في المناطق الجنوبية من المملكة العربية السعودية، وبالتحديد في منطقتي عسير وجيزان، يقطن البعض من أبناء عشيرة قحطان بقرب قرية الحبلة، ويُطلق عليهم تسمية ”رجال الزهور“، وتعود هذه التسمية إلى أنّ رجال هذه القبيلة مازالوا ومنذ قرونٍ من الزمن يزينون رؤوسهم بالأزهار الملونة المنتقاة بعناية، لا لتبدو جميلة فقط بل لتكون رائحتها زكية أيضاً.

بينما يعتقد الكثيرون حول العالم، وحتى من أبناء الوطن العربي، أنّ السعودية ليست إلا صحراء قاحلة كبيرة، إلا أنّ الحقيقة هي أنّه يمكن إيجاد 2000 نوع من النباتات المختلفة في أنحاء المملكة، ويختلف مقدار الأزهار التي يمكن مشاهدتها كل عام باختلاف معدلات هطول الأمطار، فمثلاً هذا العام وبعد الأمطار الغزيرة التي شهدتها المملكة افترشت أزهار الأكرير البيضاء الأراضي السعودية خاصةً في منطقة الحجرة، وقد تناقلت صورها المدهشة عدة وكالات أنباء وأطلقت عليها لقب ”أزهار السعادة“.

غير أن المظهر اللطيف لأكاليل الأزهار التي يضعها رجال القبيلة على رؤوسهم يتناقض بشكلٍ كبير مع تاريخ هذه القبيلة، حيث تمتلك هذه القبيلة تاريخاً صعباً ومضنياً، فمنطقة عسير التي تُعد الموطن الرئيسي لهذه القبيلة اكتسبت اسمها من عسرة تضاريسها الجغرافية، وبحسب القصص الشعبية كانت هذه التضاريس الصعبة نفسها هي ما قاد بعض عائلات قبيلة قحطان إلى القدوم إلى هذه المنطقة، حيث أتوا إلى هنا قبل 350 عاماً هرباً من جيوش السلطنة العثمانية، حيث منحتهم تضاريسها بالإضافة للقبائل المجاورة الأمان إلى أنّ تم ضمهم إلى المملكة العربية السعودية عام 1932.

على الرغم من أنّ هذا الموقع منحهم حمايةً كبيرة إلا أنّ الكثير من الصعوبات رافقته، فقد عاش أفراد القبيلة بعزلةٍ كبيرة لأنّ الوصول إليهم صعبٌ للغاية، وفي الحقيقة فإنّ قرية الحبلة اكتسبت اسمها لأن الوصول إليها ونقل المؤن والبضائع الغذائية كان يتم عبر تسلق سلالم طويلة مصنوعة من الحبال.

في عام 1990، وبهدف استغلال تضاريس المنطقة المميزة، قامت السلطات السعودية بتحويل المنطقة إلى منتزه الحبلة وقامت ببناء وسيلة نقل بالكابلات (تلفريك) من أجل تسهيل الوصول إليها، وحولت القرية إلى قرية حديثة بالكامل، لكن السكان الأصليين انتقلوا للعيش في قريةٍ حديثة تقع في الوادي، وبينما قال البعض أنّه تم إرغامهم على الانتقال إلى هذه القرية لاستغلال قريتهم الأصلية سياحياً، إلا أنّ الأرجح أنّهم انتقلوا بأنفسهم قبل ذلك.

في السابق؛ كان الرجال يقومون بجمع الأزهار والأعشاب وصناعة أطواقٍ منها، أما اليوم فيوجد في أسواق المدينة عدة محال لبيع الأزهار تبيع أطواقاً جاهزة من الزهور، حيث يأتي العديد من الرجال إلى الأسواق كل صباح لشراء الطوق الذي يعجبهم والذي سيضعونه على رؤوسهم، لكن البعض من الرجال مازال يفضل أن يقوم بجمع واختيار الأزهار وصناعة الطوق منها بنفسه، وهناك بعض النباتات والأزهار المفضلة لدى الأغلبية مثل نبات الحلبة، والريحان البري، وأزهار (ماريغولد) ”القطيفة“.

تباع أطواق الأزهار بمبلغٍ يعادل بضع دولارات، ويُعد أكثر الأطواق أناقة ذلك المصنوع من أزهار الياسمين البيضاء، ولكن أزهار الياسمين هشة جداً، لذا لحمايتها والحفاظ عليها يحفظها أصحاب متاجر الأزهار ضمن صناديق مثلجة، وبعد شرائها يمكن ارتدائها لمدة يومين.

في هذه الأسواق من النادر أن ترى أي امرأة، فعلى الرغم من أن السكان أصبحوا يعيشون ويعملون في قريةٍ حديثة، إلا أنّهم متشبثون بعاداتهم وتقاليدهم للغاية.
بالإضافة لأطواق الزهور؛ اعتاد السكان على ارتداء أحذيةٍ مصنوعة من أوراق شجر النخيل، ومازال البعض يرتدي مثل هذه الأحذية حتى يومنا هذا.

الأناقة المثالية بالنسبة لرجال الزهور هي حين يماثل لون لحاهم لون الأزهار التي يضعونها على رؤوسهم، حيث يقومون بذلك عن طريق صبغ لحاهم بالحنة، ويعتقد الكثيرون أنّ هذا يجعلهم يبدون أصغر سناً وأكثر أناقةً وجاذبية، كما يتم اختيار ألوان الأزهار وألوان الثياب التقليدية بعناية لتتناسب سويةً، وقد كانت أغلب ثياب رجال الزهور التقليدية تُخاط سابقاً في قرية بيت الفقيه اليمنية، أما اليوم فتتم صناعتها في الهند بالغالب.

لا يرتدي رجال الزهور أطواق الأزهار لأهدافٍ جمالية فقط، بل هم يعتقدون أنّه بالإضافة لجمالها فهي تحمل فوائد صحية عديدة، فالعلاج بالأعشاب شائع جداً في المملكة العربية السعودية، ويُعتقد أنّ هذه الأطواق تساعد على الشفاء من الصداع، كما يقوم العديد من السكان بوضع نبات الريحان البري في أنوفهم عندما يشعرون بالمرض، ويعتقد الكثير من الرجال أنّ الكحل الذي يضعونه على أعينهم له خصائص طبية أيضاً.

يحب رجال الزهور العيش في الجبال، فقد اعتادوا هذه الظروف المناخية التي تتيح لهم مراقبة المنطقة من نقطةٍ عالية بالإضافة للاستمتاع بالهواء النقي في الصيف، كما يقومون بزراعة البنّ والقات على أسطح البيوت، وعلى الرغم من أنّ جريمة حيازة المخدرات في المملكة السعودية تعاقب بالإعدام إلا أنّ العديد من الرجال في هذه المنطقة يقومون بمضغ القات.

البيوت التقليدية لرجال الزهور في منطقة عسير مبنية من الحجارة الحمراء والطوب، وقد كانوا يعيشون فيها حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي، كما كانت محاطة بأبراج مراقبةٍ عالية تستخدم كصوامع للحبوب من جهة ولتأمين الحماية من جهةٍ أخرى.

في داخل هذه البيوت التقليدية المهجورة؛ يمكنك مشاهدة أنّ الجدران مزينة بنفس ألوان أطواق الأزهار، هذا الفن يُسمى بفن القط العسيري، وهو فنٌ تجريدي تقوم به النساء عن طريق رسم أشكال وأنماط هندسية مختلفة ومتناسقة تضم ألواناً جميلة ولامعة بهدف تجميل وتزيين منازلهنّ، ولهذه النقوش أشكال محددة ومختلفة، كما أنّ الألوان الأساسية في هذا الفن هي الأسود والأزرق والأخضر والأحمر والأصفر، وقد تم إدراج هذا الفن في عام 2017 من قبل اليونسكو في لائحة التراث الثقافي غير المادي العالمي، كما أنّ بعض النساء تتزينّ بأكاليل الزهور أيضاً داخل منازلهن.

يقوم بعضٌ من رجال الزهور بالاهتمام حتى يومنا هذا بالمنازل التقليدية وأبراج المراقبة الأثرية المهجورة، فبعض هذه المنازل يُقدر عمرها بـ200 عام، وهم فخورون بأصولهم وتراثهم، حيث يُعلن العديد من السكان المحليين بفخر أنّ أجدادهم قد سكنوا هذه المنطقة منذ قرابة 2000 عام.

وعلى الرغم من أنّ أطواق الأزهار تُعتبر زينة يومية يرتديها الرجال كل يوم، إلا أنّ الكثيرين يقومون بالاحتفاظ بأطواقٍ أنيقة وجميلة ومميزة لارتدائها في المناسبات السعيدة كالأعراس وفي شهر رمضان، كما أنّ بعض الأصدقاء يحبون ارتداء أطواقٍ مشابهة كتعبيرْ ربما عن تقاربهم وصداقتهم.

وعلى الرغم من أنّ الزهور تمنح رجال القبيلة مظهراً رقيقاً إلا أنّهم مشهورون في الحقيقة بمهاراتهم القتالية العالية، كما أنّ أغلبهم ولمدةٍ طويلة من الزمن كان يرفض مخالطة الغرباء والسماح لهم بالتقاط صورهم، لكن وبسبب التغير الاقتصادي في المملكة السعودية فهذه الأمور تتغير بسرعة.

البعض من رجال الزهور فخورون بتقاليدهم اليوم جداً، حيث يقومون بمشاركة أطواق الزهور الخاصة بهم على تطبيق إنستاغرام، وبينما يُعد هذا المجتمع المحلي مجتمعاً محافظاً ومنغلقاً بشدة، إلا أنّ وسائل التواصل الاجتماعي مثل إنستاغرام تساهم بانفتاح المجتمع قليلاً، كما تجعل التواصل الخاص ما بين الرجال والنساء ممكناً، وهو ما يُعد محرماً بحسب تقاليد المجتمع.

يقوم الأطفال أيضاً بتقليد أبائهم وارتداء الثياب التقليدية وأطواق الأزهار، كما يقومون بارتداء الخنجر التقليدي الذي يُسمى ”الجنبية“، ويرتدي أفراد العائلات الغنية خنجراً مصنوعاً من العاج المستخلص من قرن وحيد القرن، ويشتري السكان هذه الخناجر في يومنا هذا من السوق المحلي.

يملك أحد الباعة في السوق خنجراً مصنوعاً من قرن وحيد القرن يُقدر ثمنه بـ100 ألف دولار أمريكي، ويحتفظ به داخل خزنةٍ ضخمة، ولا يبدو أنّ هؤلاء السكان مدركون لمخاطر قتل وحيد القرن.

يقوم السكان المحليون بتقديم طوقٍ من الأزهار للضيوف الذين يزورون المنطقة، كما أنّ البائعين المحليين يوفرون العديد من هذه الأطواق للسياح الذين يأتون لزيارتها، ويبدو أنّ منطقة عسير وتراثها وثقافتها المميزة ستكون في صلب الأهداف السياحية لمشروع السعودية رؤيا 2030، الذي يرسم مستقبلها بعد النفط، وبينما يعني هذا أنّ سكان المنطقة سيعيشون في رفاهيةٍ أكبر ربما في السنين القادمة، إلا أنّ هذا التطور وتحول المنطقة إلى مقصدٍ سياحي شهير قد يهدد التراث الثقافي المميز الخاص برجال الزهور.

يقطن بعض من رجال الزهور في اليمن قرب الحدود السعودية اليمنية، وهم ينحدرون من نفس القبيلة، لذا نشأ الكثير من الجدل ضمن هذا المجتمع المحلي نتيجة الحرب السعودية اليمنية المستمرة حتى يومنا هذا.
