كانت مدينة جدة السعودية ميناءً مهماً على البحر الأحمر منذ العصور الإسلامية المبكرة، أما حيّ البلد، فيُعتبر أقدم حيّ في هذه المدينة وأحد المواقع المصنفة على قائمة اليونيسكو. على الرغم من التطور العمراني الهائل الذي شهدته مدن السعودية، لكن حيّ البلد لا يزال يحتفظ بعبقه التراثي القديم غير آبهٍ بالتغيرات الجذرية من حوله.
وفي عام 2019، خصص ولي العهد السعودي 13.3 مليون دولار أمريكي للحفاظ على هذا الحي وصيانته، والذي يُعرف لدى سكان المنطقة باسم «بوابة مكة» أو «جدة القديمة».
حيّ سبق ظهور الإسلام
تشير بعض الدلائل حقًا إلى استيطان حيّ البلد حتى قبل مجيء الإسلام، فحينها عاشت القبائل هناك معتمدة على الصيد، وكانت المجتمعات البشرية تسكن بعيدة عن بعضها حتى القرن السابع عندما ازدهرت المدينة تحت الحكم الإسلامي.
خلال تلك الفترة، كان البلد مرفأ بحرياً يستقبل الحجاج إلى مدينة مكة، ويسهل إجراء المعاملات التجارية، ويصل طرق التجارة على طول المحيط الهندي منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين.
اليوم، أصبح الحي واحداً من الأحياء المزدهرة متعددة الثقافات، وفيه الكثير من الأسواق المفتوحة التي وُجدت منذ قرونٍ مضت ولا تزال قائمة حتى اليوم، بالإضافة طبعاً إلى البيوت الخشبية الجميلة التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر ميلادي، أضف إلى كلّ ذلك منظر البحر الأحمر الرائع.
بوابة مكة
منذ الأيام الأولى للخلافة الإسلامية، استضاف حيّ البلد ملايين الحجاج الذين ارتحلوا من أماكن متفرقة من العالم ليحجوا في مدينة مكة. جاء معظم هؤلاء الحجاج من شمال أفريقيا وجنوب ووسط آسيا، وجميع هؤلاء قدموا إلى شبه الجزيرة العربية عبر ميناء «جدة القديمة» النابض بالحياة. لا يبعد البلد أو جدة القديمة سوى 75 كيلومتراً عن مكة، فأصبح هذا المكان ملتقى للمسلمين من مختلف أصقاع العالم، وهكذا حصل على اسمه، بوابة مكة. في الحقيقة، يحوي البلد أيضاً بوابة حقيقية تُدعى باب مكة، وهي بوابة تاريخية أصبحت معلماً سياحياً.
خلال العقد الأول من القرن السادس عشر، عندما أصبحت جدة جزءاً من سلطنة المماليك المصرية، بُني حولها سورٌ محصن لحمايتها من الغارات والهجمات المحتملة التي مصدرها البحر الأحمر. يُعتقد أن سكان جدة هم من بنوا السور، كما بنوا أيضاً الحصون والأبراج والمدافع لصدّ أي سفينة غازية. في السابق، احتوت البلد عدة بوابات للدخول والخروج من المدينة.
لسوء الحظ، لم يبقَ الكثير من السور حتى يومنا، لكن بعض تلك البوابات القديمة لا تزال موجودة، بينما بنت الحكومات السعودية بوابات تقليدية لتحاكي الإرث المعماري لهذه المدينة. لا يزال باب مكة موجوداً، والذي سُمي كذلك لأنه يقابل مدينة مكة.
البلد اليوم
عندما تصل، ستشاهد ملصقات ملونة تُرحب السياح إلى منطقة البلد في مدينة جدة، وستلاحظ على الفور الشوارع القديمة والأبنية المؤلفة من عدة طوابق، وهي أكثر ما يميز هذه المدينة.
على بعد خطوات من مدخل البلد، وخلف بوابة جدة التي بُنيت حديثاً، ستجد المجلس، وهو المكان الذي كانت تجري فيه معظم اجتماعات السكان المحليين من الرجال، لكن إن نظرت في الجهة المقابلة من الشارع، سترى منزلاً مؤلفاً من 3 طوابق يحوي سلسلة من النوافذ والشرفات الصغيرة والمعزولة ذات أسلوب العمارة المميز، تُعرف هذه الأبنية ذات النوافذ الخشبية البارزة بـ«الرواشين»، ومجرد بحث صغير على غوغل سترى مجموعة رائعة من صور هذه النوافذ التي تميّز أسلوب العمارة في جدة عن غيره. في تلك الأبنية، كانت النساء تجلسن وتشاهدن من بعيد المتقدمين لخطبة إحداهن، فكنّ يقيمن الرجال من بعيد دون أن يظهرن للعلن.
في البلد أيضاً مقهى مشهور اسمه «ليالي تاريخية»، تحت اسمه عبارة «مقهى تاريخي». بالفعل، بإمكانك صعود الطابق الثاني لتصل إلى السطح المكشوف الذي يتيح للزوار الجلوس والاستمتاع بالعمارة الرائعة للبلد، وهناك أيضاً مكيفات هواء ضخمة لتحارب جوّ جدة الرطب.
رحلة في الزمن ضمن بيت باعشن
إلى جانب مقهى «ليالي تاريخية»، تحوي جدة مثالاً رائعاً عن المباني الخشبية ذات أسلوب العمارة التقليدي، وهو بيت باعشن. بيت باعشن هو بيت لصاحبه محمد صالح باعشن، ويقع في حارة المظلوم. هناك صور قديمة على جدران المنزل تصوّر التجار الذين انتموا لعائلة باعشن، وهناك غرفة في الداخل مليئة بالكتب والصحف والمعلومات المتعلقة بالمنطقة. بإمكانك أيضاً الجلوس أيضاً قبالة الرواشين على الواجهة الشرقية للبيت، كما يمتاز البيت بعمارته الفريدة التي تتيح دخول الهواء إلى المنزل وتحريكه لتبريد الجو. في هذا المنزل أيضاً، وفي الفناء الخلفي تحديداً، يوجد جامع ضمن مفتوح على الهواء الطلق، ويمتاز أيضاً بالزخارف العربية على جدرانه.
طريق الحج إلى مكة وبيت نصيف
هناك طريق قديم كان يتبعه الحجاج في طريقهم إلى مكة، ويُعرف أيضاً باسم شارع الذهب، وهو الشارع الذي سيمنحكم تجربة عربية فريدة من نوعها، حيث يعج الشارع بالباعة الجوالين والعربات المحملة بالمأكولات والمتاجر التي تبيع شتى أنواع المكسرات والتوابل والأحذية والمنسوجات وغيرها الكثير، وهو المكان المناسب لشراء تذكارات تقليدية. ستجد أيضاً بناء مؤلفاً من 3 ثلاثة طوابق تبرز منه الرواشين الحجازية الرائعة.
وفي الشارع نفسه، ستجد بيت نصيف، وهو واحد من القصور التاريخية في المدينة، يعود تاريخ بنائه إلى الفترة الواقعة بين عامي 1872 و1873، ويُعتبر واحداً من أهم وأشهر الأبنية في منطقة البلد. في هذا البناء بالتحديد، أقام مؤسس المملكة العربية السعودية، الملك عبد العزيز، لثلاث سنوات عندما كان في جدة وأخذ البيعة من أعيان وشيوخ الحجاز، كما استقبل فيه الملك العديد من سفراء البلدان داخل هذا المنزل. ولا يزال البناء محافظًا على رونقه حتى يومنا، حيث شهد عدة عمليات صيانة وأصبح اليوم متحفاً تحت اسم «متحف بيت نصيف».
يبلغ ارتفاع المتحف 4 طوابق، وفي داخله ممر خاص صُمم كي يتمكن الملك من ركوب حصانه أو جمله وقيادته مباشرة من الشارع إلى مكتبه الخاص في الطابق الثاني. يتفرّد هذا البناء بتصميمه المعماري، حيث يعبّر بشكل واضح عن حقبة شهدت فيها جدة تطور الفن المعماري.
أما عن الاسم، فهو يعود إلى مالكه الأصلي الشيخ عمر أفندي نصيف، وهو ينتمي لأحد الأسر المرموقة في منطقة الحجاز. كما يمتاز المنزل أيضاً بخصائص التهوية وامتصاص الحرارة كالعديد من المنازل الأخرى في المنطقة، وذلك عن طريق فتحات خاصة تساعد على دخول الهواء من كل الجهات.
هناك أيضًا مسجد الشافعي، وهو أقدم مسجد في المدينة ويُعرف باسم المسجد العمري، نسبة إلى ثاني الخلفاء الراشدين، وهو الخليفة عُمر بن الخطاب، أي أن عمر المسجد يتجاوز 1400 سنة، لكنه بالطبع شهد عدة عمليات إصلاح وإعادة ترميم، منذ مئات السنين وحتى 2009، حيث رُمم لآخر مرة.
أشياء أخرى بإمكانك تجربتها ورؤيتها ضمن البلد
إن مجرد السير في شوارع هذه المنطقة تُعتبر بمثابة درسٍ في التاريخ والفن، ستشاهد الكثير من المنازل الحجرية المرصعة بالرواشين الخشبية، والكثير من الأبراج الخشبية التي بناها التجار الأثرياء في القرن التاسع عشر.
تحوي البلد الكثير من المعالم والمباني الأثرية والأسواق والساحات والجوامع، فهناك مثلاً سوق الندى الذي يضم الكثير من المتاجر التقليدية في جدة، ويعود تاريخ بنائه إلى 150 سنة، وإن زرته خلال شهر رمضان، ستجده يعج بالناس والحركة.
هناك أيضاً مقبرة البلد، وهي من الأقسام المهمة أيضاً ضمن الحي، فهي أقدم مقبرة في السعودية بأكملها، ووفقاً للثقافة الشعبية في السعودية، فإن هذه المقبرة هي المكان الذي دُفنت فيه حواء، ويُقال أن اسم جدة يعني حرفياً «الجدة»، وهذا ما يشير إلى الاعتقاد السائد أن جدة البشر، حواء، دُفنت هنا.
على الرغم من روعة الأبنية التاريخية في البلد، لكن معظمها بحاجة إلى عمليات ترميم دقيقة. تؤم تلك المنازل المتصدعة الكثير من المهاجرين، بعضهم جاء من اليمن أو أفريقيا أو الهند أو باكستان. إن الجميل في هذا الحي هو كونه منطقة أثرية كاملة، وهو شاهد على تاريخ وثقافة الحجاز.
وفقًا لموقع Atharna، فالبلد تحوي 600 بناء ومنزل محمي لا يمكن هدمها، وفقًا للقانون على الأقل، بينما لا يبدو إنقاذ وإصلاح تلك المباني من الأولويات في السعودية. لحسن الحظ، كان محمد سعيد فارسي، أمين مدينة جدة منذ عام 1972، مؤمنًا بقيمة الفنون والآثار التاريخية، وهو الذي منع هدم جدة القديمة في زمنٍ شهدت خلاله جدة أسرع معدل نمو في العالم أجمع.
بينما أصبحت مناظر ناطحات السحاب والشوارع العريضة والمدن المتطورة في قلب الصحراء المشهد الأكثر شيوعاً عن المملكة، يبقى البَلَد معلماً تاريخياً يحمل هوية عربية أصيلة وتاريخية.