي من أصل يهودي! والمسيح، رغم عدم امتلاكه أباً أرضيّاً حسب رواية متى، إلا أنه ينحدر من نسل داود!

ماذا عن باقي الأناجيل المرفوضة كنسياً؟ نجد فيها مسيحاً أكثر أهمية من التقليدي المتعارف عليه، وهنا لا نتحدث عن وجهة نظر الإسلام منه، كما يمكن للقارئ أن يظنّ، بل نتحدث عن نظرة للإله والدين مختلفة اختلافاً شديداً عن اليهودية وعن المسيحية والإسلام التقليديين، فالإسلام اعتمد على مصادر ليست ببعيدة عن النظرة الكلاسيكية التي تقول بإله واحد يهدي العالم عن طريق رسله وأنبيائه، ويكافئ ويعاقب في الحياة الحالية والحياة المقبلة. نتحدث هنا عن الذين دعوا إلى المعرفة لا إلى الإيمان، هؤلاء كتبوا أناجيلاً تحكي قصة مختلفة عن المسيح.

الوجه الآخر للمسيح الذي سوف نتحدث عنه نابع من حركة فلسفية كبيرة نشأت ربما في القرن الأول قبل الميلاد، وانتشرت في سوريا ومصر وبعض مناطق الأناضول واليونان، كانت هذه الحركة تبحث عن مخرج فلسفي واضح ومحدد في وسط فوضى العقائد المنتشرة في تلك الأيام.

وتطرح عدة أسئلة مهمّة:

  • من نحن؟
  • من أين أتينا؟
  • أين نحن؟
  • إلى أين نحن ذاهبون؟
  • ما هو دورنا حيث نحن؟ وكيف نذهب إلى حيث نحن ذاهبون؟

للإجابة على ذلك، اكتفوا فقط بمعرفة الجواب على أول سؤالين: من نحن ومن أين أتينا؟ فأوجدوا الجواب كمخرج من كل العقائد المتناقضة والشرائع التي كادت تخنق البشرية، نحن من عالم النور، ونحن هنا مغتربون، ومهمتنا العودة لعالم النور.

كيف ذلك؟ من خلال المعرفة الداخلية لحقيقتنا الداخلية، التي تغطيها طبقات كثيرة من الكثافة المادية الشريرة، التي أنبتت الجهل، والجهل جلعنا عبيداً لإله كاذب، وجعلنا خطأة وأشراراً!

دُعي أتباع هذه الفلسلفة بالعرفانيين، وكلمة ”معرفة“ في اليونانية هي Gnosis ولذلك نجدهم في كثير من المراجع باسم ”الغنوصيون“ و”أصحاب الدعوة للغنوص“.

لم يكتف الغنوصيّون بالفلسلفة المجردة، بل أسقطوها في عدد من الأساطير والنصوص الأدبية التي توضح فكرهم وفلسفتهم، ويمكن تلخيص هذه الأساطير فيما يلي:

النور الأزلي الخالد، الآب السماوي، هو مصدر كل شيء، منه خرجت العديد من الأنوار، حتى يهوه، الذي وجد نفسه في غروره وتسلطه، وذهب بعيداً عن عالم النور، وقام بخلق العالم، وخلق الإنسان على صورة الآب السماوي، ووضع في جسده المادي قبساً من النور السماوي، وهكذا اختلط النور بعالم المادة الظلامي، وأُسِر الإنسان وأُخضِع لإرادة الله المزيّف، وأبقى الله المزيّف على جهل الإنسان ومنعه عن المعرفة، لكي يبقى هو السيد والمتسلط على الناس بالشرائع، والذي لا يقبل سواه ويعاقب كل من يخالف شريعته.

فقام الآب السماوي بإرسال ابنه ومخلوقه النوراني، يسوع، إلى العالم، ليبشر بمعرفة الآب، ويعرّف البشر أنهم ليسوا من هذا العالم، وأنهم يحملون النور نفسه الذي يحمله يسوع، وومصدره الآب السماوي. ”أنا نور العالم، من (يعرفني) لا يمشي في الظلمة.“ وأن إله هذا العالم هو الله المزّيف، السيّد الذي يحبّ العبودية، أما الإله الحقيقي هو الأب السماوي، النور الأزلي.

أما عن فكر الغنوصيين فيما يخص الموت، فكانوا يعتقدون بالتقمص، حيث تبقى الروح النورانية للإنسان عالقةً في عالم المادة الشرير، حتى يتسنير صاحبها، فحينها يتحرر ولا يعود للحياة، بل ينتقل إلى الآب مصدر كل الأنوار.

وقد رفضت الغنوصية الشرائع واعتبرتها قيداً صعباً على الإنسان، وهذا ما كرره كثيراً بولس الرسول في رسائله (والكثير من الباحثين يظنون أن لبولس خلفية غنوصيّة واضحة)، ففعل الخير ليس خوفاً من مخالفة الشريعة أو خوفاً من الله، فالغنوصيون لا يخافون الله، بل يرفضونه، ويعتبرونه إلهاً كاذباً، ويعودون إلى الأصل النوراني الأول، الذي هو خيرٌ مطلق. والخير أمر طبيعي للإنسان المستنير العارف حقيقته، أي أن الخير جزء من طبيعة الإنسان، وعليه فقط اكتشافها.

العالم المادي والعالم النوراني
العالم المادي والعالم النوراني – الإنسان يتطلع نحو العالم النوراني من خلال جدار العالم المادي الذي يمثّل حاجز الجهل الموضوع من قبل الله لأنه لا يريد للإنسان أن يعرف الحقيقة

لا يهم الغنوصيون في أناجيلهم العديدة قصة المسيح من ميلاد لصلب لقيامة وغيرها من تفاصيل سيرة حياته، فكل هذه التفاصيل تبدو أقل أهمية بكثير من تعاليمه وأقواله، فقد تخلصوا من الأسطورة التي تطلب الإيمان والتسليم المطلق، وركزوا على التعاليم الفلسلفية التي تدعو للمعرفة والفهم والتفسير العقلي.

وتخلو بعض الأناجيل الغنوصية من سرد حياة المسيح خلواً تاماً، وتتألف فقط من أقوال وتعاليم، التي يتطابق الكثير منها مع أقوال المسيح في الأناجيل الأربعة المعتمدة.

وعن حادثة الصلب ترد جملة ”لم يصلب بل شبّه لهم..“ في العديد من الأناجيل الغنوصية التي ورد فيها بعض تفاصيل حياتية للمسيح المعلم، ورفضهم للصلب كان من صُلب عقيدتهم، فهم لا يجدون لموت المسيح أي قيمة خلاصية، فالخلاص بالمعرفة وحدها، وليس من المهم الإيمان بالعجائب والخوارق.

ولعل أشهر الأناجيل الغنوصية هو إنجيل توما، الذي ورد فيه: ”عندما تعرفون أنفسكم، تُعرفون، وتفهمون أنكم أبناء الآب الحي.“ (إنجيل توما آية 3 فقرة ب) ولعلّ هذا القول يلخّص الفكر الغنوصي: معرفة النفس، فهم المصدر الذي جئنا منه. فنلاحظ فيه تركيز يسوع الغنوصي على المعرفة، والفهم بكون الإنسان ابن الآب الحي، وليس عبداً لله، الإله المزيّف خالق العالم وسيده.

انتشرت المسيحية الغنوصية بتوازٍ مع المسيحية التقليدية (الأورثو-كاثوليكية) لكن عدم تنظيم الغنوصيين لأنفسهم وانتشارهم المتباعد جغرافياً، وضعفهم السياسي والعسكري -خاصة بعد أن اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الديانة الأورثو-كاثوليكية في مطلع القرن الرابع- أدى لانقراضهم تدريجياً وبشكل مبكر في الشرق، بينما بقيت العديد من المدارس الغنوصية منتشرة في الغرب، وأشهرها الكاثار الذين كانوا منتشرين في جنوب فرنسا.

وفي حوالي عام 1200 م شعرت البابوية الكاثوليكية بخطر المقاطعة الكاثرية الفرنسية، فشنّت عليها حملة صليبية، وعندما سُئل أحد قادة الحملة: ”كيف تميّزون بين الكاثاري والكاثوليكي؟“ أجاب: ”نحن نقتل الكل، والله يميّز!“

وقد بقي تأثير الغنوصية في الفكر الحديث ثابتاً عبر العديد من الحركات السرية في أوروبا: The Hossites وThe Brothers of Free Spirit وThe Camisard وThe Anaptists وThe Waldensians، وإضافة إلى هذه الفرق السرية، أثر الفكر الغنوصي على عدد من الكتاب والأدباء، كالمفكر الألماني الصوفي Jakob Böhme مؤسس التيار الغنوصي في الفكر الأوروبي الحديث، ومن أهم المتأثرين به كان الفنان والشاعر الإنكليزي William Blake. كما كان الكاتب والشاعر الألماني Goethe متأثراً بالفكر الغنوصي، الأمر الذي يمكن ملاحظته في خاتمة كتابه ”فاوست“. ونرى مثل تلك التأثيرات الغنوصية في كتاب فكتور هوغو ”نهاية الشيطان“.

أثرت الغنوصية أيضاً في الفكر المشرقي، حيث ساهمت إلى حد كبير في حركات التصوّف الإسلامي، وبشكل خاص في الفكر الفلسلفي لمحي الدين بن عربي. بالإضافة للفرق الإسلامية غير الأورثوذكسية التي اتخذت لنفسها صفة السريّة والباطنيّة.

وفي الفكر العربي الحديث لا نجد تأثيرات غنوصية تذكر إلا عند جبران خليل جبران. ومعتقدات الفرقة المنداعية في العراق هي غنوصية بشكل كامل، ومازالت هذه الديانة تمارس في جنوب العراق، وهي لا تنتمي لا للمسيحية ولا للإسلام.

وأهم الديانات الكبرى في الشرق التي انبثقت عن الفلسلفة الغنوصية، هي ديانة النبي البابلي ماني، التي سنتحدث عنها في مقال لاحق.

مقالات إعلانية