توجد فئة ليست بقليلة من المؤيدين لمحمد بن سلمان اليوم؛ كانوا يومًا معارضين ومنتقدين للسعودية قبله ولمعظم سياساتها الداخلية والخارجية، ومن هذا المنبر «دخلك بتعرف» التي لطالما انتقد السياسات المكبلة لأبسط الحريات والحقوق. لطالما انتقد سياسات حولت حياة الكثيرين من المواطنين السعوديين إلى سجون، خاصة النساء، ولطالما كان ضد التجييش الطائفي والديني وضد الإسلام السياسي والفقه السلفي والوهابي.
قد يكون البعض مستغربًا: كم من الأموال تلقت «دخلك بتعرف» لتنشر مقال يؤيد محمد بن سلمان وتكتب مقالًا يمدحه؟ ولو نشرت بعض الإيضاحات عن رأيي بما يخص القضية الفلسطينية لتساءلوا: كم دفعت المنظمات الصهيونية الماسونية لهم؟ ولو أشرت إلى أن الأمارات دولة علينا أن نحذو حذوها نحن باقي العرب لرأيت الشتائم تنهال والأسئلة تتكرر: كم تدفع لهم دول الخليج؟
طبعًا لا أحد يدفع لهم شيئاً.
المهم.. لماذا أؤيد محمد بن سلمان؟
منذ بضعة أعوامٍ مضت؛ كانت المنابر تضج بالخطابات الموجهة للشباب تحثهم على الجهاد والاستشهاد وتضحك على المغلوبين، وتعدهم بالحور العين وجلسات مضاجعة تستمر معهم لسنين.. من كان يتخيل أن تختفي هذه الخطابات بهذه السرعة؟ من كان يتخيل، وفي عِز الغزو الإرهابي لكل دول المنطقة، أنّ تكون السعودية المحارب الأساسي لهذا الغزو بعد فترة قصيرة؟ أين شيوخ الإرهاب اليوم وأين المحرضون وخطباء المساجد ومشايخ الوهابية والإخوان؟
لماذا أؤيد محمد بن سلمان؟ لأنني كنت كارهًا لكل هذه المظاهر التي تصب الزيت على النار مشعلة الحركات الجهادية والانقسامات الدينية في المنطقة، ولكن ماذا حصل منذ أن أتى بن سلمان؟
مشايخ الوهابية ممن كانوا يبثون هذه الأفكار هم اليوم معتقلون وسجناء، والذي لم يتم اعتقاله قد غيّر خطابه الديني كليًا، بعد أن كانت الدعوات على أمريكا واليهود والنصارى تصدح من الحرم المكي، رأينا الإمام السديس العام الماضي يمدح أمريكا ويقول بأنها تقود العالم نحو السلام والتقدم، وغيره من أئمة الحرم المكي تم اعتقالهم مثل صالح آل طالب.
من كان يكره السلطة الدينية في السعودية ذات يوم لا بد من أنه ممتن لمحمد بن سلمان، فالسلطة الدينية المتمثلة في «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» قد اختفت، من كان يكره السعودية القاتلة لحقوق وحريات النساء يؤيده اليوم لأن الحقوق والحريات تزحف تدريجيًا إلى المجتمع السعودي، ومُجددًا ماذا حصل برجال الدين الذين كانوا يذمون هذه الحريات البسيطة مثل قيادة السيارة والاختلاط؟ كما قلت لكم إما أنهم في السجون أو تغيرت خطاباتهم.
ماذا حصل للأموال الطائلة التي كانت تُنفَق على الدعاية الإسلامية المتطرفة حول العالم؟ قرر بن سلمان منع تمويل هذه الحملات والدعايات. ماذا حصل للمناهج الدراسية المتخلفة التي تركز على التربية الدينية للطالب؟ يقوم محمد بن سلمان بتغييرها لمناهج غربية حضارية.
ماذا حصل لتمويل الجماعات الانفصالية في سوريا؟ توقف أيضًا وشاركت السعودية مع التحالف الدولي في القضاء على تنظيم الدولة الاسلامية.
ماذا فعلت السعودية في ليبيا؟ لولا الدعم الكبير الذي قدمته السعودية والإمارات لخليفة حفتر في ليبيا في حربه ضد القاعدة وداعش والإرهابيين لمالت الكفة لصالح الإرهابيين، خصوصًا مع الدعم الذي كانت تقدمه قطر وتركيا ماليًا وعسكريا (بعض السفن التركية الحاملة للأسلحة والمتوجهة إلى ليبيا تم إيقافها في مياه اليونان، أضف إلى ذلك أن التدفق الهائل لمقاتلي داعش الليبيين والتونسيين وغيرهم إلى سوريا والعراق كان يتم بمساعدة كبيرة من تركيا).
ماذا عن مصر؟ أنقذت السعودية والامارات مصر من براثن الإخوان المسلمين: تحولت مصر لمعقل الإرهاب في فترة قصيرة، وكان مرسي كالمهدي المنتظر بالنسبة لهم، فهو الذي فور أن وصل إلى الحكم أفرج عن المعتقلين الإسلاميين المتورطين في قضايا إرهاب، فقد دعمت السعودية والإمارات بشكل هائل الدولة المصرية لمحاربة الإرهاب في سيناء.
خلّص محمد بن سلمان وبن زايد مصر وليبيا من الإرهابيين وجففوا المنابع المتدفقة إلى سوريا والعراق، هنا سيقول قائل ماذا عن أعداد كبيرة من المقاتلين الإسلاميين في العراق وسوريا الذين كانوا من يأتون من السعودية؟ أولًا، نسبة كبيرة منهم لم تأتِ من السعودية لأنهم كانو مستقرين في مناطق متفرقة قبل الحرب السورية مثل العراق وأفغانستان، لأن السعودية تصنف القاعدة كتنظيم إرهابي وتعتقل كل المنتمين له على أراضيها، كما كانت قد هددت مواطنيها الطامحين للقتال في سوريا بأنه سيتم تجريدهم من الجنسية السعودية ومحاكمتهم.
الثورات العربية كما الثورة الإيرانية؛ بدأها أشخاص عاديون لا علاقة لهم بالإسلاميين، يطالبون ببعض العدالة والإصلاحات أو بتغيير النظام، وكان ما حصل أن ركب الاسلاميون موجتها ووصلوا من خلالها إلى الحكم، كما مثّل تصدير نموذج الثورة الإيرانية إلى منطقة الخليج بمثابة كابوس بالنسبة للسعودية والامارات، فسارعتا لتدارك الوضع.
بالنسبة لليمن، سيقول قائل ماذا عن شهداء اليمن؟ ما يحصل في اليمن هو أمر محزن جدًا بلا شك، ولكن ما حصل لليمن لا تتحمل مسؤوليته السعودية والإمارات بل إيران وبشكل مباشر، حيث بدأت غارات التحالف والحصار على اليمن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء ونقل صواريخ الجيش اليمني إلى الحدود الشمالية مع السعودية، وبدء إرسال سفن أسلحة من طهران إلى الحوثيين.
بنفس المنطق الذي يحمل حزب الله مسؤولية حرب تموز 2006 على لبنان، يتحمل الحوثيون وإيران مسؤولية الحرب على اليمن.
ستقول لي ماذا عن البحرين؟ أمر مشابه لليمن، فقد تورط حزب الله اللبناني في دعم ميليشيات في البحرين قامت بعدة تفجيرات واعتداءات، وركب هو وإيران المظاهرات الشعبية المطالبة بالإصلاحات، فتحركت دول الخليج لبسط الأمن في البحرين.
ننتقل مجددًا إلى الداخل السعودي، ألقِ نظرة على فيسبوك وتويتر لتجد كمًا جيدًا من السعوديين من أصحاب الفكر الليبرالي والعلماني وكل الأفكار المختلفة، يكتبون ويغردون بحرية كاملة وينتقدون الإسلام السياسي والتطرف، ويتحدثون عن خطر الإسلام ويناقشون الفلسفة والعلوم والنظريات.. قبل بضع سنوات كان يزج في السجن بكل من يفكر بهذه الأمور علنًا، ومن الممكن جدًا أن يقام عليه الحد.
ماذا حصل لوضع الشعب السعودي كشعب إتكالي ينتظر الوظيفة الحكومية؟ يحاول محمد بن سلمان إدخال الشاب السعودي إلى سوق العمل بالقوة عبر فرض قوانين تلزم الشركات بتوظيف نسبة من السعوديين، قد تكون نتائج هذا الأمر سلبية على المدى القصير ولكنها إيجابية على المدى البعيد، وسيكون السعودي جاهزًا ليستغني عن الدعم الحكومي الذي لن يدوم له، وستستغني الدولة عن إغراق الكثيرين من شبابها بالمال حتى غير المنتجين منهم.
كما وضع محمد بن سلمان خططاً اقتصادية متنوعة ومتعددة ستساهم في تقدم ونمو الاقتصاد السعودي، وكذا الكثير من المشاريع الضخمة في مجال السياحة والصناعة والطاقة والترفيه والاستثمار والطب وغيرها، ولو نجح في تطلعاته ستكون السعودية منافساً قوياً جدًا للإمارات كوجهة سياحية واستثمارية أساسية في الشرق الأوسط.
محمد بن سلمان قالها بصراحة: لا يريد أن تبقى بلاده مكانها لثلاثين عامًا قادمًا بسبب الأفكار المتطرفة والمتخلفة، قال بأنه سيسحق هذه الأفكار ويقود السعودية وشعبها إلى مكان أفضل.
كل هذا حصل ومحمد بن سلمان لم يمض سنتين على وصوله إلى منصبه، وهو ما زال شابًا يافعًا في أوائل عقده الثالث، مع هذا لا بد لنا أن نفرح بالتغييرات التي قام بها ونتمنى له التوفيق فيما سيقوم به مستقبلًا، ونعلق آمالنا عليه ونتمنى أن لا تخيب، لأن المنطقة هذه المرة ستنحدر لما هو أسوأ، وستكون فرحتنا أكبر لو حصل الأمر نفسه في إيران، وخرج منها شخص جديد ونظام جديد بأفكار جديدة تغير السياسات الداخلية والخارجية.
الأعمدة الداعمة لمحمد بن سلمان هي ثلاثة، النظام الإماراتي، وهو نظريًا نظام مستقر وباقٍ ولا تهديد حقيقي لوجوده، والعمود الثاني هو إسرائيل، وهذا أمر جيد جدًا لم نذكره، وهي العلاقات الخليجية الإسرائيلية التي ستكون لها آثار إيجابية كثيرة على المنطقة، فـ(نتنياهو) حليف جيد ولو أتى مكانه شخص آخر سيكون جيدًا أيضًا أعتقد، بشكل عام لا توجد أصوات اسرائيلية كارهة للخليج، ولدى بن سلمان وبن زايد علاقات جيدة مع شخصيات يهودية كبيرة في أمريكا وإسرائيل، والعمود الثالث هو (ترمب)، الذي لو خسر لصالح الديمقراطيين سيكون الحال أسوأ، لكن طالما أنه موجود فالأمور جيدة.
الأمر الذي لا أريدك أن تتوقعه هو وجود حرية سياسية أو حرية صحافة مطلقة، فالسعودية لا تناسبها الديمقراطية، الكويت هي نموذج مضحك للديمقراطية فهي تغلق محلات بيع ألعاب لأنها تبيع ألعاب شبيهة بالأصنام، كما أن مستقبلها قاتم بسبب صعود الإسلاميين والإخوان فيها مدعومين بالديمقراطية. لذلك محمد بن سلمان لن يتهاون مع أي معارضة سياسية لو وجدت، أو مع صحافة منتقدة له، وما حصل مع جمال خاشقجي مثال ذلك.
ربما ستضحك في النهاية وتكتب في تعليق أن (ترمب) يحلب السعودية وأموالها، لكنني سأقول لك أنه يضخم الموضوع بشكل هائل ويستخدمه كدعاية لكسب التأييد الشعبي في أمريكا، فتراه دومًا يردد أن صفقاته مع السعودية تنتج نصف مليون وظيفة في أميركا. في الحقيقة، لم تكن صفقة 110 مليار دولار التي حصلت منذ عام ونصف حتى حبراً على ورق، لم يتم توقيع عقود ولا حتى اتفاقات على شيء، كانت عبارة عن نوايا سعودية لشراء أسلحة كانت أصلًا قد أبدت رغبتها فيها لإدارة (أوباما)، وتتضمن النوايا كذلك إنشاء مصانع أسلحة في السعودية بمساعدة أمريكا.
في النهاية، ليس محمد بن سلمان أو محمد بن زايد ملائكة، لهم بعض السياسات الخاطئة وأذكر منها احتجاز رئيس وزراء لبنان سعد الحريري العام الماضي، واستعمال أسلحة محرمة في اليمن وغيرها مما قد غاب عني، لكن بالمجمل فإن مستقبل واستقرار المنطقة يتعلقان بشكل مباشر بجهود هذين الشخصين، وسعودية اليوم مختلفة عن سعودية الأمس.