in

عن سارة حجازي.. وعن كل مثلي حبيس هواجسه

انتحرت سارة وتركتنا.. لكن ذكراها ستظل حيّة أبد الدهر

صورة: Flycatchr/Wikimedia Commons

أنا أؤمن أن الناس يعيشون بالكلمات، ولهذا منذ بداية مسيرتي ككاتب إلكتروني منذ 5 سنوات، أحاول بقدر الإمكان تخليد كل من يستحق التخليد، وأخلد نفسي معهم، لأنني أستحق أيضًا.

أنا مثلي الجنس، وربما هذا شيء لا يستحق الذكر. لكن في أوطاننا العربية، للأسف، أبسط حقوقك الإنسانية هي أحلام، ولهذا تستحق الذكر، والافتخار أيضًا. أن تقف في وجه التيار وتقول: ”أنا هنا!“، هو أسمى شيء يمكن أن يفعله الإنسان لنُصرة ذاته.

للأسف، أنا مستضعف، مثل أي فرد في مجتمع الميم في أي دولة عربية. لسنين طويلة كنت حبيس هواجسي، حتى أتى اليوم الذي واجهت فيه نفسي، وتقبلتها. انتحبت كثيرًا، بل وواجهت أهلي بحقيقتي، ولفترة طويلة اعتقدت أنني مريض، وأن لمرضي علاج. لكن بعد فترة، اتضح أن المرض هو إيماني بالمرض ذاته، أن تُمرض نفسك لعدم تقبل الواقع، هذا أسوأ شيء قد تفعله لنفسك. وبالفعل أخيرًا قلتها للعالم في مقالي السابق: حياتي كمثلي في بلد عربيّ.

مرت الأيام والشهور ورغبتي في الخروج من القوقعة زادت أكثر وأكثر، حتى تجرأت وصارحت أهلي للمرة الأخيرة بميولي. بالطبع هددوني بإبلاغ الشرطة، بل وحبسي بأيديهم خوفًا من تلويث شرف العائلة.. خوفًا من أن أكون (الخَول) وسط أقراني من (الرجال). الآن أشتري لنفسي الوقت حتى أستقل أو أسافر. لكن الذي دمرني نفسيًّا أكثر، كان انتحار سارة حجازي، فقط بعد يوم واحد من مواجهتي المشؤومة لأهلي.

سارة كانت مثلية قاطنة بمصر، وصرحت عن ميولها في حفل مشروع ليلة الشهير، رافعة علم الراينبو. لكن مثلها مثل علاء وأقرانه، تم حبسها ظلمًا. خرجت بعد شهور من التنمر والاعتداء الجسدي في السجن، لتسافر أخيرًا إلى كندا. لكن للأسف، أشباح الماضي لم تتركها وشأنها، وبعد نضال طويل كناشطة حقوقية، انتحرت تاركة رسالة تعبر عن قساوة الحياة، لكنها تسامح.

ستقول لي أنها بالطبع لم يجب أن تنتحر، لقد حصلت أخيرًا على الحرية. لكن في الواقع لا، هي لم تتحرر من الظلم بعد. جسدها الذي تحرر، لكنها ظلت حبيسة ماضيها.

فقط ضع نفسه في محلها أيها القارئ، فقط تخيل نفسك منبوذًا في وطنك.. خائفًا من ظلام السجن على الدوام، ولا تثق في أقرب الناس إليك حتى. الشعور مؤلم للغاية، ستتمنى الموت فعلًا إن لم تُحِط نفسك بأوناس يستطيعون إشعارك بالأمان حتى تخرج من البلاد في سلام. سارة للأسف اختصرت طريق المعاناة على نفسها، لم تستطع العيش مع الآلام أكثر من ذلك، فقررت التخلص منها دفعة واحدة.

البشر مخلوقات ضعيفة للغاية، التطور جعلنا ضعفاء كي نستطيع التكيُّف بشكلٍ أفضل، لكن للأسف هذا الضعف جعلنا غير قادرين على التكيُّف بسرعة، جعلنا نتألم أكثر، حتى في فترة التعافي من الألم. لسنين طويلة قلت لنفسي أنني لا أستحق هذه الحياة، يا ليتني لم أولد من الأساس، ثم أعود وأقول لا، أنا أقوى من الظروف، والمجتمع، وحتى الحكومات السلطوية الغاشمة. كلما يأست قلت أنني أصلب من الأديان الهشّة، وأفضل من جحافل البهائم. قلت أنه حتى إذا وُلدت في العصور المظلمة لأوروبا، لكنت أنا الشمعة التي تُضيء كُدرة الجهل.

لكن ماذا يحدث بمجرد إقناع نفسي بتلك الحقائق؟ أعود مباشرة للنحيب..

مهما كنت ذكيًا ولامعًا وواثقًا في نفسك، ظلام السجن يدهسك لا محالة. سارة وصلت إلى تلك الحقيقة بعد معاناة طويلة، وكانت شجاعة لإنهاء حياتها بنفسها. نحن نريد العيش كأي إنسان، نريد فقط العيش في سلام، لا شيء آخر فعلًا.

أيها المُغاير المتدين المدافع عن أيدولوجيتك اللاهوتية، لماذا لا تتركنا وشأننا؟ لماذا لا تنصح ثم تذهب لتعبد كيانك غير الماديّ وتطلب منه حرقنا في نيران جحيمه الوهمي؟ هل دينك هشّ كفاية لتدافع عنه عن طريق إخراس الناقد، بدلًا من إبراز صحة كلامك؟ هل لهذا السبب قتلتم فرج فودة؟ هل لهذا السبب تغتالون الناس باسم الدين؟

إليك رسالة يا عزيزي المؤمن: إلهك مجرد أيدولوجية، والأيدولوجية هي مجموعة من المبادئ التي يتخذها الإنسان في حياته، كي تعمل على تسييرها بطريقة مناسبة له. خبراء علم النفس السلوكي على مدار عقود وعقود، عملوا على بلورة عشرات الأيدولوجيات الكُبرى، وصقلوها، وأوصلوها لمرحلة تحترم حقوق الإنسان، وبذلك تكون أيدولوجيات حيادية.

أما من الناحية الأخرى، أيدولوجيتك عدائية، دموية، وغير منطقية بالمرة. أيّ دينٍ هذا يأمر بقتل الناس لمجرد عدم إيمانهم به؟ وأي مسلمين هؤلاء الذين يقتلون الناقد بدلًا من محاججته بالمنطق؟ لا نحتاج للبحث عن منطقيين، لأن الأديان نفسها خالية من المنطق، خصوصًا الإسلام الأثير بالنسبة لكم.

دينك وإلهك مجرد أيدولوجية قابلة للنقد والتفنيد بالحجة والمنطق. كل كتب الشريعة والفقه وما إلى ذلك، قابلة للنقد والتفنيد أيضًا، لا يوجد شيء فوق المنطق. في النهاية الأيدولوجية تُحترم فيها المبادئ المنطقية، وتُنبذ منها المبادئ غير المنطقية. أما بالنسبة لسفك دماء المختلف معك في العقيدة، فهذا ليس فقط ضد المنطق، بل ضد الإنسانية ذاتها. أنت هكذا حولت نفسك إلى ذابح، مغتصب حقوق، وديكتاتور. أنت هكذا نصبت نفسك إلهًا على الآخرين، وأخذت على عاتقك مهمة تنفيذ أحكامه. أصبحت فجأة رسول الإله في أرض الخراب.

لسنين طويلة تمنيت الموت، ولعنت الطبيعة التي أوجدتني هكذا. لو كنت مغاير الجنس، كنت الآن متزوجًا ولديّ أسرة، ولم يكن المجتمع ليوصمني بالعار هكذا، ولكنت سعيدًا. فقد وُلدت مختلفًا، واختلافي سبب تعاستي. أنا إنسان مثل أي إنسان آخر على هذا الكوكب، أريد حياة اجتماعية سوية، أريد علاقة حب حقيقية، وأريد بيتًا وأسرة. كل ما أريده في هذه الحياة هو إعطاء الحب لطفلٍ يضيء عتمة حياتي، وزوج أستطيع معه تربية هذا الطفل، والاستمتاع بالحياة.

سارة للأسف لم تتحمل ما حدث لها، وربما لا أستطيع أنا أيضًا. لكن في يومٍ ما سأخرج من الوطن العربي، في يومٍ ما سأنال الحرية. وصدقًا، وقتها سأكون صوت كل مثليّ في هذه الأرض، وستكون رسالتي هي الافتخار بطبيعتنا الأم، والاعتزاز بكوننا نجومًا ساطعة، في كونٍ بالغ السواد.

مقالات إعلانية