في حال نظرت إلى خريطة للبلدان العربية الآسيوية؛ ستلاحظ أن معظم الحدود فيما بينها تبدو كأنها رسمت بالمسطرة، فهي غالباً منتظمة ومستقيمة إلى حد بعيد إلا في الأماكن التي تتضمن علامات جغرافية واضحة المعالم. لكن على عكس معظم الحدود في المنطقة، فالحدود بين الأردن والسعودية غريبة للغاية في الواقع حيث تبدو كخط ”زيك زاك“ متعرج في منطقة صحراوية وليست حتى نفطية ليكون هناك نزاع عليها.
هذا الخط المتعرج وبالأخص الزاوية الحادة الكبيرة عادة ما تسمى بـ«حازوقة ونستون» أو «عطسة تشرشل»، وكما هو واضح فالتسمية مأخوذة من اسم رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق (ونستون تشرشل)، والذي قاد بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية، ومع أن هذا الشكل الغريب للحدود قد لا يكون مثيراً للاهتمام لمن اعتاد عليه، فتسميته وطريقة نشوئه أصلاً مثيرة كفاية للاهتمام.
لماذا سمي الخط باسم «حازوقة ونستون» أو «عطسة تشرشل»؟
وفقاً للأسطورة، فالقصة تعود لكلام (تشرشل) في سنواته الأخيرة بعد انتهاء حياته السياسية، حيث ينسب له مقولة كونه رسم حدود الأردن بضربة قلم عام 1921 عندما كان في القاهرة، فوفقاً للأسطورة قام (تشرشل) بوضع الحدود بين الأردن والسعودية والعراق بمجرد رسم خط متعرج فقط على الخريطة، مع كون الحدود بين الأردن وسوريا كانت قد وضعت مسبقاً في اتفاقية (سايكس بيكو) الشهيرة والتي قسم فيها الفرنسيون والإنجليز أراضي السلطنة العثمانية مع انهيارها وخسارتها الحرب العالمية الأولى.
على أي حال وعلى الرغم من أن الحدود بين الأردن والسعودية تبدو حقاً وكأنها رسمت بشكل عشوائي ”بضربة قلم“، ومع كون (تشرشل) –الذي كان سكرتيراً للمستعمرات البريطانية حينها– يمتلك صلاحيات من هذا النوع، فالقصة في الواقع غير حقيقية، فالمقولة المقتبسة لـ(تشرشل) ليست سوى تحريف لمقولة حقيقية له في مجلس العموم البريطاني عام 1936 حيث قال: ”الملك عبد الله في الأردن تماماً حيث وضعته ظهيرة يوم أحد عندما كنت في أورشليم (القدس)“.
تتناول مقولة (تشرشل) هذه قيامه بمنح الأردن للأمير عبد الله القادم من الحجاز كمكافئة لقيامه بطلبات البريطانيين –بشكل مشابه لتنصيب أخيه فيصل ملكاً لسوريا ليهرب منها وينصب لاحقاً ملكاً للعراق– ولا تتعلق في الواقع بحدود الأردن التي لم ترسم بهذه البساطة، بل أنها كانت نتيجة مفاوضات مطولة، وحتى أنها تغيرت لاحقاً مع الزمن.
كيف تم رسم الحدود الأردنية السعودية؟
على عكس الأسطورة، فالحدود بين الأردن والسعودية لم تناقش أصلاً في مؤتمر القاهرة المقام عام 1921، وعلى الرغم من أن لـ(تشيرشيل) يد وأثر كبير في إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط بعد انهيار الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، فإن أصل نشأة دولة الأردن يعود إليه وحده، غير أن تلك الحدود المتعرجة والغريبة بين الأردن والسعودية لم تكن نتاجاً لحازوقته أو عطسته بشكل أو بآخر، بل كان لها بعد سياسي وكانت نتيجة لمفاوضات ومناوشات كبيرة جرت في المنطقة سنشرحها في الفقرات التالية بالتفصيل.
جاء مفهوم الحدود الوطنية التي تفصل بين البلدان متأخرا جدا في منطقة شبه الجزيرة العربية، فقد كانت سابقا الإمبراطورية العثمانية تهيمن على أكثر المناطق استقرارا في الشرق الأوسط، بما فيها سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، وحادت عن الخوض في قلب الصحراء العربية حيث كانت مجموعة من قادة القبائل تبسط نفوذها، هؤلاء القادة الذين كان ولاؤهم للبلاط العثماني مشكوكا فيه.
كانت الروابط بين المناطق الساحلية القابعة تحت سيطرة الأتراك والمناطق الوسطى الخاضعة لسيطرة قادة القبائل في شبه الجزيرة العربية غير واضحة المعالم، وفي تلك المناطق ذات الكثافة السكانية الضئيلة والمبعثرة هنا وهناك من البدو الرحل، لم تكن هناك حاجة لحدود وطنية واضحة المعالم بالمعنى الحديث، ولم يكن أحد يطالب بها.
قامت خرائط الإمبراطورية العثمانية بحلّ هذه المشكلة من خلال إظهار بعض الحدود حيث لم تكن موجودة في الواقع من خلال رسم خطوط ثابتة ومائلة، مما يجعلها تبدو حدودا بحرية أكثر منها صحراوية.
وما كان مهما أكثر فيما يخص هذه الحدود ”التقريبية“ التي رسمها العثمانيون على خرائط الجزيرة العربية، هو إبرازها لامتداد المناطق العربية غير الخاضعة للسيطرة العثمانية: في معظم خرائطها، تمتد مناطق العشائر والقبائل غير الخاضعة للسيطرة المركزية للإمبراطورية إلى الشمال أبعد مما وصلت إليه حدود المملكة العربية السعودية اليوم، وتبلغ هذه المناطق أوجها بصفة عامة في نقطة واحدة في الشمال الشرقي لدمشق، مما يعني أن العرب غير الخاضعين للحكم العثماني آنذاك كانوا منتشرين في مناطق واسعة في سوريا والأردن والعراق في يومنا هذا.
لقد كانت تلك المناطق آنذاك كبيرة وواسعة بحق لكنها كانت خاوية على عروشها لا تقطنها إلا أعداد قليلة من البدو الرحّل، وكانت تُعرف بالصحراء السورية.
ولو كان عالم اللسانيات (ويليام شايكسبير) —ليس (شايكسبير) المؤلف الإنجليزي الشهير— قد عاش لما بعد سنة 1915، لامتدت المملكة السعودية على الأرجح إلى أبعد من هذا ناحية الشمال، حيث كان هذا اللغوي الإنجليزي والمستكشف بطبعه قد استغل مركزه كعميل سياسي في الكويت، هذا المنصب الذي ظل يشغله منذ سنة 1909 إلى غاية وفاته، ليعقد صداقة وطيدة مع ابن سعود، الملك السعودي المستقبلي الذي كان آنذاك أمير سلطنة نجد، وهي منطقة داخلية ضمن شبه الجزيرة العربية.
كان (شايكسبير) أول مسؤول بريطاني في المنطقة يحافظ على علاقة طيبة مع ابن سعود، وأول رجل غربي يرسم خريطة لمنطقة وادي سرحان، وهي عبارة عن منخفض غني بالمياه الجوفية الذي كانت القوافل التجارية تستعمله كمحطة في طريقها إلى مختلف وجهاتها على امتداد الصحراء، والذي يقع شرق ما أصبح يعرف بـ«حازوقة وينستن»، وقد كان (شايكسبير) هو من توسل إلى ابن سعود في سنة 1914 لمساعدة البرطانيين في حربهم ضد الامبراطورية العثمانية التي وحدت صفوفها آنذاك مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
ثم في أوائل سنة 1915، في معركة ضد عشيرة الراشدي التي تدين بالولاء للعثمانيين، قُتل (شايكسبير) وقطع رأسه، وأخذت خوذته إلى المدينة المنورة ليتم تقديمها كغنيمة للعثمانيين. سمح موت (شايكسبير) بإخلاء الساحة أمام (طوماس إدوارد لاورنس) وساهمت في تغيير جذري في سياسة بريطانيا في المنطقة: حيث دعمت حكم سلالة شريف حسين بن علي الهاشمي في الحجاز وفضّلته على ابن سعود الذي كان آنذاك قائدا للثورة العربية.
على الرغم من أن العرب نجحوا في هزيمة العثمانيين في المنطقة بمساعدة (لاورنس) فإنهم لم ينالوا الأرض التي وعدوا بها، والتي كانت متمثلة في دولة عربية متحدة تمتد من حلب إلى عمان، وهو الأمر الذي ساهمت فيه بشكل كبير معاهدة (سايكس بيكو) التي عقدت في سرية تامة في سنة 1916.
ساهمت معاهدة (سايكس بيكو) في تقسيم الشرق إلى مستعمرات بين فرنسا التي نالت لبنان وسوريا، وبريطانيا التي استحوذت على فلسطين والعراق، وتم تنصيب سلالة الهاشميين ملوكاً على كل من سوريا والعراق والأردن، أما الفرنسيون فقد ظلوا يطاردون فيصل بن حسين، نجل شريف حسين الحجازي، حتى أخرجوه من سوريا في سنة 1921 فقط لينصّبه البريطانيون بعد عام لاحقا ملكاً على العراق، حيث تمت الإطاحة بالخلافة الهاشمية في انقلاب عسكري في سنة 1958.
ماتزال سلالة الهاشميين حتى يومنا هذا تحكم الأردن، وهي دولة أنشئت تقريبا بالصدفة، حيث كان فيصل بن حسين في طريقه لمد يد العون لشقيقه عبد الله في سوريا عندما طلب منه رئيس الوزراء البريطاني آنذاك (وينستن تشيرشيل) أن يتراجع واضعا أمامه احتمال تكبّد هزيمة نكراء على يد الفرنسيين كعصاً يرهبه بها، ووعداً بأن يحكم أخوه عبد الله مملكته الخاصة كجزرة يغريه بها من جهة أخرى.
كان البريطانيون يرون في الأردن منطقة ذات قيمة كبيرة لكونها ستمثل منطقة عبور بين فلسطين والعراق، كما كانت تمثل آنذاك همزة وصل للطائرات للتزود بالوقود في رحلاتها الطويلة بين بريطانيا والهند —عندما كانت الرحلات الجوية قصيرة وحاجتها للتزود بالوقود مستمرة—.
أُجبرت بريطانيا بذلك على تسوية إشكالية الحدود مع ابن سعود أمير نجد بسبب استمرار المناوشات العسكرية مع قواته الوهابية التي كانت تحتل منطقة الجوف على النهاية الجنوبية لوادي سرحان، وبينما أصر البريطانيون على وضع خط حدودي مثالي وثابت مثلما هو معمول به، اقترح ابن سعود إقامة خط حدود مرن قابل للتغير وفقا لتحركات القبائل الموسمية.
لقد كان ذلك مفهوما مثيرا للاهتمام لكنه في نفس الوقت كان جديدا وعسير الهضم على البريطانيين، وكان أفضل ما استطاعوا الاتيان به هو منطقة وسطية تغطي كل وادي سرحان تسيطر عليها الأردن من شمالها والوهابيون من جنوبها.
في نهاية المطاف، عُرض وادي سرحان كهدية لابن سعود كجزء من صفقة معقدة بشكل أساسي كتعويض له على جعل البرطانيين للعقبة ملحقة بريطانية، وفي شهر نوفمبر سنة 1925، نصت ”اتفاقية حداء“ على تنصيب حدود لا تختلف كثيرا عن الحدود اليوم بين الأردن والسعودية، أصبح من خلالها وادي سرحان جزءا من سلطنة نجد آنذاك —السعودية اليوم—، وأصبحت فيها العقبة جزءا من الأردن، وتحتم بذلك على ابن سعود أن يتخلى عن مطالبه بالحصول على معبر إلى سوريا، لكنه امتلك في نفس الوقت حق العبور متى شاء، وخسرت بهذا بريطانيا منطقة الحجاز لكنها حافظت على ميناء بحري في الأردن ووضعت حدا للتوسع الوهابي نحو فلسطين ومصر.
كُتب آخر في فصل في قصة الحدود السعودية الأردنية المثيرة هذه في سنة 1965 عندما عمل كلا البلدين على حل جميع الاشكاليات العالقة فيما يتعلق بالمناطق الجغرافية، حيث قام السعوديون بنقل مساحة 6000 كلم مربع لتصبح تابعة للأردن بينما نقلت الأردن مساحة 7000 كلم مربع من أراضيها للسعودية، قد يبدو هذا الاتفاق مكسبا للسعوديين وخسارة بالنسبة للأردنيين، لكنهم من خلاله تحصلوا على 20 كيلومتر إضافية على الشريط الساحلي جنوب العقبة.
في الواقع لم تكن لـ(تشرشل) أي علاقة بتشكيل هذا الخط الحدودي الغريب أبداً، فهو لم يكن مشاركاً في المفاوضات الأولية بين البريطانيين وسلطنة نجد، كما أنه كان قد ترك السياسة وبات في أيامه الأخيرة من الحياة عندما تم تعديل حدود البلديت ورسم الحدود السعودية الأردنية الجديدة.